بهاء العوام يكتب:

التطبيع مع جبهة النصرة

تتخذ الولايات المتحدة قرارات متناقضة في الأزمة السورية منذ تفجرها قبل تسع سنوات. لا أجد ذلك عفويا أبدا، ولا أجد مبررا له سوى الرغبة في إطالة أمد الأزمة إلى أطول أجل ممكن. فلطالما امتلكت واشنطن مفاتيح حل الأزمة ولم تستخدمها. وفي كل مساهمة لها يزداد المشهد السياسي والميداني تعقيدا، وتختلط الأوراق ليوأد أي حل يمكن أن يتبلور، وعن طريق أي طرف.

لا تريد الولايات المتحدة حلاً للأزمة عبر الروس ولا تريد إخراجهم من سوريا أيضا. لا تقبل بنصر المعارضة على بشار الأسد ولكنها سلحت جيوشاً من الفصائل. ترفض التطبيع مع النظام ولكنها لا تريد إزاحته عن السلطة. لا تسمح لإيران بالبقاء في سوريا وهي من أطلقت يدها هناك من أجل الاتفاق النووي عام 2015. لا تطلق يد تركيا على الأسد ولكن تسمح لها بالتوغل شمالاً. تشيّد قواعد عسكرية وتستولي على النفط، وتقول إنها لن تبقى في سوريا.

آخر إبداعات واشنطن هو الدعوة إلى التطبيع مع جبهة النصرة. يريدون من الروس أن يكفوا عن معاملتها كجماعة إرهابية ويمدون لها يد الصداقة والتحالف. لا يهم ماذا فعلت الجبهة بسوريا والسوريين خلال سنوات الأزمة. فمهما بلغ سوء أفعالها لن يكون من وجهة نظر واشنطن طبعاً، أبشع مما فعلته حركة طالبان في الحادي عشر من سبتمبر عام 2001. وها هي اليوم تبرم اتفاق سلام مع الولايات المتحدة وتستعد لاستعادة السيطرة على حكم أفغانستان.

تقارب الولايات المتحدة في طرحها بين التطبيع مع النصرة والتطبيع مع نظام الأسد الذي يسوق له الروس منذ سنتين على الأقل. لسان حال الأميركيين يسأل عن الفارق بين القبول بإرهاب الأسد والقبول بإرهاب النصرة؟ وبالتالي إذا كان التطبيع مع نظام دمشق مقبولا، فيجب أن يكون التطبيع مع النصرة مقبولاً أيضاً. وهذا ما قد يكون مرضياً بالنسبة إلى الكثير ممن يعيشون مع الجبهة في إدلب وريفها طوال سنوات. ليس بالضرورة لأنهم يؤيدون النصرة وإنما فقط رغبة منهم في إنهاء أزمة إدلب، وتفادي اشتعال الحرب مجددا في بلداتهم وقراهم.

القبول بالمقترح الأميركي ينسف مبدأ الحرب على الإرهاب الذي تأسس على ضوئه التحالف الدولي الذي يستوطن سوريا والعراق منذ أربع سنوات بهذه الحجة. كما أنه يسفه ما أنجز من دراسات وبحوث ومقالات وتقارير وندوات ومؤتمرات حول الإرهاب وسبل مكافحته عالمياً. فهو ببساطة يفتح باب التسوية مع الإرهابيين، ويكشف عن ازدواجية في معايير الولايات المتحدة إزاء التعامل مع التطرف. فتبدو وكأنها تقبل بإرهابيين وترفض إرهابيين آخرين.

ثمة فارق واضح بين نظام دمشق والنصرة تتجاهله الولايات المتحدة في طرحها هذا. وهو أن النظام لا يزال يمثل حكومة معترفا بها عالميا ومبعوثها يجلس في الأمم المتحدة ومجلس الأمن تماماً كما يجلس المبعوث الأميركي هناك. لا يمثل هذا الاعتراف شرعية سورية بالنظام وإنما شرعية دولية تسمح للروس بأن يتواجدوا في سوريا ويحاربون الإرهاب بالتنسيق مع الأميركيين والأوروبيين وغيرهم. كما أنه يبقي القتل والاعتقال اللذين يمارسهما النظام في إطار جرائم ضد الإنسانية، وليس ممارسات تضعه على قائمة المنظمات الإرهابية عالمياً.

وبغض النظر عن شرعية النظام وإجرامه الذي يلاحق بسببه في المحاكم الدولية، يأتي المقترح الأميركي في خضم المعارك التي عاشتها وتعيشها إدلب. يقول قائل إنه جاء بغرض التهدئة، وينطوي على كثير من الحكمة وقليل من الخبث السياسي. ولكن من يعرف الروس ويتتبع مسار الأزمة السورية منذ بدايتها يدرك أن المقترح الأميركي كان بمثابة صب النار على الزيت لا أكثر.

لأكثر من عام بقيت موسكو تنتظر من أنقرة فصل المعارضة المعتدلة عن جبهة النصرة في إدلب، وفقا لاتفاق سوتشي الموقع بين الطرفين في سبتمبر 2018. وبدل أن تفعل تركيا ذلك، أطلقت يد النصرة في المدينة وريفها حتى تمددت على كامل مناطق المحافظة مستندة بذلك على تفوقها العسكري وحاضنتها الشعبية. أدرك الروس أن تركيا لم ترد يوماً فصل النصرة أو الاستغناء عنها، فقرروا تطبيق اتفاق سوتشي بقوة السلاح. الخيار الروسي هدد الوجود التركي شمال غرب سوريا ووضع مكتسبات تركيا في الأزمة على المحك. فانتفضت أنقرة وتعالى صراخ رجب طيب أردوغان حتى باتت المنطقة بأكملها على شفير حرب عالمية.

تلخيص من هذا النوع لما جرى في إدلب خلال الأشهر الستة الماضية، يقول بوضوح إن الروس لن يقبلوا بهذا المخرج الأميركي للمأزق في شمال غرب سوريا. وحتى عندما قبل فلاديمير بوتين بعقد قمة مع الرئيس التركي، وجلس معه لساعات طويلة كان الحل الوحيد بالنسبة إليه هو مذكرة ملحقة باتفاقية سوتشي تمنح تركيا المزيد من الوقت لتنفيذ بنودها المعلقة. وافق بوتين على هدنة ترفع يد الفصائل المسلحة عن طريق أم 4 الدولي لتعود الحياة إليه، وقال للأتراك بشكل واضح إن الفصائل المصنفة إرهابية من الأمم المتحدة في إدلب لن تصبح يوماً صديقة لروسيا ولن تمد موسكو يدها لمصافحتها والتسوية معها.

ربما يتغير الموقف الروسي من النصرة بعد سنوات، فتبرم موسكو معها اتفاق سلام كما فعلت واشنطن مع طالبان. لا يوجد ما هو مبدئي أو أخلاقي بالنسبة غلى الروس كما هو الحال بالنسبة إلى جميع محتلي سوريا من أتراك وإيرانيين وإسرائيليين وأميركيين. أما اليوم فلا مبرر لقبول موسكو بالتسوية مع النصرة. وعلى العكس من ذلك تشكل الحرب على النصرة أقوى مواطن حضور الروس عسكرياً في سوريا، وأكبر أوراق الضغط التي تستخدمها موسكو في أي مفاوضات ميدانية أو سياسية تجريها مع خصومها الدوليين لحل الأزمة السورية.