رشيد الخيُّون يكتب:
الدِّين العبادة.. لا يحتاج إلى شعبية
كانت وما زالت تُقاس منزلة المرجع الدِّيني بعدد المُقلّدين والمتابعين لمجالسه وقراء كتبه؛ مِن المطمئنين لاجتهاده، وعدد المصلّين خلفه، بل إن آخرين يقيسون المنزلة أو الجماهيرية بعدد المشيّعين عند وفاته.
فكثرة العدد تُعبّر عن الحظوة لدى النَّاس. تتكوّن حالة من الانبهار بالفقهاء، حتى يصبح كل ما يقولونه مقدسا، لكن لم يستمر هذا إلى ما لا نهاية، فتبدل الزَّمن وأدواته له تأثير مباشر في هذه الظَّاهرة.
فعندما تقدّم فقهاء لتحريم المنجزات العلمية، كركوب القطار والسيارة، واستعمال التلفزيون والراديو والميكروفون وغيرها من الأدوات والوسائل الحديثة، على أنها أدوات فساد، لم يجد الفقهاء المفتون بحرمتها جمهورهم مطيعا، فتعايشوا معها، وصاروا يستخدمونها، فليس هناك مَن يُلقي درسا أو خطبة دون تسجيلها ونشرها عبر الأثير، ولا تؤدى صلاة الجماعة بلا ميكروفون، ناهيك عن الأذان، الذي أصبح منعه عبر مكبرات الصَّوت، بسبب الإزعاج، حرابة على الإسلام.
فمهما كانت الصَّحوة الدِّينية مؤثرة فإن هناك وجودا لتأثير التَّقدم الاجتماعي والعلمي؛ يجعل من تلك الصَّحوة لمجرد وقت معين، وتظهر وتتسع بسبب ظرف محدد، وعند زواله تأخذ بالانحسار. فلا يبقى المجتمع مرتهنا لها وهو يستخدم أرقى الأدوات والوسائل، وكلما اعترض رجال الدِّين على أسلوب الحياة الحديثة يتراجع جمهورهم، ويتحدّد تأثيرهم.
فكم عارَض رجال الدِّين في العراق ظاهرة “السفور” التي بدأت منذ عقد الثلاثينات من القرن الماضي، لكنها اتسعت داخل المدن، والسبب لأن الحياة الجديدة التي ظهرت بعد الفترة العثمانية، لا تسمح لرجل الدِّين بالتَّحكم في المجتمع، ولأن المجتمعات التي كانت منضوية تحت سيطرة الدَّولة العثمانية تحررت فظهرت ردة الفعل، بحركة تنويرية سريعة، كخروج على وصايا رجل الدِّين وتقاليد القبيلة، وهذا يتضح في الانقلاب التركي على التقاليد التي كانت سائدة في العهد العثماني.
لكن عندما انكسرت الحركة التنويرية بوجود ظروف بالمنطقة، هلت الصحوة الدينية كانقلاب إلى ما قبل التنوير، وهذه المرة لم يتقدمها رجال الدِّين إنما تبنتها الأحزاب الدينية، المتمثلة بظاهرة الإسلام السِّياسي، فعاد التَّحكم بالمجتمع عن طريق التنظيم الحزبي، ومِن أول شروطه “التَّدين”، بإشاعة حجاب النّساء، وتكريه النَّاس في الغناء والموسيقى، واعتبار ما حصل من تنوير ما هو إلا عودة إلى الجاهلية قبل الإسلام. غير أن الظروف التي صعد الإسلام السياسي بها، وشاع التدين الموجّه أيديولوجيا، ستنتهي عاجلا أم آجلا، وبالفعل بدأت ظاهرة الانسحاب مِن تلك الأحزاب ومِن التَّدين الذي أشاعته، وأيضا بدأ انكماش جمهور رجل الدِّين لسببين:
أولا: التصادم بين الأفكار التي تُقدمها الأحزاب الدينية ويُفتي ويعظ رجل الدين من جهة والتَّقدم العلمي على مستوى العالم من جهة ثانية.
ثانيا: صعود الأحزاب الدينية في أكثر من مكان إلى سدة السُّلطة، وفشلها الذَّريع في تقديم نموذج العدالة والحقّ اللذين كانا دعايتها للكسب، مما حُسب فشلها على الدِّين نفسه.
على أي حال، إن الدِّين نفسه كعبادة لا يحتاج إلى شعبية، لأنه يخصّ الفرد وعلاقته بالله، لكنّ الذي يحتاج إلى شعبية هو الحزب الدِّين ورجل الدِّين، وهذه تنشط وتنحسر وفق الظّروف، فكلما اشتد الفقر وكثرت الحروب وساد الجهل يكون الصعود، وعكس ذلك يكون الانحسار، لهذا فإن الحزب الدِّين ورجل الدِّين غير بريئين مِن الصَّد عن الدِين، وحالات الإلحاد بل والعداء للدين، والسبب لأن الدِّين قُدّم عن طريق رجال الأحزاب والفقه. يقول الجوهري (ت1997) معبّرا عن هذه الحال “وهل قضت الأديان أن لا تُذيعها/على النَّاس إلى هذه النّكرات” (الرَجعيون 1929)، أي أن من يستغل الدِّين لصالح حزبه وشخصه، تكون ردّة الفعل على الدِّين أولا.