إميل أمين يكتب:
كريسماس بمشاعر "الأخوة الإنسانية"
هل من علامة خاصة تميز احتفالات الكريسماس وأعياد الميلاد هذه السنة عن السنوات السابقة؟
أغلب الظن أن الإمارات العربية المتحدة قد استطاعت أن تصنع بصمة إيمانية وإنسانية مغايرة، اصطبغ العالم بها، ذلك حين وقع بابا الكنيسة الكاثوليكية وشيخ الجامع الأزهر وثيقة تجعل من مستقبل الإنسانية أكثر رحابة في مسارات ومساقات الأخوة والمحبة المتبادلة، وبعيدا كل البعد عن عالم الكراهيات والخصام، الأحقاد والمؤامرات.
حين نقول إنه ميلاد برسم مشاعر الأخوة الإنسانية، فإننا نؤكد على ما جاء في الوثيقة من أن التعاليم الصحيحة للأديان تدعو إلى التمسك بقيم السلام وإعلاء قيم التعارف المتبادل والأخوة الإنسانية والعيش المشترك وتكريس الحكمة والعدل والإحسان
حين ولد السيد المسيح كانت ملائكة السماء ترتل "المجد لله في الأعالي وعلى الأرض السلام وفي الناس المسرة". قبل بضعة أيام وعلى هامش احتفالات الميلاد، كان البابا فرنسيس بابا روما يستقبل الأمين العام للأمم المتحدة السيد أنطونيو جوتيريس، وبدا السؤال ما الهدية التي يمكن للرجل ذي الثوب الأبيض أن يهديها للبرتغالي الأصل القادم من دولة كاثوليكية حتى النخاع؟
أفضل هدية وجدها فرنسيس من حوله ضمن هدايا متنوعة ومتعددة درج الكرسي الرسولي على تقديمها لكبار الضيوف، كانت نسخة من وثيقة "الأخوة الإنسانية"، التي وقعت في أبوظبي في فبراير/شباط.
ما الذي وجده فرنسيس في هذه الوثيقة ليجعل منها هديته للأمين العام للأمم المتحدة في زمن الميلاد؟
الذين قدر لهم قراءة وثيقة الأخوة الإنسانية يستطيعون أن يربطوا بينها وبين مشهد الميلاد، ورسالة المحبة التي جاء بها السيد المسيح، ذاك الذي قيل عنه "لا يخاصم ولا يصيح، ولا يسمع أحد صوته في الشوارع، قصبة مرضوضة لا يكسر وكتان مدخن لا يطفئ ".
لا يعني الكريسماس أبدا بهرجة الاحتفالات والزينات، فهذه من غير أدنى شك مظاهر سطحية لا علاقة لها بعمق الميلاد الحقيقي، والذي هو، وبحسب البابا فرنسيس، مناسبة للأخوة والنمو في الإيمان، وفي أفعال التضامن إزاء من هم في ضيق أو عوز.
ولد السيد المسيح بحسب التقليد المسيحي في "مزود"، أي في موقع وموضع لا يصلح لسكنى البشر، وفي مولده درس كبير من التواضع والسماحة، درس بعيد كل البعد عن عظمة القياصرة، ومجد الأكاسرة، ولعل هذا ما جعل الشاعر والأديب اللبناني الكبير جبران خليل جبران في كتابه "رمل وزبد" يرسم لنا صورة تستحق التأمل يقارب فيها بين شخصين، يسوع الناصري ويسوع النصاري.. هل من فارق بينهما؟
نعم الأول هو طفل المزود الفقير المجرد عن غنى العالم والمتسلح بغنى المحبة والأخوة والتضحية، والذي اختار لنفسه اسم ابن الإنسان، ليصير أخا لكل إنسان على وجه البسيطة، وليس لكل مسيحي فقط.
أما يسوع النصارى، فهو الرجل الذي اختطفه هؤلاء لأنفسهم فقط، وضنوا به على العالم، واعتبروا رسالته دعوة أيديولوجية تتطلع لإنشاء ممالك على الأرض، في حين أنه صرح أكثر من مرة طوال حياته القصيرة التي لم تتجاوز الثلاثة وثلاثين عاما بأن "مملكته ليست من هذا العالم ".
هذه الأخوة التي يأتي لنا بها الكريسماس في أعمق صورها، هي عينها التي نرى صداها في الوثيقة التي بين أيدينا، والتي تبدأ حديثها باسم الله الذي خلق البشر جميعا متساوين في الحقوق والواجبات والكرامة، ودعاهم للعيش كأخوة فيما بينهم ليعمروا الأرض، وينشروا فيها قيم الخير والمحبة والسلام.
فقيرا جاء السيد المسيح، وفقيرا عاش، ونشر رسالته بين البشر الضعفاء والمقهورين تحت نير العبودية الرومانية، وقد كانت حياته ثورة على الظلم، وعنوانا لتطويب الفقراء بالروح، ولهذا جاءت وثيقة الأخوة الإنسانية باسم الفقراء والمحرومين والمهمشين الذين أمر الله بالإحسان إليهم، ومد يد العون للتخفيف عنهم فرضا على كل إنسان لا سيما كل مقتدر وميسور.
في أزمنة الطفولة درجنا على ترديد نشيد الميلاد، وفي غالب الأمر كانت كلماته معينا إنسانيا وإيمانيا لمن قاموا على كتابة نص وثيقة الأخوة الإنسانية، وقد كانت كلمات النشيد تقول:
ليلة الميلاد يُمحىَ البُغضُ ليلة الميلاد تزهرُ الأرضُ
ليلة الميلاد تُبطلُ الحربُ ليلة الميلاد يَنبِتُ الحُبُ
1- عندما نسقي عَطشانَ كأسَ ماء نكونُ في الميلاد
عندما نكسي عُريانَ ثوبَ حُب نكونُ في الميلاد
عندما نُكفكف الدموعَ في العيون نكونُ في الميلاد
عندما نَفرِشُ القلوبَ بالرجاء نكونُ في الميلاد
2- عندما أُقَبِل رفيقي دونَ غِش أكونُ في الميلاد
عندما تموتُ فيً روحُ الانتِقام أكونُ في الميلاد
عندما يُرَمِدُ في قلبيَ الجفاء أكونُ في الميلاد
عِندما تذوبُ نفسي في كيان الله أكونُ في الميلاد
هذا هو الميلاد الحقيقي المتجاوز للتعصب والتمذهب، الميلاد الذي لا يسألك عن اسمك أو رسمك، دينك أو طائفتك، مذهبك أو عرقك، إنه الميلاد الذي فيه يتم النظر إليك كإنسان، أخ في الإنسانية، شريك في إعمار الكون.
حين نقول إنه ميلاد برسم مشاعر الأخوة الإنسانية، فإننا نؤكد على ما جاء في الوثيقة من أن التعاليم الصحيحة للأديان تدعو إلى التمسك بقيم السلام وإعلاء قيم التعارف المتبادل والأخوة الإنسانية والعيش المشترك، وتكريس الحكمة والعدل والإحسان، وإيقاظ نزعة التدين لدى والشباب، لحماية الأجيال الجديدة من سيطرة الفكر المادي، ومن خطر سياسات التربح الأعمى واللامبالاة القائمة على قانون القوة لا على قوة القانون.
إن أردنا كريسماس حقيقيا غير منحول، حتما سنجده في مخيمات اللاجئين، وفي مستشفيات المساكين، وعلى طرقات المنبوذين.. ساعتها يمكن أن يكون معنى ومبنى الكريسماس الحقيقي متجسدا من حولنا، بإيمان وروحانية حقيقيين، كريسماس فرح الأخوة، ودرب اللقاء الذي بدأه طفل المغارة، وأكمله الخيرون والمغيرون على أرض الإمارات العربية المتحدة، أرض التسامح والتصالح