بهاء العوام يكتب:
بين لبنان والعراق
فشل رئيس العراق برهم صالح في اختيار رئيس حكومة خلفا لعادل عبدالمهدي. قد نرى مثله في لبنان إذا ما أخفق رئيس الوزراء المكلف حسان دياب في تشكيل الحكومة. لعل ذلك يقود إلى إنجاز جديد للحراك في البلدين، يتمثل في استقالة رئيسي الدولتين ثم حل برلمانيهما تمهيداً لانتخابات مبكرة فيهما.
قد تصدق هذه المقاربة وقد تتغير إلى سيناريوهات مختلفة. ولكن مواطن الشبه بين ما يجري في البلدين، يمكن أن تشكل أساسا لقراءة مجريات الأحداث فيهما. بدءا من الفارق الزمني البسيط في انطلاق التظاهرات، مرورا بالشعارات المطالبة بنظام سياسي جديد، ووصولاً إلى تعامل السلطة السياسية مع الحراك الشعبي منذ يومه الأول وإلى اليوم، بالإضافة إلى ردود الفعل الدولية والإقليمية، كلها متشابهات هامة الدلالة في رصد الأحداث وتوقع تطوراتها.
ربما ينبع التشابه في تعامل السلطة السياسية مع الحراك الشعبي في العراق ولبنان من طبيعة نظام المحاصصة الذي تقوم عليه الحياة السياسية في البلدين. أو ربما ينعكس التشابه عن مرآة الصراع بين حلفاء إيران وأذرعها في البلدين، مع خصومهم السياسيين الذين تصنفهم طهران كعملاء للولايات المتحدة.
المحاصصة الطائفية والقومية هي أساس المشكلة، لأنها أنتجت في كلّ من البلدين نظاما سياسيا فاسداً. المفارقة أن دستوري الدولتين المرسخين لهذه المحاصصة وضعتهما قوى خارجية بغرض حماية حقوق مكونات المجتمع. فتحولا لاحقا إلى أشرس أداة لترسيخ التفرقة بكل أشكالها بين شعبي البلدين.
بغض النظر عن المسار الزمني لتصاعد الاحتجاجات في البلدين، إلا أن الصراع بين الكتل والأحزاب المؤيدة لإيران وخصومهم السياسيين بات أمرا واضحا جدا. مادة الصراع ظاهريا هي الحراك الشعبي ومطالبه، ولكن الحقيقة أن ما يجري هو إحدى معارك الوجود بين الطرفين، وربما تكون أمّ المعارك بينهما.
الطرفان يدّعيان أنهما يؤيدان المحتجين ومطالبهم في تغيير النظام السياسي. ولكنّ الطرفين يعرفان أن تنفيذ هذه المطالب يعني زوالهما من الخارطة السياسية للبلاد. ولربما يؤدي تغيير النظام إلى محاكمة قادة وشخصيات بتهم مختلفة على رأسها الفساد، فيكون مصيرهم السجن أو مصادرة أموالهم الخاصة.
لا تعرف مستوى العفن المتفشي بين طيات السلطة السياسية التي أنهكت اقتصاد البلدين إلى حدود كارثية. ولكن من الواضح أن العراقيين واللبنانيين قد بلغوا من السأم واللاّثقة والرفض لهذه السلطة، ما يكفي للبقاء في الشوارع أشهرا طويلة دون كلل أو ملل، ولا يهم ماذا تكون النتيجة وأين تذهب البلاد.
السلطة السياسية في البلدين، تبجحت بتفهمها للمحتجين ومطالبهم في المرحلة الأولى من الحراك الشعبي. ثم جاءت مرحلة التخوين بحجة وجود مندسين وعملاء يسعون إلى تحقيق أهداف سياسية وتنفيذ أجندات خارجية. أُعلِنَ عن المؤامرة وبدأت الحرب على العدوّ الخفي الذي لا تراه إلا السلطة.
في العراق تطور التشكيك بوطنية المتظاهرين إلى عنف مفرط وقمع مهول، أما في لبنان فكان الأمر أقل دموية بسبب خصوصية ذلك البلد الصغير واختلافه لأسباب عديدة. في نهاية المطاف لم تنجح محاولة قمع الاحتجاجات في الدولتين فاضطرت السلطة السياسية إلى البحث عن مخارج أخرى للأزمة.
في سياق الاستجابة للحراك واحتواء مطالبه، تبنت حكومتا الدولتين مجموعة من القرارات الإصلاحية، ولكن ذلك لم يجد نفعا. تواصل الحراك وجرّ الحكومتين إلى الاستقالة. وهناك تحولت الأزمة إلى اختيار رئيس وزراء جديد يقود عربة التغيير التي يريدها المحتجون أن تنطلق في أقصى سرعة ممكنة.
تشكيل الحكومة الجديدة كان بوابة السلطة السياسية للمماطلة وشراء الوقت في البلدين. أرادت في ذلك صيد ثلاثة عصافير بحجر واحد كما يقولون. الأول تململ المحتجين وفقدان ثقتهم بجدوى الحراك، والثاني بث التفرقة بينهم عبر دفعهم للاختيار بين أسماء المرشحين لتشكيل الحكومة، أو جرّهم للمشاركة في اختيار الشخص المطلوب لرئاسة الوزراء. أما العصفور الثالث، فهو جعل تشكيل حكومة جديدة بمثابة سقف مطالب المتظاهرين وأحلامهم.
ما يخرج من الشارعين العراقي واللبناني حتى اليوم يقول إن مساعي السلطة السياسية لحرف الحراك عن مساره في التغيير لم تنجح. على العكس تماماً انقلب السحر على الساحر، والانقسام الذي كانت تتطلع السلطة لإحداثه في الحراك، أصاب صفوفها وانشق الساسة والقادة بين معسكري طهران وواشنطن.
لا نذيع سرا بالقول إن الولايات المتحدة تحلم بأن تنهي الاحتجاجات النفوذ الإيراني في العراق ولبنان. أو على الأقل تدفع بإيران إلى الجلوس معها على طاولة المفاوضات سعيا وراء اتفاق جديد حول برنامجيها النووي والصاروخي. وبحسب ما يتسرب عبر وسائل الإعلام، يبدو أن فرص حلحلة أزمة الحكومة في العراق ولبنان، تتناسب طرداً مع فرص ولادة المحادثات بين طهران وواشنطن.
الحراك الشعبي في العراق ولبنان يريد أيضا إنهاء الهيمنة الإيرانية على الدولتين. ولكن ذلك ليس مطلبه اليتيم. فهذه الهيمنة كانت إحدى أسباب خراب البلاد وليست السبب الوحيد. وبالتالي لا يحق لأيّ طرف سياسي محلي يؤيد هذا المطلب أن يتبنى الحراك ويجعل نفسه وصياً على الثورة الشعبية.
بسبب التجاذبات الدولية حول ما يجري في لبنان والعراق، تصبح معضلة اختيار رئيس حكومة جديد رأس جبل الجليد الظاهر من الأزمة في البلدين. فالمشكلة ليست في الاسم وإنما في التوافقات والتفاهمات الداخلية والخارجية التي ستحدد عمل الحكومة وأولوياتها في المرحلة المقبلة. وهي ليست بالضرورة أن تتطابق مع أولويات الحراك ورؤيته لمستقبل البلاد بنسبة مئة بالمئة.
عبر هذه المتشابهات الكثيرة بين الحراك الشعبي في العراق ولبنان يمكن قراءة خارطة جديدة من التحالفات والتفاهمات التي تنضج في المنطقة أيضا. فما يدور في الدولتين سينعكس في نتائجه على دول الجوار العربي والإقليمي. ومن يظن نفسه بمعزل عما يجري فهو يهرب من استحقاقات قادمة لا محالة.