عبدالوهاب بدرخان يكتب:

العرب بين قمّتَين: تونس 2004 وتونس 2019

مؤتمرات القمة العربية لا تثير اهتمام أي عربي من المحيط إلى الخليج، وهذا موقف مزمن لم يستجدّ بسبب الارتباك العربي في التفاعل جماعياً مع الانتفاضات الشعبية بدءاً من العام 2011 وقد برز فيها الشباب، ولا بسبب العجز عن حلِّ أي من الأزمات التي تحوّلت إلى حروب أهلية، فضلاً عن البلبلة التي انتابت المواكبة العربية لتطورات «عملية السلام» بين الفلسطينيين وإسرائيل، ما شكلّ أكبر الأخطار على «القضية المركزية» التي يواصل الثنائي دونالد ترامب – بنيامين نتانياهو إفراغها من محتواها، إلى أن بلغا الآن حدّ تغيير وضع الجولان السوري من احتلال إسرائيلي كما يقرّ القانون الدولي إلى «سيادة إسرائيلية» وفقاً لترامب وزمرة المتعصّبين المحيطين به.

كان اعتداء الرئيس الأميركي على تاريخ القدس وهويتها وما تمثّله للشعب الفلسطيني وحقوقه الإنسانية وللمسلمين عموماً، باعترافه بها عاصمة لإسرائيل، أدّى إلى جعل القمة الـ 29 في الظهران «قمة القدس» كردٍّ عربي رافض للقرار الأميركي، الذي لم يلقَ من المجتمع الدولي سوى الرفض أيضاً، فهل تسمى قمة تونس بعد أيام «قمة الجولان» وهل يكفي ردّ الفعل هذا لاعتبار أن العرب ضنينون بحقوقهم في مواجهة الصلف الأميركي – الإسرائيلي؟ الخطر في قرارات هذه الإدارة أنها تجرّد القانون الدولي من أي قيمة عملية أو أخلاقية، والأخطر أنها ترفّع الانتهاكات والمخالفات الإسرائيلية إلى مرتبة الأمر الواقع المحصّن أميركياً، كما أنها تنعش الشحن الآيديولوجي الإيراني.

يبدو الثمن الذي يدفعه الشعب الفلسطيني وتدفعه سورية كدولة كأنه ضريبة ضعف العرب وانكشافهم بعد التحوّلات التي دهمتهم داخلياً في إطار ما سمّي «الربيع العربي»، وضريبة الغرق في الانقسامات حيال إيران وتدخّلاتها التي تفوّقت على إسرائيل بالإجرام والتخريب. هناك من يخشون أن تقود المواجهة الأميركية مع إيران إلى تقارب بينهما في نهاية المطاف، فهذا منطق الصراعات ومؤدّاها، وأن يقود هذا التقارب أيضاً إلى أثمان يدفعها العرب أيضاً لسلامٍ ما، قد يُدرَك وقد لا يُدرك.

انطلاقاً من هذه الاعتبارات تبدو المشاعر والانفعالات السلبية حيال القمة العربية بالغة العفوية والتلقائية، فالعربي كمواطن مكلوم يبحث عن فاعلية، وفي أسوأ الأحوال عن تضامن تفاعلي بين القمة والمجتمعات التي كبرت همومها بتعاظم الأخطار، لكن الانطباع العام لدى النخب والشارع يكاد اليوم أن يكون واحداً: يلتقون في القمة بروتوكولياً لتأكيد أن ثمة روابط لا تزال تجمعهم، ويعملون خارجها متفرّقين ومتناحرين كما لو أنهم لم يلتقوا أبداً.

في تونس، أقرّ عام 2004 «بيان مسيرة التطوير والتحديث في الوطن العربي» بعد خلافات استلزمت تأجيل موعد القمة، ففي أو اخر آذار (مارس) بدأ وزراء الخارجية اجتماعهم التحضيري قبل يوم من وصول القادة بمراجعة مسودة ذلك البيان، وفجأة دخل عليهم مسؤول تونسي ليطلب فضّ الاجتماع بأمر من الرئيس السابق (المخلوع) الذي لم يعجبه مسار النقاش وأراد موافقة الوزراء على البيان بالصيغة التي قدّمت إليهم، وقيل آنذاك إنها صيغة أميركية مطابقة لما كانت واشنطن تروّجه من دعوات إلى الإصلاح الاقتصادي و«الدمقرطة» السياسية. وحتى بعد التوافق على صيغة معدّلة لم يخلُ انعقاد القمة مطلع أيار (مايو) من مناقشات حادة، وتضمن البيان عناوين لـ«التطوير والتحديث»، منها مثلاً «تحقيق أسس الديموقراطية والشورى وتوسيع المشاركة في المجال السياسي والشأن العام، واحترام حقوق الإنسان، بما يدعم دور المجتمع المدني والمنظمات غير الحكومية»، ومنها أيضاً «مواصلة الإصلاحات الاقتصادية للارتقاء بمستوى معيشة الشعوب العربية ورفع معدلات النمو الاقتصادي، وتفعيل دور القطاع الخاص، وتبني الاستراتيجيات والخطط والقوانين اللازمة للإسراع بإنجاز السوق العربية المشتركة…»، مع إشارات إلى الاهتمام بشؤون الشباب وأوضاع المرأة…

ستة أعوام كانت الفاصل بين هذا البيان الذي بدا إقراره شكلياً وبين تفجّر الانتفاضات الشعبية، بدءاً من تونس نفسها أواخر 2010، لتصبح تلك التوصيات المعدّلة والمخففة والمموّهة محور حديث الشارع وأهدافه ومثار صراعات لم ينجلِ غبارها بعد. كانت القمم التالية، بما فيها تلك التي انعقدت في الجزائر والخرطوم ودمشق وسرت، أعادت تأكيد الحاجة إلى الإصلاحات، لذلك يجدر التساؤل هل كانت الدول المأزومة أساساً لتتفادى الاضطراب الذي عرفته وتعرفه لو أنها التزمت تلك التوصيات. القمة لا تملك سلطة الإلزام، لكن كل دولة تملك خيار الالتزام بما يناسبها ووفقاً لخصوصياتها، أما عدم الالتزام وتجاهل التوصيات ومواصلة النهوج على ما فيها من ظلم واستبداد فأظهرت التجربة أنها لم تكن فقط خيارات خاطئة بل أدّت إلى كوارث.

منذ 2011 لم يجرِ أي نقاش على مستوى عربي، ولم تُمكَّن الجامعة العربية من تفعيل أي خطة للتعامل مع التحوّلات الحاصلة، ولو من قبيل المساعدة وتوفير الخبرات. كانت ولا تزال هناك حاجة إلى توافق على قيم ومبادئ عامة للإصلاح بحيث تشكّل أسساً لـ «نظام عربي جديد» ينبثق من التوافقات الداخلية التي تقوم عليها الأنظمة الجديدة، وحين تحوّلت الانتفاضات الشعبية إلى حروب أهلية في ثلاثة بلدان سجّلت محاولة واحدة قادتها الجامعة في سورية، لكنها أُجهضت سريعاً لمصلحة تدويل مستمر من دون نتائج، مثلما هو التدويل في ليبيا واليمن. ولعل الأسوأ في هذا المجال أن مسارعة الإسلاميين إلى تصدّر المشهد حيثما حصلت انتفاضات أدّت إلى انقسامات مجتمعية وحكومية تسفّه الحراكات الشعبية وتفضّل عودة الأنظمة السابقة.

في قمة تونس 2004 كانت هناك، مثلاً، قرارات تؤكّد «الالتزام بمبادرة السلام العربية واعتبارها المشروع العربي لتحقيق السلام العادل والشامل والدائم، ورفض المواقف التي تتعارض معها ومع قواعد الشرعية الدولية ومرجعيات عملية السلام»، وتشدّد على أن «عملية السلام قامت على أساس مبدأ الأرض مقابل السلام، ولا يحق لأي جهة مهما كانت أن تجري أي تعديل على أي من مرجعيات العملية السلمية لغايات التنصل من التزاماتها أو التراجع عما وقّعت عليه من اتفاقات»، وتعتبر أن «أي تعديل أو مساس بمرجعيات عملية السلام يعتبر استباقاً غير مقبول لنتائج المفاوضات، وانتهاكاً للحقوق الوطنية المشروعة للشعب الفلسطيني»، بل تؤكد باسم القادة «عروبة القدس وعدم شرعية الإجراءات الإسرائيلية لضمها وتهويدها وتغيير طبيعتها وتركيبتها السكانية والجغرافية»، كما أنها في سياق دعمها قرار المجتمع الدولي إعادة كامل الجولان العربي السوري المحتل إلى خط الرابع من حزيران (يونيو) 1967، ترفض «كل ما اتخذته سلطات الاحتلال الإسرائيلي من إجراءات تهدف إلى تغيير الوضع القانوني والطبيعي والديموغرافي للجولان المحتل، ويعتبرون هذه الإجراءات غير قانونية ولاغية وباطلة»…

كل هذه القرارات/الالتزامات العربية تبدو اليوم محل تساؤل وتشكيك وتراجع، على رغم أن الحقوق المشار إليها لم تعد إلى أصحابها، بل جعلها الثنائي ترامب – نتانياهو في مهب الريح، ومهما بلغ إصرار المجتمع الدولي الآن على تغليب القانون والشرعية الدوليين فإنه يميل في نهاية المطاف إلى تسويات تخلّصاً من استفراد الولايات المتحدة كل دولة على حدة للتنمّر عليها وابتزازها. ومثلما أجمعت الآراء سابقاً على أن إيران هي المستفيدة، بعد إسرائيل، من قرار ترامب في شأن القدس، تجدّد هذا الاجماع غداة قراره بالنسبة إلى الجولان، بل بدا كما لو أن هناك سباقاً بين إيران وتركيا، فالأولى تدعو إلى «تعاون إقليمي» ضد هذا القرار والثانية تسعى إلى تبني نقله إلى مجلس الأمن. أمام العرب فرصة في قمة تونس لتطوير موقفهم في الدفاع عن القدس والجولان، كما في قطع الطريق على الخطة المسماة «صفقة القرن»، لأن التهاون في المصلحة العربية العامة يفتح الأبواب لتدخّلات شتّى.