إميل أمين يكتب:

أبوظبي – جاكرتا.. شراكة تسامح وتصالح

"إن الإمارات وإندونيسيا تقدمان نموذجين حضاريين في إدارة التعددية الثقافية والدينية والعرقية من خلال التسامح والوسطية والتعايش وقبول الآخر".

هكذا تحدث سمو الشيخ محمد بن زايد ولي عهد أبوظبي، نائب القائد العام للقوات المسلحة غداة زيارته الناجحة لإندونيسيا قبل بضعة أيام، وهو حديث يؤكد أن التسامح مع الآخر والتصالح مع الذات، قد باتا وعن حق المدخل الطبيعي للأمم السابقة في أعلى عليين.

ليس مثيرا أو غريبا أن تضحى الإمارات العربية المتحدة وإندونيسيا دولتي جسور وممرات حول العالم، في خدمة المثل الطيبة قبل التجارة العالمية، إنه التسامح مفتاح القرن الحادي والعشرين

يجمع بين الإمارات العربية المتحدة وإندونيسيا تسامح خلاق استطاع أن يقفز على أسوار العصبيات ويتجاوز منعطفات القبليات الضارة، تسامح يجسد المعنى الحقيقي لقبول الآخر والتعايش معه في إطار منظومة تتسق ومعطيات حقوق الإنسان التي أرست الأديان جذورها، وعززت حقوق الإنسان مبادئها عبر عقود.

أنفع ما في زياة سمو الشيخ محمد بن زايد لإندونيسيا إظهارها الوجه الحضاري والإنساني للإسلام الحنيف، وتقديم صورة حقيقية عن المسلمين، هكذا يقطع بن زايد وله في الحق ألف حق، لا سيما أنه قادم من دولة أضحت رسالة على هذا الصعيد، وقدمت العام الماضي تحديدا مثالا ناجعا للتسامح حينما يضحى هدفا وغاية للدولة وأجهزتها الحكومية، وقد كللت جهود الإمارات بزيارة الحبر الأعظم البابا فرنسيس وشيخ الأزهر الدكتور الطيب وتوقيع وثيقة الأخوة الإنسانية.

استطاعت الإمارات قولا وفعلا ومن غير أدنى تزيّد تقديم صورة للإسلام السمح المعتدل، صورة منافية ومجافية لكل ما قد تشوه من جراء المتاجرين بالأديان، وبائعي الأوطان، من عصابات الإسلام السياسي، الذي لم ينفك يتحول إلى جماعات إرهابية قاتلة تدعي الحديث باسم الإسلام.

ألقت زيارة الشيخ محمد بن زايد الأضواء على إندونيسيا من جديد، وهي الدولة الإسلامية الكبرى بتعداد يصل إلى 88% من أصل 238 مليون نسمة، و12% يوزعون على الديانات والمذاهب البروتستانتية والكاثوليكية، والبوذية والهندوسية، عطفا على الكونفوشيوسية.

يحق للقارئ المحقق والمدقق أن يتساءل كيف لإندونيسيا وسط هذا الخليط العرمرم من الجنسيات والأعراق أن يسود التسامح أو يعرف التصالح طريقة إليها، وبخاصة أن كثيرا من الدول المجاورة لإندونيسيا باتت حواضن حية ومعينا بشريا لاستجلاب المتطرفين والإرهابيين؟

أمران تقوم بهما الدول الناجحة؛ أولهما القانون وثانيهما العلم، أما القانون فقد رأيناه ناصعا واضحا في الإمارات العربية المتحدة، حين أصدر الشيخ خليفة بن زايد رئيس البلاد قبل بضع سنوات قانون تجريم الازدراء الديني، وقد كان ولا يزال خطوة تقدمية استبقت بها الإمارات كثيرا من دول العالم المتقدم والمتشدق بحقوق الإنسان.

 وفي ظل هذا القانون باتت الإمارات واحة خضراء للتعايش بين أتباع الأديان المختلفة، الجميع يباشر شعائره، والدولة القوية تبسط سيادتها، وترفض أن تختطف من قبل المارقين بل تصحو لهم وتترصدهم، فالشر لا يقوى إلا إذا توارى الخير، وبائع الشموع يكره عودة التيار الكهربائي، وقد كان التنوير الإماراتي سباقا في هذا الإطار.

يمكن القطع أن اندونيسيا دولة تحترم دستورها الذي ينص على حرية الدين، وقد يفاجأ المرء لا سيما من غير الإندونيسيين بأن هناك كثيرا من المسؤولين والوزراء والسفراء والدبلوماسيين والعسكريين قد تم تعيينهم في مناصب عالية ورفيعة، بل وربما حساسة،  وهم من الإندونيسيين غير المسلمين، وهذه ميزة كبرى لشعب هذا البلد،  فقد جعل من الاختلافات الثقافية والدينية قيمة مضافة وليس خصما من رصيد السبيكة الاجتماعية الإندونيسية التي انصهرت في بوتقة المواطنة، ولم تتوقف عند حدود العرق والدين أو الطائفة والمذهب.

من الجميل والطيب أن الدستور الإندونيسي يسمح بحق الإيمان وممارسة الفرد لدينه، وسط جهود تقوم بها الدولة لتحفظ هذا التنوع بسياج من الأمن والسلام والطمأنينة، وحتى يعيش الشعب في إطار من وحدة النماء والبناء والهدم والفناء.

بعد زيارته لإندونيسيا في صيف عام 2010، أشاد الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما بالتجربة الديمقراطية، وعدّها نموذجا لقيم التسامح والتعددية، أما هيلاري كلينتون وزيرة خارجيته فقد أشادت بالنموذج الإندونيسي باعتباره مثالا للديمقراطية في العالم الإسلامي.

رفضت إندونيسيا منذ وقت بعيد فكرة الدولة الدينية، ورجحت كفة الدولة المدنية، دولة المواطنة والتعددية، وما كان لها أن تقوم على هذا النحو من غير قيادة سياسية واعية وحكيمة عبر عقود، كان آخرها نموذج الرئيس الحالي جوكو ويدودو، المشهور باسم جوكوي، الذي فاز فوزا حاسما في الانتخابات الرئاسية الأخيرة من خلال خطابه الانتخابي القابل للتعددية،   والذي يتسم بقومية إندونيسية تتسع للجميع، وتتجاوز التحجر والتكلس الدوجمائي، ولهذا مضت الجماهير من ورائه.

في أحد أعدادها الأخيرة كانت صحيفة نيويورك تايمز تميط اللثام عن القصة التي كانت وراء إيمان واعتقاد الشيخ محمد بن زايد بأهمية التسامح كقيمة إنسانية قبل أن تكون إيمانية.

تقول الصحيفة الأمريكية الأشهر إنه وفي ثمانينيات القرن الماضي وقد كان شابا عسكريا يافعا ذهب ذات مرة إلى رحلة سياحية في تنزانيا، ولدى عودته للسلام والاطمئنان على الأب المؤسس زايد الخير طيب الله ثراه، سأله الشيخ الأب عما رآه، فأخبره الابن عن الحياة البرية لشعب "الماساي" وعاداتهم، وأجواء الجدب والفقر التي يعيشونها.

 انتظر زايد الخير حتى نهاية الرواية، ثم سال الابن: وأنت ماذا فعلت لهم؟

بدا الشيخ محمد بن زايد مستغربا السؤال ولسان حاله يقول كيف أساعدهم وهم من غير المسلمين؟ وهنا كان رد رجل البرية التقي النقي ردا يغني عن قراءة ألف كتاب في التسامح، فقد أمسك بذراع الابن بشدة، ونظر في عينيه نظرة قاسية، ليخبره أننا جميعا مخلوقات الله.

كان الأب معينا للتسامح المبكر، مازجا في طبيعته بين كرامة وشهامة المعتقدات البدوية الصحراوية، والعقلية الليبرالية المنفحتة في وقت مبكر على الآخر، وقبل أن ينشأ جدل صراع الحضارات كانت الإمارات تعيش تمازج الحضارات كجزء أصيل من الإرث العربي الحضاري في العصور الغابرة.

ليس مثيرا أو غريبا أن تضحى الإمارات العربية المتحدة وإندونيسيا دولتي جسور وممرات حول العالم، في خدمة المثل الطيبة قبل التجارة العالمية، إنه التسامح مفتاح القرن الحادي والعشرين.