جميل مطر يكتب:

نتغلب بالأمل على القلق

وصلني صوتها على الهاتف مُلحاً بكل الاحترام المعتاد ومعاتباً بكل الحب الذي نشأ ثم نما عبر سنوات عديدة من الزمالة والرفقة في مهمة واحدة وفي موقع لم يتغير. قالت، تأخرت يا أستاذي. للمرة الثالثة أو الرابعة خلال مدة قصيرة تتأخر في تسليم مقالك الأسبوعي، وأنت الكاتب الذي كنا نحسب الوقت على مواعيده. أجبت بصوت خرج همساً منهكاً “كنت على وشك تقديم اعتذاري عن عدم الكتابة، وللحق كانت مقالتي أمامي، مكتوبة وجاهزة للنشر، لا ينقصها إلا دفعها للنشر. وأنا لا أريد. لا أريد أن أزيد القلق عند قارئ لا ذنب له وفي الغالب لا شأن له بصناعة الأخبار وتحليلها ونشرها. صرت لا أجد فيما اقرأ وأسمع سوى ما يقلق، وبدورنا لم نعد نكتب سوى عن أمور تقلق. لم أحلم يوما بنفسي كاتباً تسبقه سمعة ترويج القلق وإجادة التعليق عليه”.

القلق في كل بيت. قلق كالقلق في كل العالم بسبب تطورات الحرب العالمية ضد الكورونا. خسرنا، وأقصد خسرت البشرية، بكل ما أوتيت من علم  وتكنولوجيا وثروات وأطباء وممرضات وسياسيين وقادة عظام، خسرت معاركها الأولى مع الفيروس. مرت سبعة شهور لم نحقق نصراً واحداً حاسماً ضده بينما استمر يحصد مئات الألاف من البشر وحده أو متحالفاص مع قوى أخرى تناصب الإنسان عداوة أو أكثر. اليوم على غير معظم الأيام الفائتة استيقظت على خبر يفيد أن جامعة اكسفورد على وشك إنتاج لقاح مضاد للفيروس الذي ما زلت أصر على أنه شرير معتذراً لزميلتنا الطبيبة الكاتبة بسمة عبد العزيز التي حاولت اقناعي بأن لا داعي لوصف الفيروس بالشرير فالشر طبيعته ومهمته.

أعترف بأن موجات من التفاؤل حاولت في البداية تخفيف حدة القلق، ليس فقط عندي ولكن عند آخرين في كل أركان الدنيا. كان الأمل أن تنتفض حكومات، نعم أقصد حكومات تنتفض، فتقرر تسوية الخلافات بين بعضها والبعض الآخر، والخلافات بينها وبين شعوبها، والخلافات بين أجهزتها وبعضها البعض. غريب أمر الإنسان، أن يأتي مثل هذا العدو الخارجي ويهدد سلامة البشر والمؤسسات والقيم والحضارة، والسياسيون عنه لاهون بطموحاتهم الشخصية وأوهامهم التوسعية.

لم تعش موجات التفاؤل طويلاً. انتهينا، كما في حالتنا الآن، والقلق يعشش في كل بيت ومكتب وشارع ومدينة. انتهينا وقد ازدادت الخلافات بين الناس. ارتفعت معدلات الجريمة والتحرش والسرقات وازدادت إثارة حكايات الفساد. حكومات انتهزت الفرصة وشددت قبضتها على أصحاب رأي مغاير أو متردد، وأفراد انضموا لميليشيات مسلحة للنهب أو للقتل ومقابل وعود بحياة رغدة بعد انحسار الوباء وعلى حساب دول ستنفرط.

***

ذات لحظة عشنا مع حلم. الجامعة العربية تتحرك. راح الظن إلى أن دولاً بعينها أدركت أن الوقت حان ليجتمع المسئولون عن الصحة في الدول الأعضاء ويرفعوا تقريراً إلى رؤساء الحكومات وهؤلاء بدورهم يقترحون أن القمة ضرورية لتخصيص موارد كبيرة وتكليف جهات عربية أو دولية تتولى زمام الأمور قبل أن يفتك الفيروس بالأمة. لاحت فرصة أعرف أن كل حريص على مستقبل أفضل لهذه الأمة التعيسة ينتظرها، ينتظر فرصة أن يتحرك القادة العرب تحرك رجل واحد فيقررون وتنفذ قراراتهم، فيعودوا ليقرروا قرارات أخرى وتنفذ قراراتهم. لاحت فرصة لنهوض يوقف الانكسارات ويجدد الأمل ويسد الفراغ أمام الطامعين، كله أو بعضه. لم يعقد الاجتماع ولم تصدر قرارات، وما صدر عن لقاءات بيروقراطية المستوى لم يخدع الناس. تدهورت الأحوال وازدادت الفتن وظهر فراغ الساحات العربية جذاباً لكل مغامر وكل مجاور. وغاب الأمل في انتظار انتفاضة الدول على الجامعة أو انتفاضة الجامعة على أعضائها.

***

ذات لحظة أخرى، اجتمع قادة دول الاتحاد الأوروبي ليقرروا في أمر خطير. الاتحاد الأوروبي مهدد بالانفراط إذا عجزت دول الاتحاد عن دفع عجلة النمو في أوروبا وتعويض العجز الناتج عن حرب الكورونا. تعطلت مصانع وتغيرت سلوكيات ملايين البشر وتضخمت أرقام البطالة وتعقدت ظروف الحياة في دول كثيرة، وفي الوقت نفسه، لم تكن  كل العلاقات بين أعضاء الاتحاد في حالة جيدة. أربعة أيام عاشتها أوروبا واجمة. تفرغ القادة جميعا بدون استثناء خلالها للقضية الواحدة التي اجتمعوا من أجلها. تركوا عواصمهم ووضعوا الكمامات تواضعاً على وجوههم. لم يكن بين البدائل المطروحة الخروج بدون قرار أو بقرار انشائي أو عاطفي. ظهرت صورهم جادين. وحدة أوروبا كانت على المحك. السؤال الطاغي لأربعة أيام، هل نجدد الأمل في مستقبل أوروبا أم نستمر في لهونا اعتماداً على عودة أمريكا لتقود. الطامع في فشل الاجتماع تمنى الفشل وربما ساعد بالتخريب في تعميق الخلاف. في النهاية انتصرت أوروبا. خرجت بمشروع تنمية لسنوات عديدة  بدون مساعدة من الولايات المتحدة، وفي الواقع ضد رغبة رئيسها ورئيس روسيا ورئيس تركيا.

الشهور القادمة حبلى بشتى أنواع القلق. الكورونا عنصر واحد من عناصر عديدة مثيرة للقلق. الوضع العربي عنصر آخر وحسابات الرئيس ترامب الشخصية عنصر ثالث وجني إسرائيل ثمار انتصاراتها عنصر رابع وزحف العنف نحو وديان الأنهار الكبرى في الشرق الأوسط عنصر خامس

***

هناك على الناحية الأخرى من الأطلسي يقف رئيس الولايات المتحدة بكل الأنانية المطلقة يعلن من فوق جميع المنابر أن الفيروس صيني المنشأ والهوى والغرض. أدرك مبكراً أن حملته الانتخابية سوف تفتقر إلى قضية “شعبية”. الكره الذي نشره في الشارع الأمريكي عاد إليه محمولاً على جناحي فيروس. أقدم على مغامرة لا يقدم عليها إلا مقامر محترف. أدخل الوطن كله شريكاً فيها. قال إن الصين انتجت الفيروس في معاملها وصدرته لأمريكا والعالم، أو أخفت معلومات ظهوره وانتشاره عن عمد لتصيب ملايين البشر في الغرب بالمرض. لم أخطئ، ولم يخطئ كثيرون غيري توجسوا شراص من وراء الحملة ضد الصين ليس فقط بسبب الكورونا. كان مثيراً للاهتمام منذ البداية موقف الرئيس ترامب من الصين منذ أن قرر أن يبدي تعاطفاً مع روسيا ويقيم صداقة حميمة مع الرئيس بوتين. قدرنا منذ ذلك الحين أن الرئيس لا يهمه شيء قدر اهتمامه بتجديد ولايته، وهذه كما كشفت أجهزة الاستخبارات وتحقيقات موللر تضمنتها روسيا التي تدخلت في انتخابات الولاية الأولي. لم يكن متصوراً أن الرئيس ترامب سوف يحتاج في وقت مبكر من حكمه إلى إبراز الصين عدواً بالشكل الذي اختاره لها فور اندلاع أزمة الكورونا وهبوط شعبيته بشكل متوالي، بمعنى آخر، أدرك ترامب أهمية أن يجعل الكره للصين يجب أن يكون هدف حملته الانتخابية ويأتي قبل أي استراتيجية أخرى. اخطأ ترامب حين بالغ في تصدير الكره وتحشيد الدبلوماسية وحلفاء أمريكا والدفع بقوى بحرية إلى منطقة الباسيفيكي. عرف ترامب أن في عصر العولمة لا تتمسك الدول بأولوية تعاقداتها السياسية، الأهم دائماً التعاقدات التجارية والمالية. حلفاء الأمس هم حلفاء الأمس.. بدا واثقاً أنه لو تأخر فسوف يجد دول جنوب شرق آسيا وقد صارت خاضعة لاتفاقات واستثمارات صينية لن تتمكن أمريكا من تخليصها منها. الآن، يهرع وزراء أمريكا الأساسيون في رحلات مكوكية لنشر القلق في الهند واستراليا وجنوب شرق آسيا واليابان أن احذروا الهيمنة الصينية، أما هو فقد تولى بنفسه إثارة الرعب من الصين في داخل أمريكا ونشر القلق على امتداد المرحلة الانتخابية مبقياً كل الأبواب مشرعة لاحتمال أن يجد نفسه وحملته الانتخابية والحزب الجمهوري في وضع يتطلب تأجيل إعلان نتائج الانتخابات وفرض حالة دستورية جديدة في أنحاء البلاد. الخطر الصيني جاثم وأمن الولايات المتحدة في خطر.

الشهور القادمة حبلى بشتى أنواع القلق. الكورونا عنصر واحد من عناصر عديدة مثيرة للقلق. الوضع العربي عنصر آخر وحسابات الرئيس ترامب الشخصية عنصر ثالث وجني إسرائيل ثمار انتصاراتها عنصر رابع وزحف العنف نحو وديان الأنهار الكبرى في الشرق الأوسط عنصر خامس.