محمد قواص يكتب:
هل فعلا يريد ترامب التفاوض مع إيران؟
يتفهم المراقب ألا تذهب إيران إلى طاولة المفاوضات. يُجمع النظام الإيراني، بمرشده ورئيسه، بمحافظيه ومعتدليه، على أن أي حديث عن مفاوضات بشأن ملفات سبق لطهران أن أكدت أن لا تفاوض عليها، يشبه تلك البيريسترويكا التي خرج بها الزعيم السوفييتي ميخائيل غورباتشوف في الثمانينات، فأسقطت الاتحاد السوفييتي وكل المنظومة الدولية حوله بعد سنوات.
ونكاد نعتقد أن انسحاب الرئيس الأميركي دونالد ترامب من الاتفاق النووي في مايو 2018 وإعلان وزير خارجيته مايك بومبيو للشروط الـ12 بعد ذلك بأسابيع، قصدا تعقيد كل السبل التي قد تفكر إيران في سلوكها للنزول عن الشجرة. لم يكن من السهل تخيّل أن تقوم طهران بالاستجابة لإملاءات واشنطن وهي التي ما برحت منذ قيام الجمهورية الإسلامية تناصب الولايات المتحدة عداء وجوديا، وتتبرع بمواجهة ذلك “الشيطان الأكبر” في العالم.
الصراع بين واشنطن وطهران صراع إرادات. روحاني يتحدث عن “الصبر الإستراتيجي”. ترامب يقول إنه ليس مستعجلا.
إيران هي الوحيدة التي تعرف أن أمر الانقلاب الخطير الذي قامت به الولايات المتحدة ضد الاتفاق النووي ليس مزاجا يطال بندا من هنا وبندا من هناك داخل نص الاتفاق، بل إنه يقارب وجود ودور ووظيفة إيران، وينهي عقودا من التعايش الغربي مع دولة ولاية الفقيه. وفي ما نقله رئيس وزراء اليابان، وبعده وقبله، موفدو عُمان وألمانيا وسويسرا وفرنسا، وفي ما نقلته القنوات الخلفية بين البلدين ما لا يشجع إيران على اقتراف خطيئة العبور إلى المفاوضات.
لن تستطيع إيران الصمود طويلا أمام موجات العقوبات المؤلمة التي لا تنتهي، والتي ما برحت واشنطن تفرضها دون كلل. هذا سلاح واشنطن الأول والأخير، حتى لو أن صولات وجولات عسكرية واكبت ذلك يوما ما. تدرك طهران بقلق أن الاقتصاد الإيراني يتصدّع على نحو بنيوي بعد عام على بدء إطلاق حزم العقوبات من واشنطن. ويسود تساؤل داخلي حول ما سيكون عليه حال هذا الاقتصاد في العام الثاني. قد لا تعرف منابر الخارج بدقة حقيقة النزيف الداخلي الذي تحدثه عقوبات ترامب. وحدها طهران تعرف حقيقة ذلك.
أن تفرض واشنطن عقوبات على المرشد علي خامنئي، فهذه إشارة خطيرة قد تعني أنّ الولايات المتحدة التي لطالما أكدت وألحّت أنها لا تريد تغيير النظام بدأت تراجع هذه القراءة، وأن “معاقبة” الزعيم الوحيد الذي من شأنه “تجرّع سم” المفاوضات تهدف إلى إحراجه ودفعه نحو مواقف أكثر تشددا في رفض هذا التفاوض.
وأن تُفرض عقوبات على وزير الخارجية محمد جواد ظريف، فذلك يعني أيضا أن واشنطن باتت لا تفرق، ولا تريد أن تفرق، بين جناح محافظ وآخر معتدل حتى لو كان أحد وجوه الاعتدال وجه ظريف المبتسم.
وأن تفرض واشنطن عقوبات على 8 من جنرالات الحرس الثوري، فذلك أن واشنطن التي تتهم الحرس بالوقوف وراء كافة العمليات العسكرية والأمنية الأخيرة، باتت تستفز هذه الذراع العسكرية الأمنية الإيرانية وتستدرجها نحو تهور أكبر.
تسعى إيران لفك الخناق الاقتصادي من خلال نقل الصراع إلى مستوى أمني عسكري يمكن أن يقلق العالم. كرر جنرالات الحرس الثوري الإيراني التهديد بإغلاق مضيق هرمز. ولمن لم يفهم هذا التهديد أعاد ظريف صوغه بعبارات واضحة “إذا مُنعنا من تصدير نفطنا فلن نسمح لنفط الآخرين بالمرور”. ولمن لا يصدق التهديد ويعتبره تهويلا، فإن ناقلات نفط اشتعلت في مياه خليج عمان. وما أُريد له أن يكون رداً إيرانيا مقلقا بالنسبة لواشنطن، قابله ترامب باستخفاف كبير.
يعلن الرئيس الأميركي أن بلاده تتفوق على كافة بلدان العالم في إنتاج النفط والغاز، وأنها تتفوق في ذلك على السعودية وروسيا. “لا نحتاج إلى مضيق هرمز″، يقول. يتابع أن المستفيد الأول من المضيق هي الصين، ذلك أن 91 بالمئة من مستورداتها من الطاقة تأتي من هناك. أضاف الرجل أن اليابان وإندونيسيا ودول أخرى تحتاج إلى هذا المضيق و”نحن نقدم لهم خدمة كبرى بإبقائه مفتوحا”. ترامب لا يهمه المضيق، وما يريده فقط، وفق أحدث مواقفه، أن لا تمتلك إيران السلاح النووي وأن لا تستهدف مصالح أميركية لأن الرد سيكون كاسحا. يأتي رد روحاني “لا نريد حربا”، ويأتي رد ظريف “لا نصنع سلاحا نوويا”.
إيران تهدد الممر الدولي. ترامب لا يقلق، ويرى أن على المستفيد من هذا الممر أن يقلق. لم تعد ورقة مضيق هرمز ورقة إيرانية رابحة بيد طهران في صراعها مع واشنطن. بدا أن هذه الورقة صارت عبئا تخافه دول مفترض أن تعوّل طهران على تضامنها ودعمها ضد ضغوط الولايات المتحدة.
قد لا تقلق إيران كثيرا من الموقف الأميركي، بقدر قلقها من مواقف بقية عواصم العالم لاسيما الحليفة منها.
في عزّ الضائقة الإيرانية تخرج الصين ببيان مُملّ يدعو كافة الأطراف إلى ضبط النفس. وفي عزّ هذه العزلة التي تعاني منها إيران ترسل روسيا سكرتير مجلس الأمن الروسي ليلتقي نظيريه الأميركي والإسرائيلي في القدس للمشاركة في حضور اجتماع ملتبس هدفه المعلن مواجهة النفوذ الإيراني في سوريا. تكتشف طهران أيضا أن كافة “فاعلي الخير” الأجانب الذين جاؤوا للتوسط لم يفعلوا ذلك، بل حملوا رسائل أميركية حادة وتبرعوا بالنصح بالاستجابة.
باتت كافة العواصم مقتنعة أن نسخة إيران التي صدرت عام 1979، حين انتصرت الثورة الإيرانية بقيادة روح الله الخميني، قد تقادمت، وأنه بات لزاماً تغيير ذلك النهج، ولما لا تغيير ذلك النظام برمته. تشعر الصين وروسيا أن إيران عامل غير مفهوم في مستقبل الخارطة الدولية وأنها ليست رقماً مضمونا في خارطة الصراع التقليدي مع الولايات المتحدة. فأن تمتلك إيران سلاحاً نوويا فذلك يمثل خطراً إستراتيجيا مباشراً وعاجلا على البلدين، ولا يمثل ذلك بالنسبة للولايات المتحدة.
يقول ترامب إن بلاده تقدم خدمات للمستفيدين من مضيق هرمز الذي لا تحتاجه الولايات المتحدة. وفي ما لا يقوله فإن بلاده تقدم خدمات للصين وروسيا، ودول أخرى طبعا، في الموقف الذي اتخذه منذ أكثر من عام والذي حوّل إيران من دولة يتوسّع نفوذها ويتصاعد وهجه، إلى دولة مرتبكة تنشد عون الأصدقاء وترفع أسوارها خوفا من انهيار قد يصيب نظامها.
بيد أن الخطر الحقيقي القاتل هو ذلك الداخلي الخامد حتى إشعار آخر. خرجت المدن الإيرانية التي ينتمي أغلبها إلى التيار المحافظ المتشدد في الخريف الماضي في مظاهرات كبرى احتجاجا على الوضع الاقتصادي في البلاد. وللمفارقة كان موقف المتشددين والمعتدلين واحد في إدانة هذا الحراك واعتباره غوغائيا. بعضهم وضع الأمر داخل سياقات غير محسوبة ضد الرئيس حسن روحاني وحكومته. حينها كان اللوم مركزا على سوء أداء روحاني وفريقه، وحينها لم يكن أولي الحكم في طهران يودون الاعتراف أن لمصائب الداخل علاقة بالسياسة الخارجية التي تعتمدها إيران في مقاربة الجوار والعالم.
لم يتحرك هذا الشارع حتى الآن على رغم ضراوة العقوبات. تبدل خطاب الحاكم. باتت مآسي البلاد مرتبطة بشراسة بما يمارسه الخارج و”الشيطان الأكبر”، وأن أي احتجاج بيتي سيُعتبر خيانة وتعاملا مع الأعداء. لم يتحرك هذا الشارع لكنه سيتحرك. قد لا يعرف الخارج طبيعة التململ الداخلي وحساسيته. إيران تعرف ذلك وتدرك تفاصيله وتخشى من خروج المارد من القمقم.