بهاء العوام يكتب:
تركيا والفصائل المسلحة في سوريا: حليف الأمس عدوّ اليوم
فشل تطبيق البند الخاص بتسيير الدوريات المشتركة على طريق “أم – 4” الدولية بين اللاذقية وحلب في سوريا، يعني انهيار اتفاق موسكو للهدنة بين الروس والأتراك في محافظة إدلب شمال غرب البلاد. وهذا الانهيار يعيد الأمر إلى مربع المواجهة بين الطرفين، ويضع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في حرج أمام الرأي العام الداخلي من جهة، ويهدد كل مكتسباته التي راكمها في الشمال السوري من جهة أخرى.
الحل الوحيد أمام الأتراك هو تشغيل الطريق الدولية “أم – 4” تحت رعايتهم ورعاية الروس. أما الخيار الآخر واليتيم بالنسبة إلى الروس فهو إعادة إحياء العمليات العسكرية في ريف إدلب الجنوبي حتى تمام السيطرة على جميع المناطق الواقعة على جانبي الطريق، بعمق يزيد بكثير عن الكيلومترات الستة التي أُقرّت كحدود آمنة للطريق وفق اتفاق موسكو الذي أبرم مطلع الشهر الجاري بين أردوغان ونظيره الروسي فلاديمير بوتين.
لم يفلحْ أردوغان في حشد حلفائه في حلف الناتو ضد الروس قبل اتفاق موسكو، وإن انهار هذا الاتفاق فسيستقبل أكفان جنوده القتلى في سوريا بمفرده مرة أخرى. لم تعد تفيد ورقة المهاجرين واللاجئين للضغط على الأوروبيين من أجل دعم عسكري، ولم يعد يرغب الأميركيون بمزيد من الحوار مع الأتراك حول فرص تراجعهم عن صفقة صواريخ “أس – 400” الروسية، التي تثير قلقهم وتمنعهم من تزويد أنقرة بالمضادات الجوية التي تريدها للحرب في سوريا.
كل هذه المعطيات تقول إن الأتراك عليهم التعامل مع الرفض الشعبي والفصائلي في إدلب لفتح الطريق الدولية “أم – 4”. وهو أيضاً ما قاله الروس للأتراك بعد الدورية الأولى الفاشلة التي حاولوا تسييرها معهم على تلك الطريق منتصف الشهر الجاري تنفيذا لاتفاق موسكو. والسؤال الأساسي الآن هو؛ كيف ستتعامل أنقرة مع الرفض السوري للاتفاق إن جاز التعبير؟ وأين يمكن أن تذهب في سبل إقناع حلفاء الأمس من المسلحين بأن هذا الاتفاق يجب أن ينفّذ مهما كلف الأمر؟
من المعروف أن بعض الفصائل المسلّحة في إدلب لا تدين بالولاء تماماً للأتراك. ويبدو أيضاً أن شقيقات لجبهة النصرة، المصنفة على قوائم الإرهاب الأممية، قد تمردت على الرعاية التركية إلى حدّ مّا ولغاية مّا في نفس يعقوب كما يقال. على الرغم من هذا لا يزال الحوار حتى الآن هو لغة أنقرة في التفاهم مع الرافضين للاتفاق من الفصائل، ومع الذين يدعمون رفضهم من الدول العربية والغربية.
الخيار العسكري في التعامل مع هذا الرفض يبدو وارداً. يمكن لأنقرة ببساطة أن تغضّ الطرف عن عملية عسكرية روسية سورية إيرانية مشتركة تعيد إلى دمشق كل المناطق الواقعة جنوب الطريق الدولية “أم – 4” على الأقل، ثم تتكفل هي بالتقدم بجيشها إلى الجانب الشمالي من الطريق لترسم حدود الاتفاق مع الروس بقوة السلاح، شاء من شاء وأبى من أبى من المعارضة السورية.
ثمة من يقول إن الأتراك يتوقعون مثل هذه الممانعة السورية لاتفاقها مع الروس في الزاوية الشمالية الغربية من البلاد. ونقول الممانعة السورية مجازاً لأنها في شق كبير منها ترتبط بدول عربية وغربية. خاصة وأن الاتفاق الأخير بين الطرفين ينطوي على كثير من النقاط الغامضة التي قيل إنها تشمل الكثير من البنود غير المعلنة، والتي من شأنها أن ترسي تفاهمات روسية تركية كثيرة على امتداد الشمال السوري.
استمرار معارضة الاتفاق يعني أن حلفاء الأمس بالنسبة إلى تركيا يمكن أن ينقلبوا إلى أعداء في المستقبل القريب. وهذا الخيار بحد ذاته مقلق بالنسبة إلى أنقرة إلى حد يستدعي كل هذا الحشد العسكري الذي جاءت به إلى إدلب خلال الشهرين الماضيين. فالانقلاب على الفصائل المسلحة ورعاتهم شمال غرب سوريا لن يمر مرور الكرام هناك. وربما يضطر نظام أردوغان إلى القوة جزئياً أو كليا، وربما يشن حرباً شاملة على المعارضة السورية التي لطالما تغنّى بدعمها.
هناك من يقول إن المعارضة التي شاهدها العالم تقطع الطريق على الدوريات الروسية التركية المشتركة على الطريق الدولية “أم – 4”، كانت مجرّد مسرحية افتعلتها أنقرة لكسب المزيد من الوقت في مفاوضاتها مع الأميركيين والأوروبيين حول الوضع في الشمال السوري. نجحت أنقرة في مسعاها بكسب الوقت، ولكن نتائج حوارها مع الطرفين لم تصل إلى النتائج المرجوّة التي يمكن أن تدفع بأردوغان نحو تمزيق اتفاق موسكو والعودة إلى مربع الصفر في الحديث مع الروس.
منح الروس الأتراك مزيداً من الوقت لتنفيذ اتفاق موسكو بعد دورياتهم المشتركة الفاشلة على الطريق الدولية “أم – 4” قبل أيام. ولكن لن يكون السقف الزمني هذه المرة كما كان في أعقاب اتفاق سوتشي الذي دار حول ذات بنود اتفاق موسكو، ووقع في شهر سبتمبر من العام 2018. بعد اتفاق سوتشي تمهّل الروس وصبروا على مماطلة أنقرة في تنفيذ الاتفاق لأشهر كثيرة، ولكن اليوم تغيرت المعادلة ولا يمتلك الروس أنفسهم رفاهية الوقت ليمنحوه للأتراك مجاناً ودون مقابل.
هو تمهّل وتعقّل خبيث يمارسه الروس في إدلب لوقت محدود ليس كرمى لعيون الأتراك، ولا حسن أخلاق منهم. وإنما يريدون أن يثبتوا لأردوغان وللعالم بأن الإرهابيين الذين يحاربونهم في إدلب لا صديق لهم ولا يمكن التفاوض معهم، ولا ينفع معهم سوى لغة السلاح. المشكلة أن نسبةً يسيرةً من معارضي اتفاق موسكو مدنيون وليس من بينهم من هو مصنّف على قوائم الإرهاب الأممية. ولكن ما إن تدور رحى الحرب حتى يسقط هؤلاء أول ضحاياها وأكثرهم. أما الإرهابيون فدائما يجدون السبيل للبقاء على قيد الحياة.