أزراج عمر يكتب:

الشاعر طه عدنان.. الشعر موقف من العالم وهو سلطة حرّة

ولد الشاعر طه عدنان في أسفي بالمغرب وترعرع بمراكش، ودرس الاقتصاد بجامعة القاضي عياض المغربية، والتسيير ببروكسل، ويعمل بوزارة التعليم الفرنكوفوني البلجيكية. وللشاعر طه نشاطات أدبية مهمة منها مساهمته في إصدار مجلة “أصوات معاصرة” وتأسيس حلقة عكاظ ببروكسل فضلا عن تنسيق الصالون الأدبي العربي ببلجيكا. لقد صدرت له مجاميع شعرية منها “ولي عناكب أخرى”، و”بهواء كالزجاج”، و”أكره الحب”.

في اتصالي به تحدثنا عن الشاعر المغربي الراحل أحمد المجاطي، ومن ثم عن بداياته الشعرية وتطوراتها وعنهما يقول طه عدنان “بدأت الكتابة في أواخر الثمانينات. كنت أكتب بحماس زائد قصائد تفعيلية ذات نبرة عالية أملتها أجواء النضال الطلابي. وقد كنت في غمرة البحث عن صوتي الشعري، عندما صدر ديوان فريد، ولا أقول يتيم، لشاعر مغربي هو أحمد المجاطي، إنه ديوان ‘الفروسية‘. ديوان مغربي أصيل دون تكلّف ولا انغلاق، عربي دون تمشرق ولا انزلاق قومي، منفتح على الأفق الإنساني للشعر. لغته متوهّجة متماسكة وخطابه الشعري ذو نفس تقليدي ينحو نحو التجديد، في استدعاء خلّاق للموروث الشعري العربي وانفتاح واضح على قضايا العصر والمرحلة. وقد شدّني إليه بشكل خاص هذا الحوار الشعري ذو الطابع الرؤيوي للذات في تفاعلها مع العالم والوجود”.


في هذا السياق يحدثنا الشاعر عن مفهومه للشعر وعن علاقة الذات بالعالم فيبرز أنه “بالرغم من أن الإبداع الشعري هو فعل ذاتي خالص، إلا أنه يبقى غير منفصل عن السياق العام الذي أنتجه. لذا، يصعب على الشاعر أن ينكفئ تماما على ذاته مهما تضخّمت هذه الأخيرة ليصبح محور العالم في نصوصه، وينشغل بأشيائه الصغيرة فحسب، لأنّها ليست بالضرورة موضوعا شعريا شاملا. فاحتكاك الذات بالآخر هو مصدر التوتر الوجودي الذي يشكّل مادة الشعر. وقوة الشعر تكمن في الارتقاء بهذه المشاعر الذاتية إلى مستوى السؤال الوجودي. إنّها قوة فعل الخلق الفردي داخل المحيط الاجتماعي“.

ويضيف “شخصيا، أميل إلى القصيدة التي تحتكّ بالواقع وتعبّر عن حيرة وهشاشة الكائن تحت وطأة اللحظة الجماعية بكامل توتّراتها. والقصيدة هي إعادة صياغة لهذا التفاعل الخلاق. محاولة للاشتباك مع قضايا المجتمع والتفاعل مع الأحداث في سبيل شعرنة الألم الفردي والجماعي باعتباره ألما إنسانيا. فالشعر أيضا موقف من العالم، وهو بهذا المعنى سلطة حرّة قائمة بذاتها لها إرادتها المستقلة. وعليها أن تلبّي نداء الكتابة وتنطق بحكم ما حيال ما يجري دونما إكراه من حزب أو قبيلة أو مذهب. إنّها سلطة الفرد الجمعي. فقط، على الشاعر أن يمارس هذه السلطة الفريدة بترفّع عن الظرفي والطارئ ليرتقي به إلى زمن الشعر اللانهائي”.

لا شك أن انتقال الشاعر طه إلى بلجيكا قد شكل لديه بعدا شعريا يضاف إلى تجربته في وطنه المغرب، وفي هذا الخصوص يقول “بعد هجرتي إلى بروكسل عام 1996، بدأت أكتب على كومبيوتري الشخصي لتخرج نصوصي خافتة ومتحرّرة من كل إيقاع. كان لديّ شعور أن قصيدة النثر تضمن حرية الانطلاق عبر جغرافيات الشعر وتخفف من كل الإكراهات الشكلية… لكنّني لم أمنع نفسي قط من إفساح المجال للموسيقى عندما تقترح عليّ إيقاعاتها. فالشكل قد يفرضه الموضوع حينا، مثلما يفرضه الإيقاع النفسي أثناء الكتابة في معظم الأحيان”.

ويتابع “عموما، فقد راوح الشعراء المغاربة بأريحية ما بين اختيارات قصيدة النثر والتفعيلة. ربما بسبب انفتاحهم على الأصل النظري لقصيدة النثر في فرنسا، وأيضا بسبب مواكبتهم لكل الخلافات الفنية التي رافقت قصيدة النثر في المشرق، والتي رغم تداعياتها على الساحة الشعرية الوطنية، إلا أنه لم يكن أحد مهتما بإعادة إنتاج نفس نقاشاتها. رغم نزوع بعض المتطرفين إلى تحويل قصيدة النثر إلى قالب جديد يقيّد من حرّية الشعر، أو إلى عقيدة شعرية تؤطّرها مدارس شعرية أقرب إلى مجالس الإفتاء منها إلى مراكز البحث، ومرجعيات نقدية تتشبه بالمرجعيات الدينية في صرامة الأحكام”.


وعن مخاوفه من أن تصبح قصيدة النثر صنما يعبد، يؤكد أنه يعي الإشكاليات التي تحيط بهذا النمط من الكتابة الشعرية وفي الوقت نفسه عبَر عن ضرورة التحلي بوازع الحرية في التعاطي الشعري المتنوع مبرزا “قد أفهم التخوفات التي واكبت بدايات قصيدة النثر خاصة من قبل سدنة الأوزان الذين وجدوا في حرية الانطلاق باتجاه ممكنات شعرية جديدة تهديدا لصنمية نظرتهم إلى الشعر. لكنني لا أستسيغ اليوم أن يناصب بعض شعراء قصيدة النثر الجدد العداء للوزن والقافية بشكل راديكالي. فالحرية التي تعطيهم الحق في عدم التقيّد بالأوزان، تعطي لغيرهم استثمار هذه الأخيرة لغاية الشعر… هذا العصيُّ على التصنيف. وقصيدة النثر أصبحت سلطة لها سطوتها في الشعرية العربية الراهنة، وللجميع أن يمارس حرية الكتابة في تخفّف كامل من الأوزان. فعل الحرية هذا قد يسفر لدى الموهوبين من الشعراء الجدد عن قصائد لافتة. كما أنه قد يسفر – ربما بسبب التحرّر الكامل من كل القواعد والإكراهات الفنية – عن كمّ هائل من القصائد المنثورة في مواقع التواصل الاجتماعي. قصائد لا يمتُّ معظمها إلى الشعر ولا إلى قصيدة النثر بصلة. إنه نثر بلا قصيدة”.

يحدثنا طه عدنان عن خارطة النقد الأدبي في المغرب ومدى تفاعله مع التجارب الشعرية الجديدة، حيث يرى أن “من خصائص النقد عموما أنه حامل لرؤية واضحة عكس الشعر الذي هو غامض وعصيٌّ على التصنيف. ولطالما عانى الشعر – في السابق – من أصولية منهجية حالت دون التفاعل الخلاق مع المتن الشعري، لأنها كانت تختار منه ما يؤكّد وجاهة هذا الطرح النقدي أو ذلك”.

ويضيف “إلا أنه في العقدين الأخيرين، بدأ النقد يتخفّف تدريجيا من سطوة المنهج الواحد، لتتم الاستفادة من مناهج متعدّدة من خلال مقاربات نقدية تتعاطى مع الممارسات النصية دون مسبقات نظرية لتنصت إلى تحوّلاتها وتستجلي ملامحها الجمالية، بل وتعيد ابتكار مضامينها الفنية حسب السياق النفسي والاجتماعي والنسق الثقافي المنتج للفعل الشعري. هناك مواكبة لجديد الشعر المغربي عبر القراءات النقدية في الصحف والمجلات الورقية والإلكترونية وفي الملتقيات والمهرجانات الشعرية والأدبية تساهم في إغناء النص بكل هذه الأبعاد المعرفية والجمالية وفي تشكيل الإدراك الفني العام بالممارسة الشعرية. وكم من قراءة نقدية أعادت صياغة الشعر المقروء لتضاهيه شعرا. وفي المقابل هناك بعض القراءات النقدية الإخوانية، التي قد تنزلق إلى الطبطبة على نصوص ضعيفة، والتي تغذّيها ظروف المتابعة أو بالأحرى المجاملة الصحافية السريعة… وهذا جزء من التفاعل الإنساني مع ذوات صديقة لا ينفع الشعر ولا يضره في شيء”