حامد الكيلاني يكتب:
مقعد العراق شاغر في برلمان المحاصصة
ذروة النظام السياسي الحاكم في العراق، دون ريب، مستمدة من ثوابت لحظة الاحتلال وما تلاها من انهيارات شاخصة على طريق الانحطاط العام والتي تمثلت بكتابة الدستور وتشريع قوانين خاصة وتأسيس لهيئات وإجراء الانتخابات، إلى ما وصل إليه حال العراق كدولة، وأحوال العراقيين كشعب، من بؤس وانقسام وإرهاب وتخريب وتخلف.
في هذه الفترة من التداعيات تكونت مرجعيات إجبارية دينية وسياسية، شخصيات وأحزاب؛ أصبحوا واقعاً وقَدراً على الشعب وبإجازة مرخصة من المجتمع الدولي، على الرغم من اعترافهم الصريح والموثق بوصولهم إلى نقطة الهاوية والفشل كشركاء أو تحالفات وتوافقات.
اعترافهم محاولة سياسية لإعادة السير إيابا لقطع مسافة العودة إلى لحظة الاحتلال، أي لما يطلقون عليه المربع الأول في تجاوز للانتهاكات والخروقات التي لامست، أكثر من مرة، ما يمكن اعتباره وفق القوانين الدولية جرائم ضد الإنسانية.
ما جرى في العراق بعد الانتخابات الأخيرة هو سلسلة من حلقات للملمة ملفات التدمير والانتقام والسرقات والإثراء المبعثرة لتنفيذ الأجندات العقائدية والقومية لمشروع ولاية الفقيه الإيراني. بمعنى أن أكثر من 15 عاما من الاحتلال الأميركي انتهت بدعوة العراقيين إلى إعادة بناء الثقة بالمخربين والإرهابيين من زعماء مافيات السياسة وعصابات المال والميليشيات؛ لأنهم ببساطة قرروا أن يعيدوا حساباتهم ويعترفوا بفشل تجربتهم الطويلة وفتح صفحة جديدة لرفع ألغامهم ومفخخاتهم القديمة.
وُعُودهم بالإصلاح والبناء وتشكيل الحكومة بالتوافق على مرشح ترضية لرئاسة الوزراء والتحضير له كمستقل؛ تطرح إشكالية الخلافات والتصعيد على تسمية المرشحين لمنصبيْ الداخلية والدفاع، بما حصل في مجلس النواب من صراع على إرساء الهوية العراقية لهذا الطرف أو ذاك من معادلة الاحتلال الإيراني للعراق وبحجم رفاهية وفائض وطني يبعث على السخرية من تعفف التحالفات الطائفية عن المناصب، أو عن فرض الإرادات والوصاية على رئيس الوزراء أو التحالفات داخل البرلمان أو على الشعب.
عقدة نقص المواطنة تلاحقهم، وعقدة الاحتلال والاستقواء بالأجنبي تلاحقهم، وجرائم الحرب الأهلية والتحريض على العنف والطائفية تطاردهم؛ لذلك المشهد في العراق يتجه نحو تجزئة “منجزات” الاحتلال الأميركي وتفكيكها إعلامياً لطرحها في مناقصة يشرف عليها “مناضلي” ولاية الفقيه وبحماية أسلحتهم وأدواتهم الرقابية وإعادة بيعها كمشروع إصلاحي لإعمار العراق وبنائه.
الصراع يجري بشراسة على امتلاك دولة وليس مقاعد برلمانية أو مناصب وزارية. الاحتلال الإيراني للعراق لم يعد بحاجة إلى النموذج اللبناني في تمادي الميليشيا الإيرانية على حساب الدولة أو الجيش النظامي، ومن يعتقد أن ثمة قرارا عراقيا مستقلا أو لأحدهم قوة تمثيل الشارع العراقي في البرلمان، فليراقب مدى انفتاح ملالي طهران وثقتهم من المرشد خامنئي إلى قاسم سليماني بكافة التحالفات السياسية على اختلاف توجهاتها المذهبية والقومية في العمل السياسي داخل العراق.
ذلك الاطمئنان الإيراني جاء كمحصلة لانهيار العراق بعد الاحتلال الأميركي وقياساته لبناء وإصلاح النظام السياسي الذي أدى إلى فقدان الذاكرة الوطنية الموحدة، وما زاد في اطمئنانهم عمق الصلات التي طفت كحالات شاذة من الخيانة العظمى باصطفاف بعض الأحزاب والتنظيمات للقتال ضد وطنهم الأم خلال الحرب الإيرانية العراقية، لأسباب تأكدت في كل يوم من أيام استلامهم للسلطة في العراق بما ارتكبوه من مجازر واغتيالات استهدفت بشكل عام من دافع في تلك الحرب عن مرجعيته الوطنية.
تحت مانشيت “الفرصة الأخيرة” تطرح الأحزاب المختلفة على مزاد بيع وشراء العراق مشاريعها لاستثمار خط الرجعة إلى مربع الاحتلال لكسب سنوات مضافة في السلطة بإدانة المحاصصة الطائفية والسياسية، بمزيد من الإصرار على فرض إرادات مشروع الاحتلال الإيراني بحجة التوافقات أو الصراع السياسي الحاد داخل قبة البرلمان. وهو صراع مكشوف الدوافع تداخلت فيه الزعامات الدينية مع السياسية للاستحواذ على رضا الاحتلال الأميركي أو الإيراني، أو كلا الطرفين، أو على الأقل فرض سلطة الأمر الواقع بالسلاح أو باستعراض تضحيات الأتباع.
التهديد بالفرصة الأخيرة للإصلاح، رغم ما يحمله في طياته من واقعية انسداد أفق الحل لدى الشعب تجاه العملية السياسية وفقدان الأمل بأحزابها وشخوصها، إلا أنه في الوقت ذاته احتكار لصوت الشارع الرافض للنظام السياسي أو بالأحرى لهؤلاء العملاء الذين تاجروا بالعراق.
قرار العراقيين لا يمت بصلة لأحزاب سياسية أو زعامات فساد ولصوص المال العام، ولا يذعن لمرجعيات السلاح وفتاوى رجال الدين أو وصايا المرشد الإيراني وجنراله بما يشاع عنهما في هذه المرحلة من ترك الحريات لشعب العراق ومرجعياته في حق اختيار نظامه السياسي وحكومته. رغم أن هذا الطرح ينطوي على سيطرة شبه مطلقة على مقدرات السلطة بعد استحواذ التنظيمات والميليشيات على مقاعد البرلمان، وتحول الصراع المذهبي والطائفي داخل البرلمان من صراع محاصصة أحزاب وكتل طائفية إلى صراع لمصادرة صوت العراقيين، بما استدعى ترويضه بإطلاق الرصاص الحي على المتظاهرين واستحضار هيمنة الميليشيات.
لحظة الحقيقة توفر للجميع حق مراجعة مرجعياتهم مهما كانت مصادرها؛ فالجياع والعاطلون عن العمل تجمعهم مرجعية الوطن مع الغارقة خيامهم في البؤس والأحزان، ولأن العراقيين جربوا مرجعية الموت في كل بيت تقريباً، صار عليهم رفض المرجعيات السياسية والعقائدية ومشاريع الخيانة وتقرير المصير نيابة عنهم.
الفرصة الأخيرة لن يمنحها شعب العراق لولاية الفقيه والميليشيات، ولا لمناورات الأحزاب الطائفية ومافيات الفساد ولا لسارقي إرادته الانتخابية بعدم التصويت لتجربة الاحتلال.
ماذا يعني الإصلاح غير ترميم عملية سياسية تناوبت على العراقيين بالمآسي والكوارث، وماذا يعني البناء في أقصى سلم النيات الحسنة لميليشيات الحشد الشعبي وغيرها سوى حسنات ملالي طهران لمن تهدمت ديارهم بأسرارها التي تفضحها موازنة 2019، وحصة المحافظات المدمرة قياساً بباقي محافظات العراق التي ستذهب هي الأخرى لخدمة الفاسدين أو إطالة أعمارهم في السلطة.
لكل ذلك لا مقعد للعراقيين في البرلمان، مقعدهم سيظل شاغرا وليس لأحد أن يتحدث باسمهم أو أن يدعي حتى استحقاقه لصوت المعارضة. المعارضة هناك في الشارع وهي وحدها من يقرر تحديد اللحظة الفاصلة حيث لا مرجعية إلا مرجعية الوطن.