عبدالرحمن الراشد يكتب:
الرياض بين موسكو وواشنطن
الاهتمام السعودي الرفيع بزيارة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين يحكي أشياء كثيرة، والاهتمام الخارجي بتتبعها متوقع في ظل التحولات المستمرة في مسارات العلاقات الدولية. من المبالغة القول إنه تحول سعودي عن علاقتها التاريخية والاستراتيجية مع الغرب، لكن هناك تغييراً سياسياً لا يخفى على العين. فهل هناك تحالف جديد تحت التأسيس؟ وهل هناك اتفاقات إقليمية بين العاصمتين؟ العديد من التساؤلات المهمة والمنطقية في ظل حالة عدم الاستقرار في المنطقة وتبدل التحالفات والانسحاب الأمريكي البطيء من المنطقة.
الملاحظ أن السعودية بدأت في السنوات القليلة الماضية ترسم سياستها الخارجية، بناءً على ملفات محددة، وليس وفق محاور سياسية محسومة. وزيارة الرئيس بوتين مجدولة منذ فترة، وليست نتيجة أزمة المواجهة مع إيران أو انسجاماً مع نتائج الأستانا للقضية السورية. هناك موضوعات مشتركة تستطيع الرياض وموسكو إنجاز مهام فيها أكثر من أي فريق آخر، مثل إدارة سوق النفط سعراً وإنتاجاً.
الروس والسعوديون يملكون معاً أكبر نفوذ، وباتفاق الجانبين، تم تجنب حروب الأسعار. روسيا قررت أن تكون لاعباً فاعلاً في منطقة الشرق الأوسط، والتفاهمات السعودية الروسية حالت دون انحراف سياسي ضد الرياض، وهي في رأيي مهمة صعبة دبلوماسياً، ونحن نرى ثمارها اليوم. ورغم أن موسكو تتبنى موقفاً مضاداً لكل ما تتخذه واشنطن، فإنها تبقى في انسجام في موضوعات مثل اليمن والسودان وليبيا والعراق.
الحقيقة أن الرئيس بوتين أظهر براعة في التعامل مع الأزمات المرتبطة بالمنطقة، وكان واضحاً في رسم تصوره للعلاقة مع السعودية، الدولة التي كانت تعد أقرب حليف للولايات المتحدة بين الدول العربية، طبعاً ولا تزال علاقتها قوية بواشنطن، لكنها لم تعد حصرية
ماذا عن تباين موقف البلدين في سوريا؟ الواقع القائم هناك هو الذي يفرض نفسه، كما كان الحال قبل ثماني سنوات عندما فرض نفسه بطريقة مختلفة، والسعودية لن تتخذ موقفاً منفصلاً عن الواقع، ولن تغرد خارج السرب هناك، فكل الدول الحدودية مع سوريا هي المعنية بالدرجة الأولى أكثر من السعودية؛ الأردن والعراق وتركيا، جميعها تموضعت وفق التطورات الجديدة على الأرض.
تركيا صاحبة الحدود الأطول، دفعت بالأمور إلى ما آلت إليه اليوم، وقبلت من خلال التفاوض مع الروس والإيرانيين بالوضع الجديد، وأصبح همها في ثلاث مسائل؛ التخلص من ثلاثة ملايين سوري لاجئ، والثانية قمع أي تجمع كردي مسلح قريب من حدودها، والثالثة السيطرة على المناطق النفطية السورية ما أمكن ذلك. السعودية بعلاقتها الجيدة سعيدة بأن ترى الروس لا يتركون إيران تحتل سوريا. وبالتالي صارت السياسة إنقاذ سوريا من الهيمنة الإيرانية وتقليص انتشار مليشيات "حزب الله"، وردع الأتراك عن احتلال أجزاء سورية مهمة نفطياً واستراتيجية جغرافياً. هنا رأينا لروسيا دوراً مهماً، خصوصاً مع الانكفاءة الأمريكية.
ماذا عن روسيا وعلاقتها الجيدة مع إيران؟ السعودية تريد أن تستفيد من هذه العلاقة، لأن طهران لا تستطيع أن تعادي روسيا وأمريكا في الوقت نفسه. ومع أن الروس يحظون بعلاقة جيدة في طهران فإنهم لا ينظرون بالعين نفسها في كل القضايا. إيران تاريخياً تخشى روسيا، وتردد دائماً أن لها أطماعاً فيها منذ زمن القياصرة. وهناك خلافات بحرية ونفطية وجغرافية، وقد سعى البلدان إلى عدم إثارتها. لكن روسيا لا تتفق تماماً مع إيران في سوريا، وقد هاجم الإعلام ورجال الدين الإيرانيون، روسيا، مرات، واتهموها بالتواطؤ ضدها مع إسرائيل هناك، فقط لأن الروس حالوا دون التوسع الإيراني، ولأنهم أطفأوا راداراتهم خلال الهجمات الإسرائيلية على مواقع القوات الإيرانية ومليشياتها. أيضاً موقف روسيا جيد في اليمن، ينسجم إلى حد كبير مع الموقف السعودي.
والحقيقة أن الرئيس بوتين أظهر براعة في التعامل مع الأزمات المرتبطة بالمنطقة، وكان واضحاً في رسم تصوره للعلاقة مع السعودية، الدولة التي كانت تعد أقرب حليف للولايات المتحدة بين الدول العربية، طبعاً ولا تزال علاقتها قوية بواشنطن، لكنها لم تعد حصرية. وعندما اختار بوتين، الرياض، ليفتتح أول مكتب لصندوق الاستثمار الروسي في العالم كان يوجه رسالة مفادها أن العاصمة السعودية أكثر من مجرد محطة لزيارة واحدة.