حامد الكيلاني يكتب:

خامنئي يراهن على دماء الإيرانيين بعد تجويعهم

بعد ستة أيام من الرد العراقي على العدوان الإيراني في 22 سبتمبر 1980، كانت أول مبادرة لوقف إطلاق النار بين البلدين وبرعاية إسلامية، وافق عليها العراق فورا، لكن نظام الخميني رفضها بشدة واعتبر وقف إطلاق النار خيانة لمبادئ ثورته، وفي المقدمة منها تصدير المشروع المذهبي التوسعي إلى العراق تحديدا، كهدف صريح لاحتلال المدن والأضرحة الدينية تخطيطا منه لصناعة مركز استقطاب يسيطر به على عصب التوتر في الانقسام والفتنة.

الإصرار على استمرار الحرب رغم المبادرات ووساطات السلام، خاصة في الأشهر والسنوات الأولى من الحرب، يعود إلى أن الخميني يعتبر احتلال العراق خلاصة لجدوى نضاله واجتهاده ومعارضته وثورته ونجاحه في استلام السلطة، مع ما توفر له من دعائم سياسية دولية وإرادات لا ينبغي أن يخذلها.

فكرة تحجيم أسباب الحرب بالخلافات الشخصية مع القيادة العراقية، أو اختصارها برغبة الخميني في الانتقام لكرامته من عدم السماح له بممارسة نشاطه السياسي والإعلامي ضد نظام الشاه من داخل العراق، والتي عللها نتيجة لالتزاماته الدبلوماسية والتعهدات السابقة المبنية أساسا على توافقات تهدئة بين الدولتين؛ وخرقها كان بمثابة إعلان لحالة الحرب؛ إضافة إلى المتداول من ضيافة الدولة العراقية للخميني مع مجموعته وتقديم التسهيلات الإنسانية والحياتية لهم من عيش كريم وحماية، تتطلب من المفروض عدم القيام بنشاط سياسي يحرج الدولة المضيفة.

فجأة أصبحت الصواريخ الباليستية الإيرانية في خدمة الحرب العالمية على الإرهاب، والتواجد الإيراني في سوريا في خدمة القضاء على الإرهاب أيضا، وانسحاب إيران أو بقاؤها مرهون بشفافية القرار السوري

أسباب الحرب لا يمكن تسطيحها بهذه الرؤية القاصرة لنظام قائم منذ فبراير عام 1979 على إشهار عقيدته التوسعية مستندا ومستغلا حالة الهوس بالثورة ورجل الدين الذي استطاع انتزاع السلطة من نظام الشاه وأجهزته الأمنية المحترقة، والمدعوم بقوة من الغرب والولايات المتحدة؛ ما الذي حدث ليتهاوى الشاه؟ وأي حجر زاوية من حكمه تم رفعه بإرادة دولية ليأتي الخميني على أنقاض علاقة مريبة أوصلته بحفاوة من باريس؟ علاقة كلفت الشعوب الإيرانية وشعب العراق، ثم المنطقة، الكثير من الخراب، وارتدّت تباعا على دول العالم وفرنسا بالمزيد من العنف والاستباحة.

اغتنام الخميني للحماسة القومية والمذهبية في لحظة عدم التصديق بانتصار إرادة الثورة في خلع الشاه، أدّى بإيران إلى الاستخفاف والإقدام على احتلال العراق، وإلى توفر قناعات حقيقية عن امتداد الشرارة المذهبية إلى أتباع إيران من أحزاب وجماعات وميليشيات متطرفة، طائفيا، داخل العراق، يثقون بتخادمها معهم واستعدادها لخيانة الوطن الأم، وخرق الحدود وإثارة الفوضى.

ما فات إيران هو أن العراق في تلك الفترة السياسية، الصعبة أيضا، من مطلع ثمانينات القرن الماضي كان بقدرات تسليحية تقليدية مع تواضع نسبته السكانية قياسا بإيران؛ لكن الملفت أن شعب العراق كانت له تجربة تذوّق فيها طعم التنمية والإعمار والتغيير، توضحت معالمها في حياته الاقتصادية والاجتماعية والتعليمية والصحية والحضارية، وانفتاحه بعلاقات دولية أقدم فيها على دعم وإغاثة بعض دول العالم الثالث، وبناء معالم مدنية فيها مازالت شاخصة إلى حقبة بدا فيها العراق وشعبه على أعتاب نهوض غير مسبوق.

العراقيون في حرب الثمانينات توحدوا دفاعا عن خطوة كبيرة وعملية نحو التقدم، تلمسوا ثمارها وتعايشوا مع مواسم حصادها؛ لذلك من لديه مشروع للحياة سيدافع عنه بروحه ودمه، لثقته بأن تضحياته تدفع الأذى والخراب عن بيته الجميل وكرامة أهله الذين يتنعمون بفضائل الاستقرار.

ذلك الوطن الذي كان؛ كانت فيه المذاهب والأديان والقوميات والأعراق تذوب وتنصهر في جبهات القتال لتصنع ساترا من الدماء المشتركة، إدراكا من المقاتلين لعمق وصلابة جبهتهم الداخلية حيث مدنهم وقراهم سالمة، وأهلهم ينعمون بالحياة في ظل صمودهم البطولي.

لم نسمع يوما أن العراق له طموحات في احتلال إيران؛ بينما احتلال العراق لدى النظام الإيراني كان سلوكا لسياسة يومية وتربية عقائدية؛ والأرقام القياسية للقتلى من اليافعين الذين زجَّ بهم الخميني في الحرب ولفتح الألغام بأجسادهم؛ تحتاج وقفة لقراءة الغاية العظمى من احتلال العراق والتي تهون في سبيلها كل التضحيات الإيرانية.

بعد 40 سنة على إشعال الخميني لفتيل فتنته المذهبية، يعود المرشد خامنئي ليتشبث بذات الشعارات والسياقات في لقائه مع قوات الباسيج الإيراني، طالبا منهم توجيه صفعة للولايات المتحدة، واصفا من يفكرون في التنازل لها والتفاوض معها بالخونة، رافضا إلى آخر رمق في حياته، على حد قوله، الاستجابة للشروط الأميركية. هذا التوجه ينسجم مع التفاف النظام على دكتاتوريته الدينية المتطرفة لإلقاء العهدة على تيار سياسي يتولى مهمة التنازل التي يتبرأ منها ويدينها المرشد.

أسطوانة الاستكبار العالمي مازالت منتجة عند النظام الإيراني، فالاستكبار يمنح الفرصة للنظام، وتحديدا المرشد، للتراجع “من أجل شعبه” الذي يموت جوعا وفقرا لتدني العملة وارتفاع الغلاء، وهؤلاء المفسدون على الأرض، ويعني بهم المرشد القوى الحرة التي تحمل راية المقاومة ضد نظامه، منهم سواق الشاحنات الذين تحولوا إلى رمز عالمي تدعمه النقابات والمنظمات الإنسانية والحقوقية، لما يتعرضون له من مأزق تفاقم الرسوم وغياب الأمن على الطرقات الخارجية في نموذج متصاعد لنموذج هجمات الفقراء والجياع الأفغان على قوافل الإغاثة سابقا.

اغتنام الخميني للحماسة القومية والمذهبية في لحظة عدم التصديق بانتصار إرادة الثورة في خلع الشاه، أدّى بإيران إلى الاستخفاف والإقدام على احتلال العراق

الشعوب الإيرانية الغاضبة يُشبّهها النظام بقطاع الطرق؛ لذلك شرّع المرشد للحرس الثوري وقوات الباسيج صلاحيات القمع وصولا إلى الإعدام، بعد أن أعطاهم الضوء الأخضر عندما وصفهم بالقدوة وحماة الثورة.

نظام الملالي سارع بالموافقة على انضمام إيران لمعاهدة مكافحة تمويل الإرهاب، وهي فقرة في برنامج متعدد أعدّه النظام لمغازلة المجتمع الدولي وبالذات الولايات المتحدة، ويتضمن إلقاء تهم الإرهاب على من يشاء من دول وشخصيات وجماعات؛ ولا يخلو البرنامج من عمليات إرهابية، ستطال الإيرانيين حتما، يختارها النظام بعناية في المكان والتوقيت والسيناريو والتأثير المطلوب.

فجأة أصبحت الصواريخ الباليستية الإيرانية في خدمة الحرب العالمية على الإرهاب، والتواجد الإيراني في سوريا في خدمة القضاء على الإرهاب أيضا، وانسحاب إيران أو بقاؤها مرهون بشفافية القرار السوري، والنظام الإيراني تبين أنه لم يقطع مياه الأنهار عن العراق، والميليشيات الإيرانية مجرّد أدوات سياسية متطوعة لخدمة الشعوب والأمن والسلام في المنطقة.

ماذا ننتظر من النظام الإيراني إلا المزيد من المناورات على حدود عملياته الإرهابية التي سيغتنمها المرشد إلى آخر رمق للنظام في تمكين الفوضى كمبادئ عقائدية بالإمكان التراجع عنها تحت حجة ضغوط الاستكبار العالمي، أو الذهاب إلى حماقة الزج بالشعوب الإيرانية في معادلة “لا شيء لديها لتخسره”؛ وهي ذات المعادلة التي انتصر فيها العراقيون على العدوان الإيراني يوم كان لديهم الكثير مما يخسروه في الوطن.