د. ياسين سعيد نعمان يكتب:
اليمن ومنحنى الصراعات.. إذا هوى النجم
في عام 1997، كانت المرة الثالثة التي ألتقي فيها مع جار الله عمر منذ ما بعد حرب 1994.
كان ذلك في المغرب العربي، في مدينة الدار البيضاء، حيث انعقد المؤتمر القومي العربي - الإسلامي في ذلك العام.
وصلت إلى الدار البيضاء من دولة الإمارات وجاء هو من صنعاء.
واللقاء مع جار الله له طعم مختلف، وفي كل مرة يتجدد بما يحمله أبوقيس من مشاعر رفاقية راقية في قراءة الحاجة الإنسانية للتفاؤل في لحظات الانكسار.
حتى وهو يعاني الإحباط من جور ما واجهه في حياته السياسية من متاعب وخذلان، فإن روحه غالباً ما تصبح منصة للتفاؤل المصحوب بالثقة، وكان دائما ما يأخذ الحديث إلى آفاق لا تغلق عند محطة بعينها، مهما كبر وجعها وعظم جرحها.
كان يرى الأحداث على أنها نتائج لتراكمات سابقة، وهي بالتأكيد كذلك، لكنه كان يرى أيضاً أن طريقة التعاطي معها قد تحولها إلى مقدمات لأحداث أكبر، وهكذا.
وعندما يستطيع المجتمع ونخبه السياسية، أن يتوقف بالحدث عند المفهوم الذي يبقيه "نتيجه" لتراكمات سابقة، ويضع خطاً فاصلاً مع هذا الماضي، يكون قد انتقل من منحنى الصراعات إلى منحنى الاستقرار، كما حدث في تجارب بشرية كثيرة.
لم تكن اليمن بالطبع من بين هذه التجارب.
حاول اليمنيون بعد ذلك بسنوات في مؤتمر الحوار الوطني، واصطدموا بحقيقة أن منحنى الصراعات في اليمن يتشكل بعوامل مختلفة ليس لها علاقة بحاجات المجتمع.
لم يستطع اليمنيون أن يضعوا الخلاف وراءهم في كل محطات الصراع لكي يمضوا إلى الأمام.
أشد ما يثقل حركة المجتمع هو التشبث بقضايا الخلاف، فهي لا تبقى بحجمها القديم وإنما تتمدد بحجم ما تنتجه الحياة من مصاعب.
في نهاية اليوم الثاني للمؤتمر، وبعد أن حضرنا، مع كل أعضاء المؤتمر، محاضرة للمفكر المغربي "محمد عابد الجابري" حول كتابه الجديد يومذاك "العقل الأخلاقي" وعن سيرته، اقترح أبوقيس أن نعود سيراً على الأقدام إلى مقر الإقامة عن طريق شاطئ البحر الذي كانت تتخلله مبانٍ عتيقة مهدمة، وكان الموج في حالة مد وصخب شديد..
قال أبو قيس، وقد توقف على نحو تلقائي ليشاهد منظر الموج وهو يضرب بقوة بقايا المباني المبعثرة على الشاطئ، ويستمع إلى المعزوفة الصادرة عن اصطدام وارتداد الموج، "بعد وصولي إلى عدن عام 1973 أخذني بعض الزملاء إلى صيرة، كم أدهشني موج البحر حينذاك وهو يضرب الصخور ويحدث ذلك الصخب الذي يلامس الروح، ومنذ ذلك الوقت وأنا مسكون بهذا الصخب..".
حدثته بمقاربة عشتها وكان لها نفس التأثير، فقد كنا، ونحن طلبة في ثانوية خور مكسر بعدن، كثيراً ما نفضل أن نعود من المدرسة إلى مساكننا في كريتر مشياً على الأقدام لنستمتع بصخب البحر وموجه الذي يرتفع مده ليغطي كل الطريق حتى جذر الجبل من الناحية الاخرى والممتد من محطة العاقل حتى معمل البرد القديم على مدخل مدينة كريتر من ناحية مبنى المجلس التشريعي والمدرسة المتوسطة.
ومع المدى يأخذ البحر مساحة في الروح لا يمكن أن تنتزع منه، تلك هي المساحة التي تنتفض من تحت ركام السنين كلما وجدت نفسك محاطاً بموج البحر، كما كان حالنا في تلك الليلة.
كان جار الله، الذي جاء من الجبال، يعشق عدن.. وكان يردد: "في عدن ترتخي كل عضلات الجسم وتحس بالأمن والراحة، فيما عدا العقل الذي ينشغل بهاجس الحفاظ على جمال هذه النعمة".. وكم ضحكنا في وجهه وهو يحاول أن يربط "الفوطة" بالطريقة العدنية، ويجادل في أن "الفوطة" هي التعبير المدني الذي يبعث الطمأنينة والسلام في النفس، على عكس "المقطب" أو " المعوز" والذي بطبيعته يجعلك في حالة تحفز لارتباطه بالبيئة التي تفضله، أما القميص، أو الزنة، بشكلهما الجديد فلا يراهما غير نكاية بالإزار الأبيض الذي توارثه قطاع واسع من اليمنيين كلباس مميز.
تحدثنا في تلك الليلة طويلا.. كل مرة يأتي فيها من صنعاء كانت تتضاءل عنده فرص الخروج من مأزق الحرب التي دمرت الوحدة السلمية، لكنه لم يكن يغرق محدثه في اليأس، يأخذه إلى الأفق الذي يكون فيه البحث عن الحل اختيارا انسانياً ونضالياً واعياً.
وجار الله كان أحد منظري الحوار القومي العربي - الإسلامي من منطلق القواسم المشتركة لحاجة الشعوب العربية إلى الحرية والديمقراطية والتعايش والتسامح والمواطنة والسلام في مواجهة الاستبداد والحروب والإقصاء والانقسامات الطائفية.
وكان يعمل بقوة في أن تكون الساحة اليمنية عنواناً لهذا الحوار ونموذجاً للأقطار الاخرى.
قلت له ذات مرة إذا بقي هذا الحوار محصوراً في إطار نخبوي غير قادر على الانتقال إلى المجتمع فإن ما نخشاه هو أن عوامل النفي الكامنة في مناهجنا السياسية النخبوية تتمدد في المساحات التي يخلفها الفراغ الكبير الذي لا يزال قائماً بين النخب والمجتمع.
قال، نعم، سيظل هناك من يتحين فرصة للتراجع ليعلن الفشل، لا بد من أن تشعر المجتمعات بأهمية هذا الحوار، ولذلك فإن المنصات والمنابر التي تقوم بهذه المهمة يحب أن يتولاها من يؤمنون بقيمة هذا الحوار.
وتساءل: ألا تلاحظ أن معظم الدول العربية ترفض حتى الآن السماح لهذا المؤتمر بالانعقاد على أراضيها؟
ثم أثبتت الأيام أن عوامل النفي في المناهح التي فشلت في أن تستوعب حاجات المجتمع كانت أقوى من محاولات التغيير، حتى بدت كما لو أنها مراوغة والتفاف على الواقع أكثر منها محاولات جادة لتغييره.
في تلك الليلة، وكنا قد وصلنا إلى مقهى على مشارف المدينة وطلبنا الشاي المغربي الشهير، سألني عن الرفاق المقيمين في الإمارات، وتحدث عن نيته في القيام بزيارة لتداول الآراء مع بقية الرفاق، وهي الزيارة التي تحققت بعد ذلك بسنتين تقريباً.
قال وكأنه يستمزج كلام الجابري عن تحوله من كتابة الرواية إلى البحث التاريخي في أصول الفكر: قرأت روايتك "أصل الحكاية، كما يرويها عبد المرتجي البواب".
لماذا اتجهت نحو الأدب وتركت الاقتصاد؟
قلت له: الأدب وجدان، والاقتصاد فعل، في حالنا يكون الوجدان أكثر حضوراً وارتباطاً بالحاجة للتعبير عن الذات التي لا يشغلها الآخر كما هو الحال في الاقتصاد، بما يتفاعل مع هذا الوجدان من خيال.
طبعاً أقصد الخيال الذي لا يعطل التفاعل مع الوقائع وإنما يكسبه قوة التأثير بما يتضمنه من معان غزيرة ودلالات قوية.
وقلت له: لو أنك كنت قد صغت ورقتك حول التحول الديمقراطي، في ذلك الوقت الصعب، بدون خيال، وبلغة جافة، ومتعالية الدلالة، لما حظيت بذلك الانتشار الواسع.
قال: هل تجد هذا الوجدان حاضرا في نظم الشعر أم كتابة الرواية؟
قلت له ليس لي في الشعر غير تجارب بسيطة ولا أهتم به كثيرا.
قال: لكني قرأت لك مؤخرا قصيدة تتحدث فيها عن زحل، وإذا هوى النجم.. وكنت أريد أن أسألك عما تقصده بهذا البيت؟
قلت له: هل تقصد البيت الذي يقول:
"حدد مسارك لا تركن إلى زحل،
إذا هوى النجم، أجبني، كيف با ترحل!!"
قال: نعم هذا ما أردت أن أسألك عنه.
قلت له، توقفت كثيرا أمام الصراعات التي كان يذهب ضحيتها كثير من المناضلين الطيبين والناس الابرياء الذي يصطفون إلى جانب هذا القيادي "الرمز" أو ذاك دون أن يسألوا عن أسباب الصراع، فثقتهم ب"الرمز" تجعلهم يصطفون للقتال دون وعي أو معرفة بحقيقة الصراع.
وفي حين لا يجد هذا "الرمز " الوقت أو الجرأة ليحاور أنصاره ويستشيرهم، فإنه يتحول إلى مجرد مقاول للموت.
وكثيرا ما انكشفت تلك الصراعات عن مأساة الاستقطاب التي دفعت بالآلاف إلى الموت دون هدف واضح أو معرفة حقيقية بأسباب الصراع.
وعندما قتل جار الله بعد ذلك بأعوام، أعدت قراءة البيت بيني وبين نفسي، ولكن على نحو آخر.
لم يترك اليمنيون الخلاف وراءهم كما كان يأمل، وكما عمل من أجله، حملوا الخلاف معهم فتفجر في وجوههم في أكثر من صورة!!