محمد قواص يكتب:
"خيانة" داخل القيادة الروسية
كان لافتاً أن تستضيف قناة “روسيا اليوم” من يمكن أن يعبر عن المزاج الروسي الحقيقي بعد سقوط طائرة الاستطلاع الروسية في المياه المشاطئة لللاذقية في سوريا. يحمّل الكرملين الغاضب من إسرائيل تل أبيب مسؤولية الارتباك الذي أصاب صواريخ روسية يمتلكها الجيش السوري أسقطت الـ”إيل- 20”. ولئن عبّر الكرملين ووزارة الدفاع الروسية عن ذلك الغضب، وعن عدم ابتلاع موسكو للرواية الإسرائيلية، فإن ضيف القناة الروسية الناطقة باسم سياسات الرئيس فلاديمير بوتين في العالم، كشف عن غضب آخر ضد من هم في روسيا نفسها.
قال ضيف “روسيا اليوم” مدير قسم التعاون الدولي العسكري بوزارة الدفاع الروسية سابقا الفريق أول ليونيد إيفاشوف، إن هناك مسؤولين يعملون لصالح تل أبيب، وينفذون أوامرها، بدلا من تنفيذ أوامر فلاديمير بوتين. وللذي يريد التغافل عن هذا الكشف، فإن الرجل تحدث عن “خيانة في القيادة الروسية، عبر التواطؤ مع إسرائيل”.
لا يمثل الضيف الجنرال الموقف الرسمي الروسي، لكنه يمثل داخل وزارة الدفاع التي عمل بها مناخا متبرّما مما أصبحت إسرائيل تمتلكه لدى الصف القيادي في موسكو. وأن يتكلم إيفاشوف بهذه الصراحة والشفافية عن أمر حساس جدا في علاقة موسكو بتل أبيب، وعن أمر شديد الحساسية كونه متعلقا بشؤون القيادة في روسيا، فذلك لا يمكن أن يتم على قناة “روسيا اليوم”، إلا بضوء أخضر من صاحب الأمر والنهي في البلاد.
وفق تلك الرؤية يفترض مراقبة الموقف الروسي المتصاعد ضد إسرائيل في الأيام الأخيرة، ووفق هذا المعطى يجب تأمّل قرار موسكو تزويد النظام السوري بمنظومة صواريخ “أس- 300”. وقد يأخذ الأمر في إحدى واجهاته وجهة جديدة في تعامل موسكو مع تل أبيب في المسألة السورية، لكن للأمر واجهة أخرى تتعلق بموقف الكرملين من تلك القيادة في روسيا، لا سيما من ارتكبوا “خيانة” داخل متنها.
يقرأ الرئيس الروسي ببراعة خرائط التوازنات الدولية في العالم. وهو في مقاربته السورية منذ بدء التدخل العسكري الروسي في سبتمبر 2015 أظهر براعة في سلوك حواف الممكن والمتاح، وفي تجنب ما هو المستحيل. وعلى هذا سيستمر رجل الكرملين القوي في مناورة الكرّ والفرّ الراهنة المرتبطة بمسألة سقوط الطائرة الروسية دون أن يخترق أو ينقلب على متلازمة هذا الممكن وذلك المستحيل.
بيد أن المناسبة التي تحتاج إلى خطوات “محسوبة” في مقاربة إسرائيل والولايات المتحدة والحلفاء الغربيين، قد تحتاج أيضا إلى حسابات من نوع آخر تتعامل مع وضع داخلي متعلّق بمؤسسات القيادة الروسية التي بدا أن نفوذ اللوبيات الإسرائيلية قد حقق تقدما داخلها يقلق الكرملين. وإذا ما أرسل الكرملين تحذيرا شديدا ضد “مسؤولين يعملون لصالح تل أبيب، وينفذون أوامرها، بدلا من تنفيذ أوامر الرئيس فلاديمير بوتين”، فإن في الأمر قرقعة بيتية لها ما بعدها.
لن نعرف الكثير عن ظروف هذا الإنذار ومعانيه الروسية. وقد لا نعرف بشكل واضح حاسم ما سيكون عليه غضب الكرملين من تدابير تُحاكم وتُحاسب وتقتصُّ وتنفضُ عن تلك القيادة شبهاتها الإسرائيلية. لكن الثابت أن بوتين في غضبه السوري يوجه لإسرائيل غضبا من نوع آخر يروم من خلاله وقف تسلل أذرعها المالية والاقتصادية والأمنية والعسكرية داخل مؤسسات موسكو.
واشنطن تضغط على موسكو في شأن العمل على إخراج النفوذ الإيراني من سوريا، دون أن تتصاحب هذه الضغوط بخارطة طريق دولية تُطمئن روسيا وتعترف بدورها في المستقبل السوري كما دور روسيا في العالم
يودّ الرجل أن يضع حدا في عهده، وبهذه المناسبة- الهدية ربما، لاستباحة إسرائيلية للداخل الروسي بدأت منذ سقوط الاتحاد السوفييتي، ونمت وترعرعت في عهد الرئيس الأسبق بوريس يلتسين. وصل الغضب الروسي إلى حد أن يذهب نائب قائد فوج الصواريخ الروسية المضادة للطائرات في سوريا فيكتور خوستوف، ويتبرع بنقد ذاتي روسي بالقول “إن تصريحات وكلمات العزاء الإسرائيلية بهذه البساطة ستكون قليلة، بالطبع تساهلنا مع إسرائيل وأطلق لها العنان”!
لن يضع الأمر روسيا في ضفة معادية لإسرائيل. روسيا من أوائل الدول التي اعترفت بدولة إسرائيل عند قيامها قبل أن تعترف بها الولايات المتحدة. كان ذلك حين كانت اتحادا سوفييتيا بعقائد يسارية ثورية حليفة لكل حركات التمرد في العالم، فما بالك اليوم، وهي دولة بلا عقائد، تحركها براغماتية انتهازية مفرطة، وتكاد تكون مؤيدة لكافة تيارات اليمين المتطرف والجماعات الشعبوية في العالم.
وعلى من يأمل من الغضب الروسي الراهن انقلابا في موقف موسكو من إسرائيل، أن يعيد حساباته جيّدا وأن يحسن قراءة ما بين السطور. فأمر الاحتكاك الراهن بين موسكو وتل أبيب، على الرغم من ضراوته، هو جدل بين أصدقاء وهو عرضي في علاقات موسكو وتل أبيب، فيما الموقف الروسي الحقيقي هو ما عبّر عنه نائب السفير الروسي إلى إسرائيل ليونيد فرولوف في فبراير الماضي من أنه “في حال العداء على إسرائيل، لن تقف الولايات المتحدة وحدها إلى جانب إسرائيل، بل روسيا أيضا ستكون إلى جانب إسرائيل”، مضيفا أن “العديد من مواطنينا يسكنون في إسرائيل، وإسرائيل عامة هي دولة صديقة، ولهذا لن نسمح بأي عداء ضدها”.
توفّر المناسبة فرصة للرئيس الروسي لاستدراج واشنطن للانخراط في مفاوضات حول الوضع النهائي في سوريا. ترسل الولايات المتحدة وحلفاؤها إشارات عرضية متناقضة حول حقيقة موقفها من مستقبل سوريا، كما مستقبل الدور الروسي في هذا البلد.
تضغط واشنطن على موسكو في شأن العمل على إخراج النفوذ الإيراني من سوريا، دون أن تتصاحب هذه الضغوط بخارطة طريق دولية تُطمئن روسيا وتعترف بدورها في المستقبل السوري كما دور روسيا في العالم. فإذا ما كانت منظومة “أس-300″ تقلب التوازن الاستراتيجي، خصوصا إذا منحت لـ”جهات غير مسؤولة” وفق وصف نتنياهو، فإن غضب واشنطن من هذا التطور يفتح الطريق أمام مفاوضات جديدة لإقفال الملف السوري لأسباب إسرائيلية، بعد أن فتحت روسيا مقاربتها السورية بمراعاة كاملة للأسباب الإسرائيلية.
ترفق موسكو تدابيرها الصاروخية بسلسلة مواقف تضع إطارا حذقا للغضب الروسي. تؤكد موسكو على أمرين. الأول أن منظومة الصواريخ الموعودة هدفها “حماية الحضور الروسي” في سوريا، بما يوحي أنه سيتم تشغيلها بأياد روسية ووفق تعليمات موسكو، وأنه لن تكون مهمتها حماية أي “حضور” غير روسي.
الثاني أن المنظومة المقدمة من روسيا إلى سوريا لا تستهدف بلدا ثالثا، بما يراد منه إرسال رسائل مطمئنة بأن التطور المعلن تقني لن يتلاعب بالتوازن الاستراتيجي الذي لا تريد إسرائيل العبث به مع المنطقة المحيطة. وإلحاقا بثوابت موسكو تحتفظ روسيا بالتواصل مع “الصديق” الإسرائيلي سواء على مستوى بوتين ونتنياهو، أو على مستوى القيادات العسكرية بين البلدين، بما يعني أن ما هو توتر لن يصل إلى مستويات القطيعة.
ستتفاءل دمشق وطهران كثيرا بالموقف الروسي المتشدد، على نحو سريالي، ضد إسرائيل. قد يتيح التوتر الراهن لإيران وحزب الله تكثيف التحرك الميداني الذي لطالما أطاحت به إسرائيل بأكثر من 200 هجوم في السنوات الأخيرة. غير أن المراقب للموقف الروسي سيلحظ، بسهولة، أن موسكو لم تتبرّم من مبدأ الغارات الإسرائيلية ضد أهداف تعتبرها إسرائيل خطيرة على أمنها، بل غضبت من “الخديعة” الإسرائيلية التي تسببت في إسقاط طائرة روسية ومقتل 15 عسكريا روسيا كانوا على متنها.
بمعنى آخر فأن تمارس إسرائيل مناوراتها وخدعها لضرب العمق السوري برشاقة لا تؤذي مصالح روسيا ومواقعها، فذلك أمر لم تمانعه موسكو قبل إسقاط الطائرة الروسية، وهي لن تمانعه بعدها إذا ما أعيد ترتيب التفاهمات مع إسرائيل وحلفائها في العالم، لا سيما الولايات المتحدة.
المهم أن نراقب بحرص أي انقلاب قد يُحدثه بوتين داخل بيته ضد “الخونة” في القيادة الروسية.