حامد الكيلاني يكتب:

"الفساد يجمعنا".. مبدأ التحالفات السياسية في العراق

أقصى ما يتمناه أهل العراق بعد التجارب المريرة التي أودت بهم إلى قاع الاحتلالين الأميركي والإيراني هو مراودة أحلام الخروج من المأزق أو معاناة الورطة الكارثية، وذلك بالعودة إلى ما قبل الانقلاب على النظام الملكي وتأسيس الجمهورية، وإذا كانت الأحلام أكثر واقعية فبالعودة إلى بعض أعوام السبعينات من القرن الماضي بما شهدته من طموح في بناء دولة معاصرة.

لكن التقدم برغبة التراجع إلى محطات زمنية مأسوف عليها، لا يعني سوى توقع الأسوأ في إشارة إلى الإصابة بالشلل وعدم القدرة على الحركة وغياب الأمل بالشفاء بوصفات الأدوية المتعددة، وكيف ساهمت هذه الأدوية في زيادة أعباء المرض، واستشراء اليأس الذي دخل مرحلة اليقين وأصبح يتطلب القول الفصل في معالجة وإنقاذ العراق وانتشاله بأدوات ومستجدات حماية وإسعاف على طريقة الاستغاثة والنجدة.

العالم يغض الطرف عن انتهاكات تعرض لها شعب العراق، والمبرر وجود دولة بنظام سياسي ديمقراطي وانتخابات ورئاسات ثلاث وقضاء مستقل وجيش وقوات أمن داخلي ووزارات، إلا أن هذا البناء الإداري الوهمي والمخادع جرت تحته عمليات الاحتيال والتزوير والكيد والفساد، للوصول بالعراق إلى ما وصل إليه من تفتيت وتقسيم وتغيير في المفاهيم التي أطالت أمد الحياة في جسد النظام والحكومات المتعاقبة.

لم يعد العراق موحدا تحت راية دولة الاحتلال؛ فالعراق دول بسلطات لا تلتقي على وطن وخدمة شعب ومستقبل، والاختلاف فيه مفسدة تتوزع على زعماء الكتل المذهبية والأحزاب الطائفية ومن نصب نفسه وصيا على العراقيين من هذه الجهة أو تلك، إن كان زعيم ميليشيا أو شيخ عشيرة أو قبيلة أو رجل دين أو من أرباب العوائل، اغتنم فرصة توليه مسؤوليات رسمية وحظي بعقود معينة لتبني له أمجادا مالية جلبت له الجاه والمناصب والعلاقات وجرأة الحديث نيابة عن الملايين، ومن بينهم المشردين في الخيام ومعسكرات الذل الذين لا يقل عددهم عن مليوني مواطن، ومنحته قدرة تشكيل الأحزاب والمحاور أو إلغائها بين يوم وآخر، والاستدارة حول نفسه من دون حياء أو وجل، أو الاحتماء بفصائل سياسية وميليشيوية تقطر أياديها بدماء الأبرياء من أهاليها بحجة “عفا الله عمّا سلف”.

رغم أن الأدلة عن خيانة  هؤلاء وولائهم للمشروع الإيراني وتكرار التأكيد عليها صار مملا ولا يدعو إلى العجب، بل إن الأدلة تتعمق يوميا في جزئيات الصراعات والخلافات على تولي الوزارات ورهانهم على خيارات محدودة لن تجود إلا بشخصيات مدعومة من إيران تلبي مطالب الملالي في مرحلة العقوبات الأميركية.

ماذا ينتظر العالم من نظام سياسي لم يحافظ على حدوده من الإرهاب، واستدعى الإرهاب في وقت كانت ميليشياته تقاتل خارج أراضيه لأسباب طائفية بامتياز؛ سجون سرية وعذابات متناهية لا تقل عن ممارسات التمييز العنصري في بعض تجارب الدول الأفريقية، وفعاليات انتقام لا تخطر ببال من أجل تحقير الآخر والاستهانة به. فما حدث في العراق كان أقسى بتبنيه الانتقام لأحداث تاريخية لا ترتبط بالكراهية الشخصية، إنما تعمم الاستهداف والإعداد له وتطبيقه بأوامر مسبقة تنسجم ورغبات ملالي طهران التي لا صلة لها بمقومات أوامر دولة وصلاحيات جيوش نظامية أو شرطة محلية.

نهر الفرات بدلالاته اللغوية الفريدة في العذوبة، صار مكبا لنفايات النظام السياسي وجهله في إدارة موارد الدولة الغنية بالنفط والماء وخصوبة الأرض وتعدد الثروات. نفوق الأسماك مهما كانت الأسباب والتحليلات مع حجم تلوث المياه وأعداد المصابين بالبصرة، وتسجيل أعلى معدلات الغبار في الكوكب ودرجات حرارة غير مسبوقة وموت أو احتضار 40 بالمئة من الأرض الزراعية، مع تفاصيل استدعت روح السخرية للحضور في مداولات مجلس النواب؛ تعني في المجمل ضياع مقومات الدولة وشرعيتها لعدم قدرتها على تحمل الأعباء الاستثنائية والعادية والتي تصب جميعها في عجز دور المؤسسات وغيابها، عدا عن غياب الأمن المتعمد في أحيان كثيرة بالاغتيالات والاعتقالات وتغييب الآلاف وبعدد لا يحصى من الإخفاقات.

لماذا يغيب العراق عن اهتمامات مجلس الأمن الدولي؟ هل لتعدد المآسي في سوريا واليمن وبلاء حزب الله في لبنان أم لأن صوت الاحتلال الأميركي في العراق أصبح خافتا بحكم الهيمنة الإيرانية وبما تعرض له العراقيون من حملات تجهيل وتقسيم وتهديد في صحتهم وفي غذائهم وتعليمهم وثقافتهم ووعيهم ووحدتهم الاجتماعية، وهم الذين يمشون على أرض أضخم احتياطيات النفط.

بعد أن استمعنا إلى مفردات من نوع السحل بالحبال تتردد لأول مرة في اجتماعات مجلس النواب الجديد أثناء تمرد البصريين على خراب بصرتهم، كنا نظن أن تلك الحبال ستبقى تتأرجح في أذهان الأحزاب والتحالفات والكتل ولا تغادرها إلا بالنجاة وبتشكيل حكومة طوارئ لإغاثة الموصل والبصرة وباقي مدن العراق لإعداد الخطط المستعجلة والدراسات للبدء الفوري بحملة إنقاذ للهدر المالي والبيئي والأمني، وإيقاف الهدر المزمن في حياة المواطنين وكرامتهم، ومنع استغلال الإنسان لغايات أيديولوجية وخرافات تعتاش عليها أحزاب وتنظيمات وميليشيات جرّت العراق وربطته إلى مستنقع المشروع الإيراني في اقتصاده بعد نظامه السياسي لمنع شعب العراق من التواصل مع أمته العربية، وإعاقة قدرته على العيش من جديد بشخصيته الحضارية المستقلة.

معالجة الفساد في العراق تحتاج إلى تدخل دولي ولجان تحقيق على أعلى المستويات، لا إلى تقارير ومانشيتات صحافية عابرة في الصحف العالمية، فالفساد يتغلغل في استراتيجيات الدولة بما يساعد على عودة التنظيمات المتطرفة كما حصل في احتلال الموصل وثلث مساحة العراق.

الإرهاب بعض أوجه الفساد في مشروع اللادولة التي أقامها الاحتلال الأميركي في العراق، وتعمقت بالمشروع الإرهابي لتنظيم الدولة الإيرانية، لأن الفساد يتمدد بحركة أموال ونشاط مصارف ومشاريع وتنقلات ضباط وتجارة أسلحة وبيع مناصب وشراء ذمم وسرقات وإتاوات ووصايا واتصالات ومعلومات وتهريب واغتيالات مبرمجة وتطويع إرادات ومساومات بخبث إلى حيث يمشي القاتل في جنازة القتيل، وربما على أنغام موسيقى الجيش الجنائزية