محمد قواص يكتب:

أثيوبيا - إريتريا: سرّ الربيع الداهم!

تبدو التحولات المتعلقة بالعلاقة الجديدة بين أثيوبيا وإريتريا متكاملة مع تحوّلات لافتة يشهدها العالم على نحو غير مسبوق. وما كان مستحيل الانجاز بين أديس أبابا وأسمرة جرى تحقيقه بسرعة لافتة مقارنة بعقود العداوة المتجذرة بين البلدين. فإذا ما كانت قمة سنغافورة بين دونالد ترامب وكيم جونغ أون مفاجأة لها ما بعدها، فإن القمة التي جمعت آبي أحمد وأسياس أفورقي في العاصمة الإرترية شكلت صاعقة استفاقت لها العواصم وحرضت حبراً كثيراً في العالم.

يقود رئيس الوزراء الأثيوبي الجديد آبي أحمد بلاده باتجاه سقوف طموحة عجز نظام بلاده عن اختراقها خلال العقود الأخيرة. يبشّر رجل أثيوبيا الجديد، الداخل كما الخارج، بما كان نظّر له أحمد داوود أوغلو في تركيا في بدايات عهد حزب العدالة والتنمية في السلطة من تصفير للمشاكل مع العالم، قريبا كان هذا العالم أم بعيدا.

قاد ما يشبه "الثورة" في أثيوبيا آبي أحمد إلى منصبه الجديد. دفعت الاحتجاجات الواسعة التي انتشرت في البلاد في فبراير الماضي النظام السياسي نفسه إلى حمل الرجل نحو قمة السلطة بعد رحيل حكومة هايلي ديسالين. يمثل آبي أحمد تحوّلا قد يكون إصلاحياً لا انقلابيا في أثيوبيا. ينتمي الرجل إلى قبيلة الأورومو المسلمة التي همشت عن متن السلطة في إثيوبيا رغم أن تعدادها يصل إلى 40 بالمئة من عدد السكان، ولطالما أصدرت المنظمات الدولية التقرير تلو التقرير عن الاضطهاد الذي تعاني منه. ومع ذلك يتصرف رئيس الوزراء الجديد، المنتمي إلى الأورومو، بصفته زعيما لكل الاثيوبيين معتبراً أن وقف التوتر مع العالم وصفةٌ لوقف التوتر الداخلي الذي عبرت عنه الاحتجاجات، ووصفةٌ لنقل النظام من طور ثوري متقادم إلى آخر يتّسق مع شروط الراهن ومفرداته.

يتعامل آبي أحمد مع الدوائر الإقليمية بصفتها امتدادا لنَفَسهِ الإصلاحي داخل أثيوبيا. أقفل الرجل ملف العداء والحرب مع إريتريا وهو بصدد نزع فتائل التوتر مع مصر. بادر إلى زيارة القاهرة لمباشرة سياق يحوّل سد النهضة المثير للجدل إلى مناسبة لإعادة ترميم العلاقات مع القاهرة بصفتها مسلّمة من مسلمات العلاقات الدولية لبلد يتوق إلى جوار يستدرج الأمن والسلم والرخاء وكثير من الاستثمارات.

يتموضع السلم بين أثيوبيا وإريتريا على خلفية مناخ دولي يدفع بهذا الاتجاه. لعبت الإمارات دوراً مباشراً في هذا التطور على ما يفسر رحلة ولي عهد أبوظبي الشيخ محمد بن زايد إلى أديس أبابا ورحلة زعيم إريتريا آسياس أفورقي إلى أبوظبي. وفي تلك الدينامية الإماراتية ما يمثل منحىً خليجيا مصريا لقراءة الأمن الاستراتيجي قراءة واسعة عميقة متعددة المستويات تفكك الأزمات وتعيد تركيب المشهد الإقليمي وفق قواعد أكثر حنكة ونجاعة.

تأتي اللحظة التاريخية التي حملت آبي أحمد إلى السلطة متصادفة مع لحظة تاريخية أخرى بات بها نظام آسياس أفورقي في إريتريا تواقاً للعبور نحو التسويات التاريخية. بدا أن اسمرة التي استفادت من صراعات الآخرين في العقود الأخيرة لتتطوع للعب أدوار ووظائف، لم تعد تجد سوقا كبيراً لخدماتها. وبدا أن العالم في تحولاته، خصوصا على تخوم إريتريا القريبة، لم يعد يحتمل الاستثناء الإريتري على منوال عدم تحمله لاستثنائيّ كوريا الشمالية كما إيران.

قد يجوز التنويه إلى أن محور السعودية الإمارات ومصر ومناخات دولية أخرى، تسهر بعناية على حسن صياغة التحولات في القرن الأفريقي. فإذا ما كان الضجيج حول سد النهضة يشغل القاهرة في السنوات الأخيرة، فإن التحولات الجارية في اليمن تشغل بال الخليجيين على نحو يتطلب مراعاة شاملة لمصالح كافة عواصم هذه الملفات. وقد يجوز التنويه أيضا إلى أن انشغال العالم بمسائل الهجرة والإرهاب و"الترامبية" و"البوتينية"، قد وّفر لأفريقيا، لاسيما في روافدها الشرقية وتلك المطلة على باب المندب، لحظة عبور نحو تموضعات بينيّة محلية لا تتناكف مع أجندات الدول الكبرى وحساباتها.

غير أن ما هو وردي في مشهد الانفراج الإقليمي العام حول أثيوبيا ما زال متعلقاً بشخص آبي أحمد وبقدرته على الدفاع عن حكمه وذاته وبرامجه. يعمل الرجل على رأس دولة ما زال عمقها يتحكم بمصير قمّتها. نجح آبي أحمد في إزاحة رؤوس كبرى نافذة في مؤسسات الأمن والعسكر، بيد أن محاولة الاغتيال التي تعرض لها مؤشر إلى مخاطر المشهد الجديد في أثيوبيا. تخلت الدولة العميقة التي استندت خلال العقود الأخيرة على أقلية التيغراي (6 بالمئة من عدد السكان) عن رجلها هايلي ديسالين، وبدا أنها قدمت آبي أحمد البديل على مضض. وإذا ما كان آبي أحمد يدرك حساسية وضعه على رأس البلاد ويراعي بدقة موازين القوى فيها، إلا أن القوى النافذة داخل الدولة العميقة ما زالت تملك أوراق الحل والربط، لاسيما في الملفات التي قد تهدد مصالح ونفوذ أصحاب المصالح والنفوذ.

لا يبدو أمر إريتريا في هذا الصدد بنفس مستوى التصعيد. يمسك أفورقي نظام بلاده بيد من حديد. حكم الرجل في العقود الأخيرة متخلصاً من معارضيه مقفلا السبل أمام أي تعدد أو اختلاف. اعتبر العالم إريتريا بلدا يخضع لديكتاتورية قاسية، لكنها ديكتاتورية جرى التعامل معها واستعمالها بماكيافيلية تامة. ومع ذلك يطرح أمر المصالحة مع أثيوبيا أسئلة حول دينامية نظام أسمرة المقبلة وطبيعة تأثره بمفاعيل الانفتاح مع الخارج. ولا ريب أن الحدث يعيد تسليط المجهر على شرعية نظام غرف كثيراً من عقيدة عدائه لإثيوبيا ويضع علامات استفهام حول مستقبل تلك الشرعية بعد زوال هذا العداء.

قد يوفر الصلح مع إريتريا منفذاً بحريا لأثيوبيا على البحر الأحمر من خلال ميناء عصب الإريتري الشهير. بين أن ذلك قد ينعكس على طبيعة التفاهمات السابقة التي وفرت لأديس أبابا منافذ بحرية في جيبوتي والصومال والسودان. يعيد الحدث رسم الخرائط وسوْق المسارات بما يجعل من التطور الثنائي حدثا إقليميا دوليا يغير القواعد الجيوستراتيجية التي سادت خلال العقود الأخيرة في المنطقة وتصرفت المصالح الدولية وفقها. لكن الأبرز أن مقاربة آبي أحمد الجديدة قد تؤشر إلى مغادرة أثيوبيا إطلالاتها على المصالح الإيرانية التركية القطرية الإسرائيلية لصالح استراتيجية أوسع في مقاربتها لمصالح مصر ودول الخليج ضمن مشهد دقيق ومحسوب. وقد لا يكون القصد هنا أن أثيوبيا تغير اصطفافاتها، بل أنها تستقيل من وظيفتها القديمة كبلد مستفيد بانتهازية من تناقضات الدول وخلافاتها.

يخلع نظاما أثيوبيا وإريتريا تاريخهما الثوري الذي أسس لقيام أثيوبيا على أطلال حكم أمبراطورية هيلا سيلاسي كما انفصال إقليم إريتريا ليصبح بلدا مستقلاً. وفّرت الذاكرة الجماعية للبلدين مشهدين متنافرين. واحد جمع "المناضلين" ضد الأمبراطور وآخر حوّل نفس المناضلين إلى أعداء سال بينهم دم كثير. تُسقِط أديس أبابا وأسمره هذه الذاكرة وتعيد قراءة التاريخ بمنظار حداثي يعيد رسم الصلح بملامح المصالح وحسابات الربح والخسارة.

غادرت الإيديولوجيا العالم منذ عقود وها هي تغادر ولو متأخرة فضاءات القرن الأفريقي وضواحيه.