هل أضحت ليبيا حجر عثرة الذي تتحطم عليه أوهام الرئيس التركي، ولا سيما بعد الاتفاق الذي أبرمه من غير ذي حيثية مع حكومة الوفاق الليبية المدعومة من أنقرة بالإرهاب والإرهابيين؟
إردوغان رجل لا دالة له على قراءة الأزمنة، ويخيّل إليه أن عجلة التاريخ يمكن أن تعود إلى الوراء، وما فشل في تحقيقه خلال سنوات الربيع العربي عبر الباب، يمكن أن يعود ليدركه من نافذة الأحداث.
بلغ الشطط بإردوغان حد التصريح بأنه لا يمكن لمصر، وإسرائيل، واليونان، وقبرص القيام بأعمال تنقيب في البحر المتوسط دون أخذ إذن تركيا بعد هذا الاتفاق بشقيه الأمني والاقتصادي، وأن بلاده يمكنها أن ترسل قوات إلى فائز السراج حال طلبت حكومة الوفاق.
يمكن للمحلل السياسي المحقق والمدقق أن يرصد نقاطاً عدة في رؤية إجمالية للتهور الاستراتيجي الإردوغاني الأخير، وفي المقدمة منها أن حاكم تركيا أضحى رجلاً فاقداً لتقديرات ما يعرف بميزان الانتباه العسكري، والذي يعني قدرة الدولة على استشراف المشهد من حولها، وهل هي كفء لإدارة صراع أممي كبير أم لا.
يعلم القاصي والداني أن إردوغان قد تحطم حلمه في نشوء وارتقاء «العثمانية الجديدة»، بعد أن سحق ومحق المصريون أحلام الأصوليين في حكم العالم العربي وتحت خلافة تركية؛ ولهذا فإن ما يدفعه للتحرك نحو السراج ليس إلا محاولة يائسة بائسة لتعويض ما فات، والتحرش بمصر تحديداً من جديد.
ثانياً، تبقى جماعة «الإخوان» هي أصل البلاء، والمؤكد أنها فكرياً وراء تطور المشهد الليبي – التركي على هذا النحو، فقد طالب ممثلو «الإخوان» تحديداً في طرابلس السراج بدعوة تركيا لنشر قواتها في ليبيا، وهذا ما صرح به عبد الرازق العرادي، القيادي في جماعة «الإخوان المسلمين» وحزب «العدالة والبناء» التابع للجماعة عبر موقعه على «فيسبوك»، حيث قال: «إن السراج يجب أن يقبل باستجلاب القوات العسكرية التركية على الأراضي الليبية، لدحر قوات خليفة حفتر والسيطرة على ليبيا».
باتت ليبيا بالنسبة لإردوغان حجر عثرة ولا شك، عليه سوف تتحطم الأوهام انطلاقاً من زوايا عدة، منها ما هو متعلق بمصر بداية وجوارها الجغرافي والديموغرافي، ومنها ما هو موصول بالاتحاد الأوروبي، في حين جزئية أخرى غائمة تلوح في الأفق مرتبطة بالإرهاب والإرهابيين الذين يؤويهم إردوغان، وبدايات حلقة حقبة جديدة من حقب الإرهاب الأعمى في القارة الأفريقية، وهذه قد تكون أكثر هولاً وبشاعة من زمن الدواعش.
باختصار غير مخل، نشير إلى أن مصر لن تقبل أن تنشأ في جوارها دولة إرهابية تهدد أمنها وسلامها، ومصر التي خاضت حروب تحرير الأرض تدرك جيداً أين ومتى تلتهم أعداءها التهاماً ومن دون ضجيج.
حين تحركت البحرية المصرية قبل أيام عدة في عملية تدريبية قتالية، أطلقت فيها نموذجاً من أسلحتها الحديثة (صاروخ هاربون) القادر على إغراق أي سفينة معادية على بعد 130 كيلومتراً تراجعت وتيرة التصريحات التركية العنترية، وأشار وزير خارجية أنقرة إلى أن بلاده لا تعتزم إرسال قوات إلى ليبيا إلا بعد طلب رسمي، وهو ما تمنى الأتراك عدم اضطرار حكومة الوفاق إليه.
يسعى إردوغان من خلال اتفاقه مع السراج إلى إيجاد منفذ وثغرة يهرّب إليها الإرهابيين القائمين عنده ونقل الدواعش كافة من إدلب السورية عبر حدود بلاده إلى ليبيا بحراً وجواً؛ ما يجعل من طرابلس بداية محدثة لإرهاب ما بعد «داعش».
لا يغيب عن أعين الراصدين للإرهاب حول العالم، وهو ما لفت إليه الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي في منتدى أسوان الأخير، الذي جمع الأشقاء الأفارقة، أن القارة السمراء تبدو وكأنها الموقع والموضع الجديد المختار بعناية من قوى الظلام لجعلها منطلق الموجة الثانية من دولة الخلافة الأبوكريفية.
أما عن ليبيا والاتحاد الأوروبي فيبدو أن الصدام قادم لا محالة، ولا سيما بعد شجب الاتحاد اتفاق تركيا والسراج، ووصفه بأنه لا قيمة قانونية له، بل وصل الأمر إلى قيام إيطاليا وفرنسا وقبرص بمناورات بحرية في المواقع القبرصية التي يعتقد بوجود الغاز فيها والتي يحاول الرئيس التركي أن يفرض سطوته عليها. على باب 10 دوانينغ ستريت وجد إردوغان نفسه وحيداً خلال قمة الناتو في لندن، وكان عليه أن يدق الجرس ليفتح له، في إشارات رمزية لازدرائه أوروبياً، والآن نتساءل هل تضحى ليبيا معركة «ليبانت» جديدة بين أوروبا وتركيا؟
في 7 أكتوبر (تشرين الأول) 1571 حطم الأوروبيون أسطول العثمانيين، والمثير تاريخياً أن منشأ الصراع كان أيضاً جزيرة قبرص، التي كانت تحت هيمنة البنادقة (سكان البندقية الإيطالية) وذاق الأتراك هزيمة مرة.
من يخبر إردوغان بأن عليه أن يقرأ دفاتر التاريخ، قبل الأسوأ الذي لم يأتِ بعد؟
الشرق الأوسط