أفرزت زيارة أمير قطر تميم بن حمد آل ثاني، إلى واشنطن، قبل عدة أيام، الكثير من الملاحظات التي تبيَّن تهافت السياسات الخارجية القطرية، عطفاً على الزيف والزور اللذين يلفان، حتى الساعة، الإعلام القطري الأحادي والموجه.
الذين تابعوا رحلة أمير قطر إلى واشنطن، راعهم منذ البداية الاستقبال الفاتر الذي لاقاه الضيف القطري، من حيث المكان وطبيعة المستقبلين، وبدا وكأن الزيارة برمتها لا تتعدى كونها مناورة تكتيكية من قبل ساكن البيت الأبيض يهدف من ورائها إلى التضييق على إيران، من خلال قطع الحبل السري الواصل بين الدوحة وطهران، والجميع يتذكر كيف اتهم الرئيس الأميركي دونالد ترمب، عام 2017، قطر، بتمويل الإرهاب، وتهديد المنطقة جزئياً، بسبب تحالفها مع الملالي.
وقفة انتباه ينبغي علينا أن نقفها مع مرويات الإعلام القطري، الذي لا قصة له صباح مساء، كل يوم، سوى ترويج الأكاذيب عن ضغوطات ترمب على الزعماء العرب، وخنوع وخضوع الجميع له، رغم أن القاصي والداني أدرك كيف كان رد العواصم العربية الكبرى ورؤساء وملوك العرب على مشروع «صفقة القرن»، ورفض التنازل عن حقوق الشعب الفلسطيني، وكانت المملكة العربية السعودية في مقدم المطالبين جهراً، لا سراً، بالدولة الفلسطينية المستقلة، وعاصمتها القدس، وبقية حقوق الشعب الذي يعيش «الدياسبورا» منذ عام 1948.
أفضل من عبَّر عن فحوى هذه الزيارة، وواقع حالها، وزير الإمارات للشؤون الخارجية الدكتور أنور قرقاش، الذي استنتج أن الرحلة جاءت بعكس ما كان مرجواً منها، لا سيما وأن قطر التي ترفع رايات السيادة الفاقعة في وجه محيطها الإقليمي المنسلخة عنه، لترتمي في أحضان إيران وتركيا، أهدرت هذه السيادة على عتبات البيت الأبيض.
أخرجت الزيارة حقائق ووقائع الإذعان القطري للولايات المتحدة من الظلال القاتمة إلى الأنوار التي تعمي، إذ لم يدارِ الرئيس ترمب، أو يوارِ، الإشارة إلى الحقائق، لا سيما تلك التي تتعلق بالإنفاق الأقرب ما يكون إلى الرشى السياسية، كما الحال مع قاعدة العديد التي أنفق القطريون 8 مليارات دولار على توسعتها من أموالهم، وليس من أموال دافعي الضرائب الأميركيين، والعهدة على سيد البيت الأبيض.
عن أي سيادة تتحدث قطر، وعلى أراضيها أحد عشر ألف عسكري أميركي في قاعدة العديد، أكبر قاعدة عسكرية للولايات المتحدة في الشرق الأوسط، والتي باتت تمثل المركز الرئيس والأساسي لانطلاق عملياتها الجوية في المنطقة.
ليس لقطر دالة على قراءة التاريخ أو القياسات السياسية لتحالفات الدول العظمى، وهي تظن أن تلك التوسعة وبقاء القاعدة، ضمانة للعلاقات الوثيقة بين البلدين، ما يعني ارتهان العلاقات القطرية لخدمة السياسة الأميركية في الحال والاستقبال.
يتحدث أمير قطر عن القيم المشتركة بين قطر وأميركا في عهد ترمب، ونحن بدورنا يحق لنا التساؤل عن تلك الأبجديات حال وجدت؟ فهل يؤيد على سبيل المثال قرار ترمب نقل السفارة الأميركية إلى القدس، والاعتراف بها عاصمة موحدة لإسرائيل، أم الاعتراف بالسيادة الإسرائيلية على الجولان، وهل يتماهى مع تطلعات البعض لتصفية القضية الفلسطينية والمحاولات التي أخفقت في مراحلها الأولى؟
ليس سراً القول إن السياسة القطرية مصابة بازدواجية أخلاقية قاتلة، ولم تتعلم الدرس من سابقيها، بمعنى فشل اللعب على المتناقضات، وبنوع خاص إذا جرت الأخيرة ضمن خطوط طول وعرض القوى العظمى.
الثنائية غير الأخلاقية في الرحلة الأخيرة فضحت التلون القطري، إذ أظهرت أن قطر تبدي اعترافاً مبطناً بحظوظ ترمب في الفوز بولاية رئاسية ثانية، في حين أنها سخرت ملايين الدولارات في الآونة الأخيرة لمرشحين ديمقراطيين على أمل إزاحة ترمب من البيت الأبيض، وانتخاب رئيس ديمقراطي يتماهى في سياساته معها، ومع حلفائها، لا سيما إيران وتركيا، وفات قطر أن الدول الكبرى تكتب ميثاقها بأفكار وتوجهات شعوبها، ولا تملى عليها الخيارات من الخارج.
البراغماتية غير المستنيرة من قبل القيادة القطرية تبدت في أسوأ مظاهرها عبر الهرولة القطرية إلى البيت الأبيض، وعقد تحالفات من دون مرتكزات حقيقية من الجغرافيا أو الديموغرافيا؛ مرتكزات لا تعرفها إلا الدول التي تنطبق عليها معايير الدولة «الويستفالية»، متخلية بذلك عن شراكات جوهرية مع الإيرانيين والأتراك.
أحد الأسئلة الرئيسية التي خلفتها الزيارة: ماذا ستصنع قطر حال تأزمت العلاقات إلى حد المواجهة بين أردوغان وترمب، وهي على الأبواب بالفعل، بعد تسلم تركيا المرحلة الأولى من الصواريخ «إس 400»؟
التقارير الاستخباراتية، في الفترة الأخيرة، تشير إلى أن قوات إردوغان تجوب قطر يومياً، وتمسحها مسحاً أمنياً ومعلوماتياً، وتبعث بتقاريرها للأغا العثمانلي، بصورة يومية، فهل سيجد أمير قطر نفسه بين المطرقة الأميركية والسندان التركي؟ هل سيطلب من الأتراك الرحيل؟ أيقوى على ذلك؟ أم يخسر رهانات التحالف مع العم سام، وقد رفع سقف الشراكة الاقتصادية مع واشنطن إلى 250 مليار دولار، منها 45 مليار دولار للعامين المقبلين فقط، وحتى يزخم نجاحات ترمب الاقتصادية في عيون شعبه.
مشهد آخر لا بد من التوقف أمامه في رحلة تميم إلى أميركا، ذاك المتصل بإعلام «الإخوان المسلمين» الذين لم ينفكوا يهاجمون ترمب وسياساته، ويتمنون له الفشل في الحل والترحال، فقد كان من الغريب صمت القبور الذي لازمهم، مع ما صاحب الرحلة من مخرجات، ما يؤكد أنهم فصيل غير وطني تحركه أهواء شاذة لا تعمل لصالح الأوطان، ويشملهم عوار أخلاقي وسياسي منذ زمان وزمانين.
الرحلة أضحت وبالاً على قطر، فقد دعت الأميركيين إلى فتح ملفات الأموال المشبوهة التي أغدقت على أميركا ومساربها، خصوصاً في سياق المؤسسات التعليمية والإعلامية، وهذه قصة أخرى.
الخلاصة… الولاءات لا تشترى… والهروب إلى الأمام لا يفيد.
الشرق الأوسط