محمد قواص يكتب:

"اتفاق الرياض": همس عن حلّ شامل في اليمن

يكشف "اتفاق الرياض" المبرم بين الحكومة اليمنية والمجلس الانتقالي الجنوبي عن تطور لافت في الكيفية التي يجب اعتمادها لحلّ مسائل اليمن. والكلام هنا عن "مسائل"، يفصح عن إقرار بأن لليمن طبيعة تاريخية اجتماعية سياسية معقدة لا يمكن اختزالها بالثنائية المستجدة حديثا بين الشرعي واللاشرعي، بين الدولة والميليشيا.

لليمن خصوصية في فسيفساء تركيبته القبلية والعشائرية والطائفية، كما في وجهاته وواجهاته وفي تدافع المصالح وتنوع الأهواء. فالبلد لا ينحشر داخل تصنيفات ملكية أو جمهورية، كما جرى سابقا، ولا يختزل في جغرافيا الشمال والجنوب كما جرى لاحقاً، ولا يمكن، بالتالي، التسرّع في أن لا يلاحظ إلا وفق انقسام بين حوثيين ولا حوثيين.

ربما يجب الاعتراف أن المراقبين أخطأوا في تقييم الظاهرة الحوثية وفق رؤية الحروب التي خيضت بين جماعة الحوثيين ونظام الرئيس الراحل علي عبدالله صالح. وإذا ما كانت تلك الرؤية التي تعتبر الحوثية جماعة التفت حول زعيم محلي وتحوّلت في مذهبها لتلتحق بفقه الولي الفقيه في طهران صحيحة دقيقة في زمن ما، فإن تمدد تلك الجماعة من بيئتها الجغرافية الاجتماعية في صعدة وانسيابها المفاجئ داخل بيئات وجغرافيات أخرى لم تكن محسوبة أو يمكن أن تكون محسوبة على الجماعة وزعمائها، يفرض علينا مقاربة المعضلة اليمنية الراهنة من منظور أكثر حنكة.

لا يمثل الحوثيون كظاهرة ميليشياوية عقائدية قوة كان من شأنها أن تهدد اليمن، بلدا ونظاماً ووحدة وكيان. على أن تلك الظاهرة في انخراطها الفطري المتأسس على دراية بالواقع المعقد للبلد، باتت ترقى إلى مستويات تهدد أمن المنطقة برمتها. لم تحقق الجماعة ما أنجزته من زحف من الشمال يخترق العاصمة ويهز أحشاء عدن في الجنوب، إلا بناء على توفّر فرصة سريالية في التحالف مع علي عبدالله صالح وحزبه وجيشه، كما من خلال تحالفات ميدانية عشائرية خلطت حيثياتها الرهبة بالانتهازية. ولم يتعزز واقع تلك الجماعة في تخطيها للبعد اليمني وتهديدها لأمن الخليج، إلا حين أصبحت عاملاً في خدمة الأجندة الإيرانية في كل المنطقة.

والحال أن حسن تشخيص الواقع يسهّل البحث عن تعويذة التصدي له وتذويب أورامه. وما تجربة الاتفاق الذي وقع في الرياض بين الحكومة الشرعية والمجلس الانتقالي الجنوبي، إلا نموذجا لكيفية فك العقد من خلال الاعتراف بها، وأن ما شاع من أن هذا الاتفاق قد يشمل فرقاء آخرين، تلميح بأن اليمنيين -كما رعاة "اتفاق الرياض"- باتوا ذاهبين إلى مقاربات جديدة في البحث عن تسوية تنهي الأزمة والحرب في اليمن.

بدا واضحاً أن الصدام العسكري بين المتنازعين في عدن والمحافظات المجاورة كان مدخلاً، وربما حتمياً، لإعادة إنتاج تموضع يمني جديد. لا تعود القضية الجنوبية إلى أشهر المواجهات الماضية، ولا إلى بداية قيام المجلس الانتقالي بمظاهرة الشعبية المفاجئة قبل ذلك، بل إلى البدايات الأولى لزمن الوحدة، بنسختي التوافق والاحتراب.

ذهبت تيارات جنوبية إلى الوحدة بصفتها هدفاً استراتيجيا يقوي البلد ويرفع مستويات مناعته. لم تبتهج تيارات في الشمال كما أخرى في الجنوب لتلك المغامرة، بيد أن خطابا عقائدياً منعطفا على توفر الظروف الدولية والإقليمية أتاح تلك الوحدة، أو على الأقل عدم معاندتها. على أن وقائع لاحقة كشفت أن أمر الوحدة صادر أمر الجنوبيين وأن أجندة صنعاء وعلي عبدالله صالح وتحالفاته الشمالية حوّلت الجنوب إلى هامش وتفصيل تابع لم يراع جنوبية الجنوبيين.

لم ير الجنوبيون أن الأمر تغير بعد سقوط نظام الرئيس الشمالي وقيام نظام الرئيس الجنوبي، عبد ربه منصور هادي. صدقوا أمر اليمن الجديد الذي بشرت به مخرجات مؤتمر الحوار الوطني (2013)، وآمنوا بأن النصر على الحوثيين وتخليص الدولة من سلطة الميليشيا سيعيد ترتيب ما كان عبثا في عهد الراحل علي عبدالله صالح. قاتلوا بجسارة وجدارة شمالاً حتى استنتجوا أن ما يلوح لن يغير من أمرهم جنوباً.

يعترف "اتفاق الرياض" بالجنوبيين بصفتهم جنوبيين، بما يعني أن الفريق المقابل من هذا الاتفاق يمثل أهل الشمال. يوصي الاتفاق بمناصفة بين الجهتين (الجغراسياستين إذا جاز التعبير) داخل الحكومة المقبلة، وبترتيبات إدارية اقتصادية عسكرية أمنية تأخذ بالاعتبار جنوبية هذا الجنوب. وفي ذلك تحوّل بنيوي هائل في مقاربة اليمن، ليس فقط على وقع النار التي تفجرت قبل أشهر، بل على قاعدة استعادة روحية الحوار الوطني السابق الذي تحدث عن الأقاليم معترفاً بخصوصيات شتى في هذا البلد.

قيل إن الاتفاق بين الفريقين جرى بشكل غير مباشر بوساطة سعودية إماراتية. بمعنى أصح، فإن المتنازعين لم يكونوا جاهزين لإنتاج صفقة بيتية يمنية دون أن تحمل الرياض وأبوظبي وصفات هذا الحلّ. تمتلك العاصمتان من المعطيات، سواء في القراءة المحدثة للوضع الداخلي اليمني أو في مراقبتهما لتحولات المشهدين الإقليمي والدولي ما يدفعهما لإنتاج الترياق المواتي للعلّة الداهمة. بيد أن "اتفاق الرياض" يكشف لإيران أيضا صلابة التحالف السعودي الإماراتي، كما ثقل الرعاية التي يشتهيها كافة فرقاء اليمن المتحالفين في الحرب ضد الحوثيين.

أعادت طهران، لاسيما بمناسبة الوساطة التي تبرع بها رئيس الوزراء الباكستاني عمران خان بين السعودية وإيران، تكرار لازمة سابقة حول أن مفتاح التوافق بين الجمهورية الإسلامية ودول المنطقة هو اليمن. وحريّ هنا التساؤل عن وجاهة هذه الحجة في ما يعترض عليه الخليجيون من سلوك مزعزع للاستقرار مارسته إيران ضد السعودية والكويت والبحرين بشكل مباشر، كما ذلك المتعلق بتغلغل ميلشيات طهران في العراق وسوريا ولبنان. والأرجح أنه من الوقاحة أن تدرج إيران اليمن، البعيد عن جغرافيتها والملتحم قوميا واجتماعيا وتاريخيا وسياسيا واقتصاديا مع منطقة الخليج عامة والسعودية خاصة، داخل المشهد الاستراتيجي لطهران كورقة من أوراق القوة في نزاعها مع المجتمع الدولي.

بالمقابل أعاد "اتفاق الرياض"، دون أن يعير أي انتباه لهواجس إيران وهمومها، التأكيد من جديد على يمنية أي حلّ يمني، وعلى توفّر بيئة عربية حاضنة تقودها الرياض وأبوظبي لإنتاج الحل الشامل المكمّل له. وفي ذلك أن دول التحالف العربي نجحت في إضعاف ورقة إيران اليمنية، فيما أوراق سوريا والعراق ولبنان تتصدّع بحيثيات أخرى قد تحرم طهران من العواصم التي زعمت يوما أنها داخل إمبراطورية.

جرى، على هامش الاحتفال بتوقيع "اتفاق الرياض"، همس عن تواصل بين السعودية والحوثيين. في ذلك أن المقاربة التي فككت عقد نزاع الجنوب قد تنسحب لتفكيك عقد اليمن برمته. وفي ذلك أيضاً أن إيران في وهنها ومأزقها قد لا تملك معاندة توليفة يمنية مفاجئة. ولا يمكن إلا تأمل مفاجآت لبنان والعراق الصاعقة وما تربكه في رأس السلطة في إيران. فما الذي يمنعنا جميعا من تأمل مفاجآت ترد من اليمن.

لا يبدو أن إيران تملك معاندة التحولات في لبنان والعراق، فلماذا قد تملك معاندة تحولات اليمن؟ ربما على الحوثيين أنفسهم أن يقرأوا أمر ذلك.