محمد قواص يكتب:
اعتذر حزب الله.. لكن عن ماذا؟
غير صحيح أن “انفعال” النائب عن حزب الله، نواف الموسوي، يتعارض مع الخطاب الحقيقي لحزب الله. تندرج اتهامات الرجل للخصوم بالعمالة لإسرائيل ضمن أدبيات الحزب العتيقة منذ نشوئه. عمل الحزب على تعبئة جمهوره خلال العقود الأخيرة أنه وهذا الجمهور نقيض لإسرائيل والصهيونية، وأن من يعارض الحزب يتعارض مع هذه الحقيقة خدمة لإسرائيل والصهيونية.
والواقع أن اعتذار الحزب عن زلّة الموسوي “الانفعالية”، وفق نصّ الاعتذار، يتجاوز ربما ظروفه السياسوية، غير المقنعة، وقد يؤشر إلى أعراض مراجعة باغتت جمهور الحزب وبيئاته.
يعلن الموسوي من تحت قبة البرلمان اللبناني علنا ما يروج داخل النقاش الجُوّاني للحزب. يُخرج الرجل إلى العلن، مرة أخرى، مسلّمة يسوّق لها الحزب، حتى لدى حلفائه المسيحيين، من أنه فرض ميشال عون رئيسا للجمهورية بواقع القوة، ومنع أي تفكير بأي بديل، حتى لو بقي قصر بعبدا خاليا من مستأجر حتى إشعار آخر. يودُّ الحزب من خلال تصريح الموسوي المُعتذر عنه تذكير من قد ينسى من الفريق العوْني، تيارا ورئيسا لهذا التيار، أن للحزب أفضالا لا يجب أن تُغفل، وهي أفضال قد يحتاجها من يمني النفس بوراثة الرئيس الحالي في بعبدا.
هل يعتذر الحزب عن أمر الجهر بحقيقة لطالما رددها منذ الثمانينات، أم يعتذر عن اتهامه لفريق من المسيحيين بالعمالة لإسرائيل
على أن تصريحات الموسوي التي قيل إنها أحرجت عون وفريقه ليست دقيقة. ذلك أن حزب الله الذي يعود له قطع طريق بعبدا عن أي طامح، لم يكن ليستطيع فرض ميشال عون رئيسا، ولو استطاع لفعل دون منّة أو مشاركة من الآخرين. عون نفسه كان يعرف ذلك، وراح وفريقه للاجتهاد في الاهتداء إلى السبل المثلى للعبور إلى الرئاسة بدل انتظارها وفق استراتيجية حزب الله. أيقظت الحاجة إلى بعبدا لدى العوْنيّة السياسية وعيا مستجدا على واقع التركيبة اللبنانية في أبعادها الاجتماعية والسياسية والإقليمية والدولية، كما خصّبت لدى عون وفريقه التوق إلى التلاقي مع الآخرين.
من معراب من مقر زعيم حزب القوات اللبنانية، طوّب سمير جعجع الجنرال ميشال عون رئيسا في “العرس” الشهير في يناير 2016. بدا أن المصالحة المسيحية جاءت انقلابية لم تكن من ضمن التوقعات المحتملة قبل سنوات. نهل عون وفريقه طويلا من الخصومة مع “القوات” لاحتلال موقع متقدم داخل الرأي العام المسيحي، خصوصا منذ عام 2005. وسعى الرجل للنهل، هذه المرة، من المصالحة ومن “ورقة النوايا” ومن خلوات الثنائي ملحم رياشي- إبراهيم كنعان لإزالة المعوقات المسيحية الكبرى من أمام طموحاته الرئاسية الكبرى.
بيد أن تبدل المزاج المسيحي لصالح عون رئيسا لم يكن كافيا. تواكب أمر ذلك مع تبدل في مقاربة سعد الحريري لكل الوضع اللبناني. هو أيضا راكمت سنون النفي لديه وعيا آخر حول واقع المشهد السياسي اللبناني الداخلي، كما واقع الموقف الدولي تجاه البلد. بدا أن الرجل الذي دفع ثمن واقع القوة و”فائض السلاح”، واختبر تجربة الانقلاب على حكومته في بيروت حين كان مستظلا سقف البيت الأبيض في واشنطن، فهم معادلة الممكن والمستحيل.
لكن تلك الواقعية لم تكن في عُرف الحريري لتصل إلى حدّ الذهاب إلى دعم عون لتبوء رئاسة لبنان. أعلن زعيم تيار المستقبل أواخر عام 2015، وبشكل انقلابي فاجأ جمهوره قبل أن يفاجئ خصومه، ترشيحه سليمان فرنجية للرئاسة. لم يكن الأخير إلا صقرا من صقور تحالف 8 آذار مجاهرا بالحلف مع حزب الله، فخورا بصداقته الشخصية مع زعيم نظام دمشق بشار الأسد. نظّر الحريري إلى الأمر بصفته خيارا يراد منه مصلحة البلد، ويؤمل منه جذب الفريق الخصم نحو رؤاه لبناء الدولة. فكان أن دعمت السعودية هذا الخيار لاحقا.
بدا أن واقعية مفرطة دفعت الحريري إلى القفز على خيار فرنجية لاحقا من أجل خيار عون. ساهمت المصالحة المسيحية في إحداث هذا التحوّل الجديد في استراتيجيات الحريري، وساهم إصرار حزب الله على تفضيل عون الحليف على فرنجية الحليف في الدفع بالحريري للقبول بما لا يقبل سواه. وعلى هذا فإن وصول عون إلى بعبدا له حيثيات تم دعمها من الخصوم، وتم دفعها من الخارج على نحو لا يمكن للحزب أن يزعم أنه الوالد الشرعي الوحيد للتسوية التي نقلت عون من الرابية إلى بعبدا.
يكتشف حزب الله في الأسابيع الأخيرة أن الشارع المسيحي، لاسيما المتحالف معه، لم يعد يستطيع تغطية خطاب الحزب ضد رموز لها شأنها الكبير داخل التاريخ الحديث للمسيحيين في لبنان. اعتادت كافة منابر الحزب وشخوصه والمدافعون عنه على التسلّح بذخيرة التخوين والعمالة مع إسرائيل لمناطحة خصومه. جرى ذلك بسهولة ضد الحريرية السياسية، فما بالك بسهولته ضد المارونية المسيحية.
استسهل الحزب إطلاق تلك الاتهامات مهملا كما من المراجعات الموثّقة داخل البيئة السياسية المسيحية حول مرحلة الحرب الأهلية، وهي بالمناسبة مراجعات لم يحدث ما يشبهها داخل التيارات السياسية لدى الطوائف الأخرى.
بدا أن الشارع المسيحي، كما النخب السياسية المسيحية من مشارب متعددة ومتعارضة، أظهر تبرما في الساحات والغرف المغلقة من لازمة حزب الله التخوينية التي ظهر أنها متقادمة لا تتسق مع ظروف الراهن.
يعلن الموسوي من تحت قبة البرلمان اللبناني علنا ما يروج داخل النقاش الجُوّاني للحزب. يُخرج الرجل إلى العلن، مرة أخرى، مسلّمة يسوّق لها الحزب، حتى لدى حلفائه المسيحيين، من أنه فرض ميشال عون رئيسا للجمهورية بواقع القوة
على أن اعتذار رئيس كتلة الوفاء للمقاومة (كتلة حزب الله) في مجلس النواب، محمد رعد، يطرح أسئلة ليس حول موجبات هذا الاعتذار، بل حول ماهية الخطأ الذي استحق هذا الاعتذار. فهل يعتذر الحزب عن الجهر بأن بندقية حزب الله هي التي أتت بعون رئيسا، أم يعتذر عن تلميح الموسوي إلى ما سبق أن قيل كثيرا على لسانه، كما على لسان قيادات كثيرة للحزب، من أن الدبابة الإسرائيلية هي التي أتت بالراحل بشير الجميّل رئيسا للبلاد عام 1982؟
لكن، وتجاوزا للأمر المتعلق بظروف وصول عون إلى بعبدا، فإن المسألة المتعلقة ببشير الجميّل والاعتذار المتعلق به يقترحان دلالات جديدة وجب على حزب الله شرحها لجمهوره قبل أن يروّج لها لدى اللبنانيين.
لا نعرف ما إذا كان اعتذار محمد رعد يمثل تفصيلا تكتيكيا موضعيا لفظيا، أو أنه وليد اضطرار الحزب إلى انتهاج خطاب آخر يتناسب مع ما بعد الحرب ضد داعش ودفاعا عن نظام دمشق، وما بعد تصاعد الخطاب الأميركي ضد الحزب ورعاته في طهران. ولكن ما يجب على الرأي العام معرفته هو أمر يتعلق بالقماشة الحقيقية لأمر كلمات الاعتذار التي نطقها رعد بصعوبة، وعلى ما يبدو بعد مخاض موجع متعدد الأبعاد.
هل يعتذر الحزب عن أمر الجهر بحقيقة لطالما رددها منذ الثمانينات، أم يعتذر عن اتهامه لفريق من المسيحيين بالعمالة لإسرائيل؟ وبهذا المعنى، هل يعني الأمر أن المسيحيين الخصوم لم يكونوا عملاء ولم يأت بشير على ظهر دبابة؟ وإذا لم يكن الأمر كذلك فعن ماذا اعتذر رعد والحزب من ورائه؟
استيقظ جمهور الحزب على واقعة جديدة حملت ستريدا جعجع، كما نقل إعلان بيروت، أن تقول للموسوي “سلملي على السيّد”!