حازم صاغية يكتب:

العالم من زاوية جنوب آسيا

شهدت الأيّام القليلة الماضية ثلاثة أحداث "آسيويّة" تبعث على قلق مشروع:
ففي جنوب القارّة الشرقيّ، فشلت قمّة فيتنام بين الرئيسين الأمريكيّ والكوريّ الشماليّ، دونالد ترامب وكيم جونغ أون، حول التسلّح النوويّ الكوريّ، والعلاقات بين البلدين استطراداً. هكذا بدأ الكوريّون سريعاً العمل على إعادة بناء موقع سوهاي النوويّ الذي سبق أن عُطّل جزئيّاً. أمّا في جنوب القارّة الغربيّ، فكادت تنشب حرب جديدة بين الهند وباكستان بعد إسقاط الثانية طائرتين للأولى واحتجاز طيّار هنديّ. ولئن أمكن تطويق التوتّر الأخير بتضافر الجهود الإقليميّة والدوليّة، فإنّ احتمالات انبعاثه خصبة ومتعدّدة الأسباب. وعلى الجبهة الاقتصاديّة، حرمت الولايات المتّحدة الهند من المعاملة التفضيليّة في ما خصّ بعض صادراتها إلى سوقها. حصل هذا فيما لا تزال الحرب التجاريّة الأمريكيّة – الصينيّة على قدم وساق، والعلاقات الأمريكيّة – الباكستانيّة على شيء من التوتّر.

وحين نتحدّث عن منطقة جنوب آسيا بشطريها الشرقيّ والغربيّ، فإنّما نتحدّث عن تنوّع قوميّ وإثنيّ ودينيّ ولغويّ لا حصر له، وهذا فضلاً عن أنّ معظم القوى العسكريّة و/أو الاقتصاديّة في عالمنا اليوم قوى آسيويّة: الصين، اليابان، الهند، لكنّ أميركا – الباسيفيكيّة وذات الحضور العسكريّ والاقتصاديّ الكبير في الباسيفيكيّ – تنتمي أيضاً إلى جنوب آسيا، فيما روسيا، من خلال الصين واليابان وفيتنام والهند، موجودة هناك على نحو أو آخر.

ثمّة إذاً مصادر داخليّة وخارجيّة قابلة أن تعبّد الطريق إلى التوتّر والصدام، تماماً كما هي قابلة، في ظروف مختلفة، أن تعبّد الطريق إلى الاستقرار والتعاون.
والحال أنّ الصورة الأعرض لا تخفّف القلق، بل تضاعفه: هناك الصين ومشكلة أطماعها في جوارها، وتحديداً بحر الصين الجنوبيّ، وهناك المسألة النوويّة الكوريّة، فضلاً عن العلاقة المأزومة بين روسيا العملاقة جغرافيّاً وكلّ من الولايات المتّحدة وأوروبا. وإلى الغرب، هناك مشكلة كشمير (فضلاً عن باقي الحساسيّات الكثيرة) بين الهند وباكستان، والحرب الأفغانيّة المتواصلة منذ عقود في ظلّ أسماء وعناوين مختلفة.

صحيح أنّ حقبة الحرب الباردة كانت مجالاً مفتوحاً للتنازع الذي تسبّبت به الحرب الكوريّة والحرب الفيتناميّة والنزاع الروسيّ – الصينيّ المعطوف على النزاع الروسيّ – الغربيّ، بينما نشبت إلى الغرب حروب هنديّة – صينيّة وهنديّة – باكستانيّة، كما ولدت آنذاك الأزمة الأفغانيّة. وليس بلا دلالة أنّ الحرب الباردة نفسها إنّما افتُتحت في المواجهة الكوريّة كما انتهت مع إغلاق المواجهة الأفغانيّة. مع ذلك سجّلت تلك الحقبة والعقد الذي تلاها تحوّلات ضخمة لصالح التقدّم والسلام: قيام الديمقراطيّة في اليابان وما رافقه من تجربة اقتصاديّة لامعة ما لبثت أن اقتبستها، بوجهها الاقتصاديّ ثمّ الديمقراطيّ، بلدان "النمور" والتنانين" الآسيويّة. بعد ذاك، ولا سيّما منذ التحوّل الصينيّ الذي أحدثه دينغ هسياو بنغ في آواخر السبعينات، انطلقت عمليّة أدت إلى إخراج مئات ملايين الصينيّين والهنود من ربقة الفقر والجوع إلى البحبوحة والغنى. أمّا الهند تحديداً، فكانت تجربتا البانديت نهرو وابنته أنديرا غاندي تقدّمانها مثالاً، لا للديمقراطيّة في آسيا فحسب، بل أيضاً لبناء نموذج تعدّديّ (دينيّاً وقوميّاً ولغويّاً) ناجح.

طبعاً بمكن تقديم الكثير من الأمثلة والأمثلة المضادّة الأخرى عن الوجهتين، وجهة التوتّر التي تجعل الحرب والدمار احتمالاً في الأفق، ووجهة الاستقرار التي تتيح التقدّم نحو أفق ديمقراطيّ وانفراجيّ في علاقات الشعوب والدول. للأسف، تبدو الوجهة الثانية اليوم مسدودة أو قريبة من الانسداد. الوجهة الأولى خصبة وولاّدة.