محمد قواص يكتب:

حرث باسيل.. وحصاد حزب الله

لا يمكن للعقل أن يقبل أن حراك جبران باسيل الحيوي هدفه فقط الزحف الحثيث نحو قصر بعبدا. بل إن أي تأمل حقيقي لدينامية هذا الرجل تقودنا، منطقيا، إلى استنتاج استحالة أن يصبح صهر الرئيس ميشال عون خليفة له في رئاسة الجمهورية. أبجديات العمل السياسي تطالب المرشح لمنصب حساس بهذا المستوى باعتماد سلسلة من المواقف “الرئاسية”، وتفرض عليه تموضعًا جديدا يليق بالمنصب المُتوخّى، ناهيك عن أن لأمر الرئاسة في لبنان قواعد ومعايير أخرى تستلزم فائض حنكة وحصافة ودهاء. لم يحتج ميشال عون العمّ إلى كل ذلك لكي يصبح رئيسا، فلماذا يحتاج باسيل الصهر إلى ذلك.

فرضت التوازنات، الداخلية والخارجية، رؤساء الجمهورية في لبنان. تلاقت إرادات الخارج البعيد والخارج القريب دوما لإنتاج شخصية أمكن لها تسويق نفسها خيارا “مقبولًا” لدى التيارات السياسية في البلد. والتيارات في لبنان، ليست يسارا ويمينا ولا وسطا وراديكالية كما هي التصنيفات التقليدية في دول العالم، بل هي خليط من طوائف ومذاهب وعشائر وبيوتات سياسية عتيقة.

لم تغب عن بال المسترئسين يوما حكاية تشكّل لبنان من جبلة وولاية بيروت والأقضية التابعة، ولا واقعة ولادة لبنان من مسار تاريخي راجت فيه الإمارات المتتالية وعهود المتصرفية وما بعدها، ولا الكوابيس المأساوية للاقتتال الفتنوي الداخلي سواء ذلك القديم الشهير عام 1860، وصولًا إلى ذلك الحديث الذي تفجر في ما عُرف بالحرب الأهلية (1975 – 1990)، وانتهاء بمواجهات أهلية لم تنته مُذّاك.

من أراد أن يكون رئيسا للجمهورية في لبنان عليه أن يكون مارونيا. هذا هو العرف الذي انتهجه اللبنانيون منذ الاستقلال. لكن مارونية المرشح ليست كافية لإقناع المسيحيين أنفسهم قبل إقناع بقية الطوائف في البلد بجدارته رئيسا للبلاد. ولطالما كان على هذا الماروني أن يمسك بنقطة التقاطع العبقرية التي يلتقي عندها اللبنانيون بكافة تياراتهم وطوائفهم، وتلتقي داخلها اللحظة الدولية التي لا يملك لبنان إلا أن يكون مطيعا لقوانينها. فما الذي يُعدِّه جبران باسيل لكي يكون الرجل المناسب لتيك النقطة وتلك اللحظة.

لا يمكن لعاقل أن يُصدق أن باسيل الذي يشنّ حملة ضد السنّية السياسية يوما، وضد الشيعية السياسية و”بلطجة” نبيه بري يوما ثانيا، وضد الدرزية السياسية وزعامة وليد جنبلاط يوما ثالثا، هو بصدد إعداد الرئاسة المقبلة لنفسه. ما المصلحة في البكاء على مُلك مزعوم سلبه السنّة من المسيحيين؟ وما المصلحة في معاداة شيعة حركة أمل وزعيمها؟ وما الحكمة من العبث بالتوازنات الدرزية كرافعة من رافعات فتح أبواب بعبدا أمامه؟ وما غنائم كل ذلك في حسابات المرشح المُسترئس؟

استقوى ميشال عون طويلا بتحالفه مع حزب الله. دافع عن “فائض القوة” ودافع عن “الدويلة” ودافع عن منطق الميليشيا كإستراتيجية يحتاجها لبنان ضد إسرائيل. رسم الرجل خرائطه وفق الوجهة التي تصله ببعبدا. ورغم تلك القوة غير المسبوقة التي يملكها للهيمنة على قرار الحكم والحرب والسلم، لم يستطع حزب الله أن يفرض عون رئيسًا للجمهورية. استطاع الحزب بنجاح أن يمارس ما يجيده. عطّل الحياة السياسية وقطع طريق بعبدا على المنافسين حتى الحلفاء منهم للحزب، لكنه لم يستطع أن يفرضه على لبنان رئيسا. عرف عون ذلك.

كان على الرجل أن يمر من خلال مصالحة مسيحية جرى ترتيبها بصبر وأناة ومثابرة جمعته بخصمه اللدود زعيم حزب القوات اللبنانية سمير جعجع. كانت تلك المصالحة مع المسيحيين ضرورة لمنح عون شرعية العبور نحو تمثيل الموارنة في رأس السلطة في البلاد.

وكان عليه أن يمر من خلال صفقة موجعة مع سعد الحريري بصفته الزعيم الأول للسنّة في لبنان. كانت تلك الصفقة تاريخية في ظروف تشكّلها وتعقّد تسويقها لتخصيب عون بشرعية العبور الوطني ما فوق الماروني إلى بعبدا. فعلى ماذا يعوّل باسيل الذي واكب تلك الصفقات وخبر عقدها لتحقيق طموحه الفجّ في وراثة عمه واستباق احتمال غيابه.

وإذا كان علم المنطق يجد تناقضا بنيويا ما بين طموحات باسيل ووِرَشِهِ لتحقيق ذلك، فلحساب من يجتهد باسيل لتفجير الفتنة هنا وهناك، والسعي لتفخيخ التمثيل السياسي للطوائف وفي عقر دارها؟

قد يستنتج البعض أن في خطاب باسيل روحية بشير الجميّل العزيز على قلب الذاكرة الجمعية لكثير من المسيحيين، وأن خطاب استعادة حقوق المسيحيين يدغدغ مشاعر الجمهور المسيحي منذ إبرام اتفاق الطائف. غير أن استخدام لغة شعبوية تمسّ بعنصرية وطائفية أهل البلد والمقيمين فيه، والتي قد تلقى آذانا صاغية لدى الجمهور المسيحي قد تشدُّ حول باسيل عصبا مسيحيا لن يكون، ولم يكن يوما، شرطا من شروط الوصول إلى بعبدا، لا بل كان اشتداد العصب حول أي مرشح السبب الأول لحرمانه من منصب الرئاسة الأولى.

يستفيد باسيل من دعم حزب الله، كما استفاد عون من دعم حزب الله. يتأمل الحزب حراك باسيل بصمت خبيث.

لا يلعب باسيل أبدا خارج ملاعب الحزب. يضرب باسيل في الميادين التي يريد الحزب ضربها.

غمز باسيل بعنف من قناة السنية السياسية مستهدفا الحريرية السياسية وزعيمها سعد الحريري. خرجت مصادر الحزب ترفض أن يكون الحريري مكسر عصا. هكذا يتدخل الحزب مدافعا عن الخصم من ترهات حليفه.

لم يغضب حزب الله كثيرا ولم يضرب يدا على طاولة حين وصف باسيل حليف الحزب نبيه بري بأنه “بلطجي”، بل أخرج بيانا يكاد يكون خجولا رافضا تلك “الإساءة”.

وفيما يشوب علاقة وليد جنبلاط بحزب الله توتر، ينشط باسيل، على نحو مستفز وغير مبرر وغير منطقي في سياق حملة رئاسية، داخل جغرافيا الدروز وفضاء جنبلاط السياسي التاريخي. فهل يتحرك الحزب لقطف الثمار وتوفير حاضنة حنونة لبيك المختارة؟

لن يصبح باسيل رئيسا للجمهورية. الرجل يتمتع بذكاء ونباهة ويعرف جيدا أن الطريق التي يسلكها لن توصله إلى القصر الرئاسي. فلماذا يسلك هذا الطريق؟

يقدم الرجل خدمات مجانية لمنافسيه في السباق الرئاسي. لن يقبل لبنان رئيسا لا يعترف بأن الحرب الأهلية قد انتهت، وأن اتفاق الطائف بات ينظم الحياة السياسية اللبنانية. ولن يقبل اللبنانيون برئيس لا يعترف بحيثيات طوائفهم ومذاهبهم وبحساسيات الهويات المتعددة المتلامسة المتعايشة وفق معادلات دقيقة. يتلاعب جبران باسيل بتوازنات “الطائف”، فما مصلحته في التصويب على هذه التوازنات لتحقيق طموحه في أن يكون رئيسا لإحدى جمهوريات الطائف؟

هل يقف حزب الله خلف هذا التصويب، وضد هذه التوازنات ويعتبرها متقادمة يُعمل على قلبها؟

يلعب باسيل من حيث يدري أو لا يدري ومن حيث يخدم نفسه أو يخدم غيره على وتر الفتنة. الأمر ليس افتراضيا بل إن وقائعه كانت خطرة في قبرشمون في قلب “الجبل”. فهل يجوز أن تندلع حرب أهلية من أجل عيون الصهر الطموح؟ لا أحد يريد هذه الحرب، لا في الداخل ولا في الخارج. وبدا في الأيام الماضية أن إقفال بعبدا أمام باسيل بات ضمانة منشودة لمنع تقدم ظلال تلك الحرب من حاضر ومستقبل لبنان.

في إنجيل لوقا يقول السيد المسيح: “اغفر لهم يا أبتاه فإنهم لا يعلمون ماذا يفعلون”! باسيل يعلم جيدا ماذا يفعل.