سمير عطا الله يكتب:

المدن والأوبئة

تبذل السلطات حول العالم كل ما تستطيع من أجل المحافظة على الأجزاء القديمة من المدن والعواصم. فهي صورة هويتها وتاريخها وهندساتها الجمالية القديمة. وما يسمى الآن «وسط البلد»، هو نوع من الكنوز المختلفة التي لا وجود لها في التوسع العمراني، الذي نشأ بصورة تلقائية مع الهجرة العظيمة من الأرياف، وتمدُّد المناطق السكنية بحيث أصبحت، في حد ذاتها، مدناً لا علاقة لها بكل ما سبق.
غير أن ما نراه اليوم متحفاً قديماً من المباني والحجارة، لم يكن كذلك في الأصول والنشوء. فالأروقة الضيقة والبيوت المتلاصقة والشوارع المتعاكسة كانت أيضاً مخصباً للأمراض والأوبئة. فهي تفتقر بالدرجة الأولى إلى العنصر الصحي الأساسي، أي أشعة الشمس الشافية. وقديماً قيل: البيت الذي تدخله الشمس لا يدخله طبيب. وعندما جاء نابليون في حملته على مصر، كان عدوه الأول الطاعون، وليس الإنجليز. وأدرك ذلك سريعاً، فانسحب. ومرض هو، وخلفه نابليون الثالث، على أن تكون شوارع باريس وجاداتها على العرض والسعة. وتعلم أيضاً ما تعلمه سواه وهو أن شبكات الصرف الصحي أكثر أهمية من الأدوية والعلاج في محاربة الأمراض والجراثيم.
أما الحداثة المعمارية في المدن العربية فقد قلصت المدينة القديمة. وازدادت هذه الظاهرة منذ القرن الثامن عشر. وراحت الأجيال تندمج في مجتمعات جديدة، فلم يعد القروي ينقل معه قريته وعاداتها وتقاليدها، بل أصبح جزءاً من نهج حياتي جديد ذابت فيه الأرياف، ولم يبقَ من معالمها سوى التندر والحكايات والطرائف، كما هو حال الصعايدة في حواضر مصر.
يأخذنا الدكتور خالد زيادة في «المدينة العربية والحداثة» (دار رياض الريس للكتب والنشر)، في جولة ممتعة بين نشوء المدن وقيام الحداثة. ولعلّه أفاد كثيراً في هذه الدراسة من السنوات التي أمضاها في القاهرة سفيراً للبنان. فقد أخذ معه إلى هناك هوايته ومهنته الأصيلة كمؤرخ. وانصرف بالمعاينة وعلى الطبيعة إلى البحث في كبرى مدن العرب. يقول خالد زيادة وهو يقارن بين مدن اليوم وعمار الأمس: «ماذا تبقّى من الماضي المديني وتقاليده وعاداته؟ وما هي حال حداثتنا المدينية والعمرانية؟
لو قيّض لابن خلدون أن يعود إلى القاهرة التي أقام فيها، فلن يتعرف عليها، ولن يلمح تلك العظمة التي جعلتها أكبر مدن العالم الإسلامي في القرن الرابع عشر. ولن تكون دهشة محمد كرد علي أقل لو تجوّل اليوم في شوارع دمشق التي كتب خططها في أوائل القرن العشرين. وكذلك حال علي الوردي مع بغداد بعدما كتب صفحات من تاريخ العراق الاجتماعي.
المدن القديمة توارت وتغيرت معالمها وتلاشت، وتزايد عدد سكانها أضعافاً مضاعفة بفعل الحداثة. وأدى التحديث إلى قيام مدينة جديدة إلى جوار القديمة التي هجرها سكانها، وهُجّر الوسط التجاري الحديث، ونشأت على أطرافها الضواحي الكبيرة المزدحمة التي لا أثر فيها للتراث العمراني، وتعبّر عن «أزمات الحداثة».