محمد قواص يكتب:
لندن تؤيد نعيم قاسم..!
"لم تعد بريطانيا قادرة على التفريق بين الجناحين السياسي والعسكري لحزب الله". استفاق وزير الداخلية البريطاني، ساجد جاويد، على هذه الحقيقة، فقرر حظر الحزب بجناحيه واعتباره تنظيما إرهابياً. والواقع أن اكتشاف حكومة جلالة الملكة أن لا فرق بين السياسي والعسكري داخل حزب الله، أتى بعد تكرار الحزب منذ سنوات، وخصوصا على لسان نائب الأمين العام الشيخ نعيم قاسم، أن لا فرق بين الجناحين، وأن "الحزب موحّد بطبيعته".
والحقيقة أن مفهوم الجناحين هو اختراع ابتكرته الدبلوماسية الأوروبية لكي تقدم بيمينها ما يتمّ سحبه بيسارها. فإذا ما كانت عملية التفجير في بورغاس في بلغاريا عام 2012 أسست عام 2013 لقاعدة إجماع أوروبي ضد الجناح العسكري لحزب الله، فإن إجماع الأوروبيين على عدم شمول التوصيف الإرهابي الجناح السياسي، كان ينمُّ عن بلادة لطالما أثارت سخرية في المنطقة، لا سيما من قبل حزب الله نفسه.
تعتبر الدبلوماسية الأوروبية الحاذقة أن العمليات التي يرتكبها حزب الله، والتي تصفها أوروبا بالإرهابية، هي رجس ترتكبه جماعة عسكرية منفصلة معزولة عن أي قرار سياسي يصدر عن قيادة هذا الحزب. وعليه فإن خطف الغربيين في بيروت، أو تفجير بوينس أيريس في الارجنتين، وإدعاء المحكمة الدولية على عناصر من حزب الله باغتيال الرئيس رفيق الحريري، أو حتى تفجير بلغاريا، هي أعمال جرت بشكل مستقل عن الجسم السياسي للحزب. وحين يؤكد الحزب أنه موحّد الجناحين، تنبري الدبلوماسية الأوروبية لتصحّح للحزب معلوماته، وتجزم بأن للحزب جناحا عسكريا شريرا إرهابيا، وجناحا سياسيا يمارس العمل العام بحنان، يكاد يماثل فضائل الجمعيات الخيرية.
تعاملت أوروبا مع حزب الله بصفته أمر القوة الواقع. لملم الأميركيون والفرنسيون أشلاء موتاهم عام 1983 إثر هجمات، قيل إن حزب الله كان وراءها، ضد ثكناتهم في بيروت ورحلوا. تعاملت أوروبا مع قضية خطف رهائنها بصفتها من تمارين السياسة الخارجية والعلاقات الدولية يصار حولها التفاهم أو التفاوض أو دفع الفدية في المال والسياسة. ولطالما كان دبلوماسيو فرنسا وألمانيا وبريطانيا وغيرها من دول الاتحاد الأوروبي يلتقون بعد كل "صفقة " بـ "سياسيي" الحزب، وكأن شيئا لم يكن.
لا نعرف ما سرّ اللحظة التي مسحت الغمامة عن أبصار لندن ودفعت وزير الداخلية البريطاني لاتخاذ قرار يضع الحزب موحداً على لوائح الإرهاب، ليعترف، متأخراً، بما سبق أن أفتاه الشيخ نعيم قاسم من أن لا فرق بين الأجنحة داخل حزبه. ما الذي نبّه الحكومة البريطانية قبل أيام على الطابع الإرهابي لحزب الله، فيما أن هذا الإدراك كان غائبا قبل ذلك؟ ثم كيف اكتشف جاويد أن حزب الله بات شأنه شأن 74 تنظيما في العالم يشكلون خطراً على أمن بريطانيا؟ ثم ما الفطنة من الانبهار بالكشف الجديد من أن حزب الله يواصل "زعزعة الأوضاع الهشة في الشرق الاوسط"؟ الأمر أوحى، في هذا الشأن، أن بريطانيا كانت تتعايش مع حزب الله الذي يزعزع ذلك الاستقرار، لكنها اكتشفت فجأة أن حزب الله "يواصل" ذلك.
في قرار بريطانيا ما يلفت إلى تطور جاء خارج سياق الجدل البريطاني الراهن. لندن المنهمكة بالتحولات الكبرى في سياساتها على خلفية تعثر ملف البريكست، ولندن التي تشهد أحزابها انتفاضات داخلية قد تؤشر إلى انقلاب المشهد السياسي العام خلال الأيام المقبلة، استفاقت في هذا الوقت بالذات على إرهابية حزب الله ودفع ملفه من ضمن تنظيمات أخرى ينشط أحدها في مالي والآخر في بوركينا فاسو. ولندن التي لطالما والعالم الغربي رأت في الجماعات السنية إرهابا ولم تر ذلك في جماعات إيران الجهادية في لبنان والعراق وأفغانستان، تحشر حزب الله في ثنايا قرارها مع تنظيمات سنية إرهابية على نحو يعد تحوّلاً جذريا في حالة التسامح والاستثناء التي كان يتمتع به حزب الله داخل أروقة الدبلوماسية البريطانية والأوروبية.
لا ينسحب القرار البريطاني حتى الآن على المزاج الأوروبي العام. عاجل الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون التصريح بأن باريس ما زالت ترى بوضوح الخط الفاصل بين الجناح العسكري والجناح السياسي لحزب الله، وأن فرنسا ترى في عسكر الحزب إرهابا وفي سياسية استمرارا للحوار، فيما لم تبتعد مسؤولة السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي، فيديريكا موغيريني، ومن بيروت، عن تأكيدات ماكرون. بيد أن لندن ارتكبت في هذا الشأن سابقة، وألقت حجراً داخل مياه أوروبا البليدة التي استكانت لنمط بروتوكولي متقادم في التعامل مع حزب الله.
لن تكون أوروبا موحدة في هذا الشأن طالما أن أحد أعضائها الكبار، سواء بقي داخل الاتحاد أم خرج منه، وهو مرجع أساسي في قضايا الأمن، والأمن الأوروبي خاصة، بات يعتبر حزب الله إرهابيا. فإذا ما كانت حميمية العلاقة بين لندن وواشنطن أملت على البريطانيين أن يروا في الحزب ما رآه الأميركيون (من ضمن 11 بلدا وكيانا سياسيا في العالم بما في ذلك جامعة الدول العربية)، فإن داخل الاتحاد الأوروبي بلدانا قريبة من الولايات المتحدة ومن إدارتها الحالية والتي قد ترى بمنظار السياسة ما رأته لندن قبل أيام.
تكتشف بريطانيا أن حزب الله التابع، سياسيا وعقائديا وعسكريا وماليا، لإيران هو تنظيم إرهابي، تماما كما تراه واشنطن منذ زمن. بيد أن بريطانيا لا ترى مع ذلك أن إيران الراعية للإرهاب، وفق التوصيفات الأميركية، هي دولة إرهابية. وفي ذلك تناقض بنيوي في قرار جاويد وحكومته في اعتبار الفرع شراً فيما الأصل ينعم بصفة الدولة التي زارها وزير الخارجية جيريمي هنت في نوفمبر الماضي. لكن الأدهى من ذلك أن إيران نفسها لا تقيم الدنيا وتقعدها رداً على قرار لندن طالما أنها، بصفتها أصلاً، مستثناة مما ينال من أحد تفرعاتها أكان ذلك الفرع حزب الله هذه الأيام، أو أي جماعات أخرى تابعة في أيام أخرى.
على أن لندن تقدم لنا مزيدا مما تحتمله كلمة دبلوماسية من ماكيافيلية لم تخطر على بال صاحب "الأمير". ذلك أن وزير الخارجية البريطاني يوضح لنا أن قرار وضع حزب الله (وجناحه السياسي خصوصا) على لوائح الإرهاب لن يؤثر على خطط بلاده لدعم لبنان وحكومته. لا نعرف كيف ستتعامل لندن مع "حكومة حزب الله" وفق بعض التوصيفات اللبنانية، ولا نعرف كيف ستتعامل الحكومة البريطانية مع حكومة لبنانية تشمل وزراء تابعين لحزب إرهابي، وفق توصيفات لندن نفسها.
تستفيق لندن على أمر مرتبط بحسابات بريطانية مترجلة. يذكر اللبنانيون أنه فيما كانت موجة الاغتيالات تجتاح بلدهم منذ محاولة اغتيال الوزير مروان حمادة انتهاء باغتيال الوزير محمد شطح مرورا بزلزال اغتيال الحريري، وفيما كانت المحكمة الدولية الخاصة (المشكلة من قبل مجلس الأمن الذي تتبوأ فيه بريطانيا مقعدا دائماً محصنا بحق فيتو) تصدر بيان الإدعاء على أعضاء من حزب الله في قضية اغتيال الحريري، كانت شوارع العاصمة لندن تشهد تكرارا عراضات ترفع أعلام الحزب بحراسة رجال الشرطة البريطانيين. لم ير اللبنانيون في ذلك إلا تواطؤا عنوانه المصالح مع إيران، وهم في هذه الأيام، وإن يلحظوا هذا التطور البريطاني، ينظرون بعدم ثقة إلى مزاج طارئ قد تطيح به حسابات أصحاب الحسابات.
لبنان الرسمي لم ير في الأمر شيئا كبيرا. هو شأن بريطاني لا يعنينا (سعد الحريري) ولن يؤثر على علاقات لندن ببيروت (جبران باسيل). العالم يتغير ولبنان لا يريد تصديق ذلك. ربما في ذلك وجهة نظر محقّة متأسسة على سوابق دولية مخيبة للآمال.