بهاء العوام يكتب:
لبنان المنكوب ثلاث مرات
مر لبنان بعد استقلاله بثلاث نكبات كبيرة، كل منها هيأت للتالية والثالثة لا تزال مستمرة حتى الآن. انفجار مرفأ بيروت، الذي وقع في الرابع من أغسطس 2020، ليس واحدة من النكبات وإنما هو فصل من فصول النكبة الثالثة. ربما يكون الأكثر بشاعة، ولكنه لن يكون الأخير إن بقيت الأسباب.
نكبة لبنان الأولى كانت في الحرب الأهلية التي امتدت على كامل أراضيه لأكثر من خمسة عشر عاما بين 1975 و1990. وقد أسفرت هذه الحرب عن مقتل مئة وعشرين ألف شخص ونزوح ما يقرب من مليون نسمة. أما نهايتها فكانت عبر اتفاق أوقف الحرب ولكنه ثبّت الطائفية وأطلق العنان للنكبة الثانية.
خلال الأعوام الخمسة العشر اللاحقة للحرب عاش لبنان تحت الوصاية “الهيمنة” السورية. وكانت هذه هي النكبة الثانية التي ألمت به، فنظام الأسد الأب والابن، ليس وصيا ديمقراطيا. وكان يفضل ألا يغادر أبدا، لولا أنه أجبر على ذلك في العام 2005، تاركا لبنان تحت وصاية أكثر سوءا، ونكبة أكثر خرابا.
نكبة لبنان الثالثة بدأت عندما تولى حزب الله زمام المبادرة وأخذ البلاد رهينة بحجة مقاومة إسرائيل. وبعد عقدين من “المقاومة” اكتشف اللبنانيون أنهم استبدلوا الاحتلال الإسرائيلي بآخر إيراني. فالحزب سيطر على الدولة نيابة عن نظام الخميني وربط مصير البشر والحجر بولاية الفقيه في طهران.
يتحمل حزب الله وزر كل ما يجري في لبنان منذ خروج القوات السورية. فقد وقف دائما ضد أي محاولة لتحييد الدولة الصغيرة وتجنيبها استقطابات المنطقة بأكملها. وكيف يقبل الحزب بحياد لبنان الذي تحول إلى ميناء إيران على المتوسط. وسلمت مفاتيح عاصمته للمرشد صاحب الأمر والولاية.
لم تنته التحقيقات في ملابسات انفجار مرفأ بيروت، وقد تستمر لأعوام بين شد وجذب، لكنها في النهاية ستقول إن لحزب الله يدا أو إصبعا في ما حدث. يستحيل أن تقع مصيبة في لبنان اليوم دون أن يظهر في خلفية المشهد موظف أو برلماني أو تاجر أو مسلح أو وزير أو منظر أو عسس لحزب الله.
في محكمة رفيق الحريري مثال واضح للموت الذي يمكن أن يجلبه الحزب إلى لبنان دون أن يكترث لأحد أو يخشى لومة لائم. فقاتل رئيس الوزراء الأسبق هو “قديس” من وجهة نظر الحزب و”القديسون” في فلسفة الولي الفقيه يتولون مهمة التخلص من خصوم الدولة الخمينية والمعارضين لمشيئتها.
كثير من “قديسي” الحزب نشروا الموت في سوريا والعراق واليمن ثم عادوا أبطالا إلى لبنان. كان من بين ضحاياهم هناك أطفال ونساء وكبار في السن لم يحملوا سلاحا أبدا، وإنما تظاهروا من أجل التحرر من أنظمة استبدادية أو طالبوا بخروج إيران من بلدانهم بعد أن احتلتها بميليشيات حزب الله وأخوته.
ولأن لبنان تحول إلى إمارة للحزب بقديسيه وعسسه وأبواقه وأدواته تورط بأزمات لا ناقة له فيها ولا جمل. كما تحول إلى ساحة من ساحات الحرب بين إيران وأميركا. فطهران تصر على أن تبقى بيروت واحدة من العواصم العربية التابعة لها، في حين أن واشنطن تلح على عودة الخمينيين إلى حدود بلادهم.
بين الخصمين يشكو اللبنانيون حالهم المزري اقتصاديا وسياسيا وعندما يحتجون يواجهون حزب الله في الشارع والبرلمان والحكومة والرئاسة، ويجدونه معطلا لكل شيء قد يدفع بالحياة إلى الأمام، فلا يقبل بأي حل لأي أزمة لا يناسب ولاية الفقيه ويصور كل مبادرة غربية على أنها مكيدة تحاك ضده.
صحيح أن الغرب لن يقدم دعما مجانيا، لكن مهما كان الثمن سيبدو هزيلا مقابل إنهاء هيمنة حزب الله المستمرة على البلاد منذ أكثر من خمسة عشر عاما. بالنسبة للبنانيين لن يكون هناك أهم من إنهاء النكبة الثالثة التي أوصلتهم إلى ذلك الحضيض الذي يعيشون فيه اليوم على كافة الأصعدة والمستويات.
عندما يطالب الآلاف من اللبنانيين بعودة الانتداب الفرنسي إلى بلادهم، فهذا يشير إلى أنهم ضاقوا ذرعا بهيمنة حزب الله. وعندما ترفع صور حسن نصرالله على المشانق في الساحات العامة إلى جانب أمراء الحرب الأهلية وفرسان النكبة الأولى والثانية، فهذا يعني أن كذبة المقاومة قد كشفت وانتهى مفعولها.
يحتاج اللبنانيون إلى التحرر من هيمنة حزب الله لطي صفحات النكبات الثلاث التي مروا بها، فهذه الهيمنة تمد رموز النكبتين السابقتين بالحياة إلى الآن، لأنهم يطرحون أنفسهم كمنقذين لطوائفهم وأتباعهم من بلطجة الحزب وسجنه الدولة كلها على ذمة اتهامات لمعارضي “الثورة الخمينية” بالعمالة للغرب.
لبنان المنكوب اليوم هو لبنان حزب الله. وكل من يتحالف مع الحزب أو يدافع عن “مقاومته”، يؤيد استمرار هذه النكبة. لا حاجة لمزيد من التضليل والخديعة. يعرف الجميع أن الحزب بات يضع رئيسي الدولة والحكومة، ويخط المصائر والسياسات، ومن يفعل كل هذا يجب أن يتحمل عاقبة التداعيات.