سمير عادل يكتب لـ(اليوم الثامن):
يسارياً شعبوياً أم يسارياً طائفياً ؟
رغد أبنة أكبر جزار للشيوعيين، أي رغد صدام حسين تنعى رحيل الشاعر مظفر النواب، مصطفى الكاظمي رئيس الوزراء الذي عرف بتنصله من وعده في تقديم قتلة متظاهري أكتوبر للعدالة ينظم ويتقدم موكب تشيعه، نوري المالكي الأمين العام لحزب الدعوة وأحد ألد أعداء الشيوعيين يحاول منافسة الكاظمي والمزايدة لحضور الموكب، إلا إن المفاجأة إن سمعته قد سبقته، فطٌرد بوابل من الشتائم واشياء اخرى اضافة الى حضور شخصيات أخرى من هنا وهناك ليصطف الجميع ويطلقوا برقيات النعي والأسف على رحيل مظفر النواب.
في بلد حكمه البعث، تلطخت اياديه بدماء أكثر تيارات المعارضة السياسية وهم الشيوعيين، وفي بلد تحكمه سلطة مليشيات اسلامية ترتعد فرائصها اذا ارتفع صوت اديب معارض، او صدح صوت فنان، او طفى على السطح من تغنى بالحياة، في بلدٍ لا قدر ولا تقدير لكل ما هو ابداع انساني، تصطف كل رموز القمع والاستبداد وكره الحياة ولطم الخدود لتنعي شاعرا مثل مظفر النواب، الا يستحق هذا المشهد اقل ما يوصف بالدرامي، الحيرة ويرسم علامات استفهام!!!
جيل النواب...جيل نكبة اليسار المعادي للامبريالية الغربية:
رحل الشاعر مظفر النواب قبل أيام عن عمر ناهز الثمانية والثمانين عام، ويمكن القول إن النواب آخر منْ تبقى من أطلال جيل عاش نكبة اليسار ومجازره بشقيه العالمي والإقليمي؛ حيث تدرجت عليه الانقلابات الدموية بدعم وتخطيط المخابرات المركزية الامريكية للإطاحة بالأنظمة القومية التي خرجت من تحت عباءة الاستعمار والهيمنة الامبريالية في العراق ١٩٦٣ واندونيسيا ١٩٦٥ وتشيلي ١٩٧١، وكانت تقصف فيتنام بكل وحشية و بقنابل النابالم المحرمة الدولية من قبل الاحتلال الأمريكية الذي قتل اكثر من ٢ مليون انسان بدم بارد، وقبلها تم تصفية تشي غيفارا رمز التمرد الثوري ضد الهيمنة الامبريالية الامريكية. اما الوضع المحلي والإقليمي فكان أكثر قتامة، فانه اضافة الى مرارة السجن الذي عانى منه النواب ووجع التعذيب والخوف ممن ينتظرون سرقت روحه ومعاناة سنوات الهروب بعد الانقلاب الدموي للبعث والقوميين العرب، فكان في ثنايا النكبة، الهزيمة العسكرية في حزيران ١٩٦٧ والهجوم العسكري الذي قاده الملك حسين في أيلول عام ١٩٧٠ على منظمة التحرير الفلسطينية وإخراجها من الأردن والذي سمي (أيلول الأسود) وهزيمة حركة ظفار ١٩٧٥ امام سلطان قابوس في سلطنة عمان المدعوم من نظام شاه إيران شرطي امريكا في المنطقة، وكانت تلك الحركة المدعومة حينذاك من قبل عبد الناصر واشتعال الحرب الأهلية اللبنانية عام ١٩٧٥.
لقد فُطم ذلك الجيل على انتصارات إسرائيل وتمدد الامبريالية الامريكية في العالم، وترسيخ الانظمة القومية العربية الجديدة جذورها. إن مظفر النواب أبن تلك المرحلة وابن جيل، شهد انكسار المشروع القومي العربي، وهزيمة استراتيجية ذلك الجناح الذي رفع لواء مقاومة الاستعمار والامبريالية والصهيونية، بينما ظل حائرا هل استراتيجيته تحرير فلسطين طريق لتحرير الأمة العربية أم تحرير الامة العربية طريق لتحرير فلسطين، انه جناح البرجوازية الوطنية الصاعدة التي مثلها العسكر عبر تلك الانقلابات العسكرية في مصر والعراق وسورية وليبيا…الخ.
كان مظفر النواب أحد ممثلي المتمردين لذلك الجيل في العراق إذا لم يكن أبرعهم، ومنيت أحلامه القومية بهزيمة نكراء، ليعبر عن سخطه و امتعاضه ورفضه للواقع الجديد. أي بلغة اخرى كان النواب تعبير عن متنفس المهزومين “الثوريين”. وقد جسده النواب في قصائده (وتريات ليلية) و (القدس عروس عروبتكم) (وطني علمني كل الأشياء) و(رحيل)..الخ.
كان النواب تعبير عن صرخة ضد الظلم السياسي و ثائرا ضد الاستبداد لجيل فشلت أحلامه بتحرير فلسطين وإلحاق الهزيمة بإسرائيل وأمريكا والانظمة السياسية التي كانت تقبع في خندقها.
وبقدر وجع الهزيمة التي مُني به المشروع القومي العربي بنفس القدر تم ترسيخ تلك الأنظمة القومية سلطتها السياسية والاقتصادية. واستطاعت الحركة القومية العربية بجميع أجنحتها اليمينية واليسارية صاحبة المشروع القومي بدهاء غير متناهٍ اكتشاف القضية الفلسطينية وتبنيها والتي كانت بمستوى قيمة الفوز ببطاقة يانصيب (لوتو) لها. فعن طريقها حلت تناقضاتها الأيديولوجية والسياسية وخلقت انسجام في صفوفها ومحورتها حول هوية واحدة وهي الهوية الفلسطينية او القضية الفلسطينية. ذلك الاكتشاف كان حاجة ضرورية للدفع بالمشروع القومي في بناء اقتصاد بعيد عن أطماع ونفوذ الغرب وبنية تحتية اقتصادية قادرة على انتزاع حصتها من الامبريالية ولعب دورها السياسي والاقتصادي في النظام الرأسمالي العالمي، وسلطة استبدادية مطلقة، ولا حديث ولا صوت يطالب برغيف خبز وحرية وكرامة غير صوت تحرير فلسطين.
لنعود الى مظفر النواب فهناك مستويين يمكن الحديث عنهما. المستوى الأول هو الشاعر والمناضل السياسي الذي لا يمكن الفصل بينهما، فوظيفة النواب السياسية او المناضل السياسي هي امتهان الشعر واستخدامه كأداة تحريضية ودعائية لاستلهام “الامة العربية” المنهزمة والنهوض بها وتعرية الواقع السياسي وما آلت اليها، عبر نقد حكامها المستبدين و الأنظمة الخانعة والتابعة للإمبريالية، والذي هو في حقيقته نقد الجناح الآخر في الحركة القومية العربية الذي يعبر عن مشروعه الاقتصادي والسياسي بالمصالحة مع الغرب والرضى على ما ترميه من قسمة وإعطاء مكانة لها في مناطق النفوذ بين الأقطاب الامبريالية العالمية. اما الاخر هو المستوى الشخصي، وهو ما لاقاه من قمع واضطهاد سياسي بكل اشكاله اسوة بآلاف من المعارضين السياسيين في العراق وفي أراضي (الامة العربية) من المحيط الى الخليج. وقد نجح النواب في ان يلمس قلوب جماهير عريضة عبر أمسياته الشعرية وتوزيعها في تسجيلات (كاسيت ) آنذاك لتدخل بيوت أكبر عدد من المعارضين السياسيين سواء في العراق أو في المنطقة. ولعب أدائه بإلقاء الشعر في الأمسيات الى حد وصفه من قبل العديد من النقاد والمتابعين بمسرحيات ملحمية. وهذا الأداء الشعري والمحتوى السياسي جعل من النواب ممثلا عن زفرات وآهات جيل َطبَعَ في أذهان المجتمع برمته أحلامه القومية من مشاريع اقتصادية وسياسية، وامتزج في وجدانهم مظفر النواب الذي عانى من التعذيب والسجن ليختلط المستوى الأول والثاني، دون التوقف للحظة وطرح سؤال ماذا كان يمثل النواب، ولماذا اليوم يقف ألد اعداء الحرية صفا واحدا بالتبضع سياسيا سواء في موكب تشيعه او في نعيه.
رغد صدام حسين والنفس القومي:
بالنسبة لرغد صدام حسين، لا نأخذها بجريرة ابيها المجرم صدام حسين الذي كان يعذب الشيوعيين بيديه في قصر النهائية وهو من يضع نهاية لحياتهم، وكان مظفر النواب واحد من اولئك التي تكتب رغد النعي لرحيله. ان رغد وفي الأجزاء الستة لمقابلتها مع (القناة العربية) قبل عامين اعادت نفس صورة النظام البعثي ودافعت بل صلافة عن جرائمه واكثر من ذلك قالت (ان الشعب العراقي اخطأ ولا تريد محاسبته) فهل هناك صلافة ما بعدها صلافة ووقاحة. لكنها تنعي مظفر النواب، لان شعر نواب انتقد الحكام العرب وانظمتهم السياسية الذين يدورون في فلك الامبريالية الامريكية، وجه النواب سياط نقده ضد ذلك الجناح المتخندق مع الامبريالية كما اشرنا. ان شعر النواب يطفأ النيران المشتعلة في قلب رغد عندما اصطف ذلك الجناح لإسقاط النظام البعثي عبر الغزو والاحتلال. أنها تستحضر روح الامة العربية التي كان ينعيها النواب وتسقط ارهاصاته على الواقع الذي اسقط خلاله نظام صدام حسين. بيد ان رغد لا تريد ارهاق نفسها كي تبحث في تاريخ النظام الذي مثله صدام حسين، وهو نفس التاريخ الذي يسطع فيه نجم النواب، بقتل الشيوعيين عبر تدبير حوادث الدهس بالسيارات واحواض الاسيد داخل العراق والاغتيالات في خارج العراق والموت بالتعذيب في غرف قصر النهاية، وطلب من الباقين لمن وصلت دعوات امهاتهم الى السماء بعد اجتيازها كل السيطرات الامنية و حالفهم الحظ من كتابة (البراءة) من الحزب الشيوعي وهي عنوان القصيدة التي حكم بسببها النواب ثلاث سنوات بالسجن. ان رغد صدام حسين تريد التشفي بما قاله النواب عن الحكام العرب المتآمرين على الامة العربية وقضية فلسطين. ( من ركب اقنعة لوجوه الناس..والسنة ايرانية!!!…من هرب ذاك النهر المتجوسق بالنخل على الأهواز..اجيبوا فالنخلة ارض عربية..حمدانيون!بويهيون!
المالكي والسردية الطائفية:
اما المالكي رمز الطائفية والطائفيين في العراق اذا لم نقل قائدهم دون منازع وهو احد الد اعداء الشيوعية، يستذكر اليوم مظفر النواب وينافس الكاظمي للحضور في موكب تشيعه، وهو في كل مناسبة لإحياء ذكرى اغتيال محمد باقر الصدر، يتهجم على الملحدين والعلمانيين وضمنا الشيوعيين، وحيث أشار في واحدة من أحدى احتفالاتهم بمناسبة تأسيس حزب الدعوة، ذكر من على منصة الاحتفال، بأن تأسيس حزب الدعوة الذي يشغل هو منصب أمينه العام تأسس من أجل مواجهة الشيوعية. ومع هذا فإن حضور موكب التشييع فرصة للتعفف مثل رغد والتمسح بعباءة مظفر النواب. من قرأ (وتريات ليلية-١٩٧٢-١٩٧٣) واشتهر النواب من خلالها في العالم العربي، يصل دون عناء الى تفسير حضور المالكي في موكب التشييع. ولو كتبت ملحمته الشعرية (وتريات ليلية) في مرحلة ما بعد الاحتلال وتحديدا بعد تفجيرات شباط ٢٠٠٦ لمرقدي العسكري في مدينة سامراء، لتحول النواب الى رمزا للطائفية ولكان يسير في موكب التشييع الى جانب المالكي جلال الدين الصغير وحنان الفتلاوي والعامري والخزعلي والقائمة لا تعد ولا تحصى من الرموز الطائفية في المشهد السياسي العراقي. فالنواب اراد تحضير روح التاريخ الإسلامي الدموي عبر شخصياته قبل بناء الإمبراطورية الإسلامية واسقاطه على واقع ما آلت اليه (الامة العربية) في تلك المرحلة، وقد وجه سياط نقده على معاوية وابي سفيان ويزيد وعثمان وعمرو بن العاص (تختلط الريح بصوت صحابي..يقرع باب معاوية ويبشر بالثورة..ويضيء الليل بسيف يوقد في المهجة جمرة..ماذا يقدح في الغيب الأزلي أطلوا..ماذا يقدح في الغيب..أسيف علي !!..قتلتنا الردة يا مولاي..كما قتلتك بجرح في الغرة..هذا رأس الثورة يحمل في طبق في قصر يزيد..وهذي البقعة أكثر من يوم سباياك..فيا لله وللحكام ورأس الثورة..هل عرب أنتم..ويزيد عمان على الشرفة..يستعرض أعراض عراياكم..ويوزعهن كلحم الضأن لجيش الردة..هل عرب أنتم..والله أنا في شك من بغداد إلى جدة..هل عرب انتم..وأراكم تمتهنون الليل..على أرصفة..الطرقات الموبؤة أيام الشدة..قتلتنا الردة..قتلتنا الردة..قتلتنا الردة) وايضا (أنبيك عليا!..ما زلنا نتوضأ بالذل ونمسح بالخرقة حد السيف..ما زلنا نتحجج بالبرد وحر الصيف..ما زالت عورة بن العاص معاصرة..وتقبح وجه التاريخ..ما زال كتاب الله يعلق بالرمح العربية!..ما زال أبو سفيان بلحيته الصفراء,..يؤلب باسم اللات..العصبيات القبلية..ما زالت شورى التجار ترى عثمان خليفتها) والتذكير بالتهمة التي وجهت الى عائشة بالمعاشرة الجنسية وهي زوجة الرسول وخارج المؤسسة الرسمية للزواج (من أين سندري أن صحابيا..سيقود الفتنة في الليل بإحدى زوجات محمد..من أين سندري أن الردة تخلع ثوب الأفعى.. صيفا وشتاء تتجدد) وتشبيه كل تلك الشخصيات بشخصيات حكام العرب الفاسدين والمجرمين والمتخندقين في خندق الامبريالية والصهيونية والرجعية، كما اعتاد الخطاب السياسي العربي بوصف الاوضاع السياسية في تلك المرحلة، وفي الوقت ذاته يشيد بعلي والانتماء اليه دون شروط وتبجيل الحسين مرات ومرات(أنا أنتمي للمسيح المجدف فوق الصليب..وقد جرح الخل وجه الإله على رئتيه..وظل به أمل ويقاتل..لمحمد شرط الدخول إلى مكة بالسلاح..لعلي بغير شروط..أنا أنتمي للفداء..لرأس الحسين) وفي ثنايا هذه السردية الشيعية يؤكد على عروبته، حيث يصف (روحه عربية) في كل عدد من الأبيات من القصيدة (يا حامل مشكاة الغيب.. بظلمة عينيك..فروحي عربية) ( يا مشمش أيام الله بضحكة عينيك…ترنم للغة القرآن..فروحي عربية) . وإذا ما تعمقنا أكثر في ذلك، فإن النواب من وجهة نظر المالكي وقادة الطائفية الشيعية يرد في قصيدته (وتريات ليلية) على التهمة التي طالما وجهت الى (الشيعة السياسية) بانهم موالين للفرس وناكرين للعروبة.
وفي الجانب الآخر فالنواب تحول إلى رمزٍ ضد الدكتاتورية والاستبداد، وبموازاته كان رمزا يدافع عن فلسطين حتى في قصائده في الانتفاضة الثانية عام ٢٠٠٠. ان المالكي يحاول المزج بين طمس ماهيته الطائفية حيث اطلق على نفسه لقب “مختار العصر” تيمنا بمختار بن يوسف الثقفي الذي رفع شعار (يا لثارات الحسين) ووصف صراعه مع القوى القومية و تظاهراتها في المنطقة الغربية عام ٢٠١٣ في خطبه في الناصرية والبصرة بأن حربه معهم هي حرب الحسين ويزيد. اي بعبارة اخرى يجد المالكي في تشييع موكب النواب ملاذا سياسيا للاختباء تحت عباءته، والظهور من جديد لإعادة تلميع ماضيه الذي تفاخروا به وهو معادة نظام صدام حسين (ماذا يدعى الدولاب الدموي ببغداد). بمعنى آخر يمكن القول أنها محاولة في لحظة تاريخية للتعفف بعباءة النواب لمحي جرائمه الطائفية منذ ان رضى عليه زلماي خليل زادة المبعوث الامريكي الى العراق وبوش وتوج رئيسا للوزراء.
الكاظمي ومشروعه العروبي:
أما الكاظمي ينظر الى النواب من خلال مشروعه القومي الذي فجر غضب إخوته في السلطة المليشياتية الإسلامية التي نصبته للإفلات من قبضة انتفاضة اكتوبر. فالنواب الذي تحول رمزا ضد الديكتاتورية والاستبداد، وينتمي الى جيل امتلك رؤية ومشروع، يعتبر الكاظمي نفسه جزء منه. والمفارقة أن النواب تعرض الى كل اشكال الظلم السياسي وانتفض ضده بينما يتناسى الكاظمي ما تعرض له النواب، وهو وعد متظاهري انتفاضة أكتوبر بإنصافهم وإطلاق الحريات ومحاكمة الملطخة اياديهم بدماء ضحايا الانتفاضة. وهكذا فأن الموكب الرسمي الذي نظمه الكاظمي هو محاولة اخرى لتنظيف صورته المنافقة مثل زملائه رغد والمالكي والتمسح بعباءة النواب عسى ولعل أن تنسى جماهير العراق والتي يمثل الجيل الشباب الجديد اكثر من نصفه لم يسمعوا عن النواب وقصائده سوى نزر يسير، نقول محاولة لكي تنسى جماهير العراق كل الوعود الكاذبة التي اطلقها الكاظمي للقصاص من قتلة المتظاهرين، وفي نفس الوقت تسويق صورة خادعة جديدة انه اي الكاظمي يعرف قدر الشعراء والشعر والأدب والفن ولذلك يجب تقديرهم!
النواب بين اليسار الشعبوي واليسار الطائفي:
أما مدى كون النواب شيوعيا، فنستطيع أن نقول عنه، أن رواية النواب او الجيل الذي انتمى له للشيوعية، هي رواية معاداة الدكتاتورية والاستبداد والامبريالية والصهيونية، وتعلل العلاقة بينها وبين جذرها القمعي والوحشي الى وجود حكام فاسدين و خانعين وغير مستقلين، وليس لها اي ارتباط بالنظام الرأسمالي القائم على استثمار العامل الانسان. في حين كان الجميع من الدكتاتوريات العربية والانظمة المستبدة القومية، شاركت في حمية قل نظيرها في رفع لواء القضية الفلسطينية لتبرير قمعها واجرامها وافقارها وسلبها للحريات الانسانية، مثلما ما تفعلها ما تسمى بمليشيات المقاومة والممانعة اليوم بعد انتقال البندقية الى كتفها اثر الهزيمة التي مني بها جيل مظفر النواب.
إن استخدام النواب لمقولات وتسميات واستعارة سرديات دينية من التاريخ تبين أنه كان يساريا شعبويا، وليس له أية علاقة لا من قريب ولا من بعيد بشيوعية ماركس التي توجه نقدا لاذعا للدين والقومية والطائفية والفرقوية دون اية مساومة او مجاملة وتحت اية ظروف. وفي أدب ماركس ليس هناك مقولات الفقراء والاغنياء كما يحاول استخدامها النواب، بل هناك طبقات، ومقولات النواب هي محاولة لطمس الصراع الطبقي واستخدام الدين وتاريخه لدغدغة المشاعر والاحاسيس الرجعية، والدين ليس الا جزء من البنية الفوقية للنظام الرأسمالي وتستخدمه الطبقة البرجوازية بكل تياراتها القومية والاسلامية وحتى الديمقراطية في الغرب ايام المحن كسلاح في تحميق الجماهير وخاصة الطبقة العاملة التي تمسك بشريان الحياة الاقتصادية في المجتمع وتقسيمهم الى شيعة وسنة وكرد وتركمان و اشوريين ودرز وعلويين وبربر..لتوجيه نصال نضالهم تجاه صدور بعضهم بدلا من توجيهها الى ذلك النظام الرأسمالي القبيح، وتعميتهم في رؤية سبب شقائها. وإن وصف الصراع بين معاوية وعلي أو بين الحسين ويزيد بانه صراع بين الاغنياء والفقراء، فانه اقحام ذهني للسردية الطائفية الشيعية على الصراع بين بني أمية الذي مثله معاوية وابنه يزيد وبني هاشم الذي مثله علي وابنه الحسين، وليس له اية علاقة بالمعطيات الواقعية التاريخية والتي تكشف كونه صراعا على السلطة. اما أن معاوية كم كان فاسدا ويملك أموال وكم أن ابنه مجرم في حين أن عليا والحسين ملتزمون بالدين والأخلاق، وان عثمان نُصب خليفة من قبل تجار مكة فلا يفسر الصراع بأنه كان صراعا طبقيا أو صراعا على الأقل بين الأغنياء والفقراء. وقد وصف العديد من الكتاب العرب مظفر النواب مثل أحمد البرقاوي في مقاله المنشور في مجلة (نزوى) الصادرة عام ٢٠١٧ تحت عنوان (مظفر النواب والمكبوت الطائفي في وتريات ليلية) وراشد عيسى عام ٢٠١٩ في مقال له منشور في الجريدة الالكترونية (المدن) (يوم صفقنا لمظفر النواب) و مازن أكثم سليمان الكاتب السوري في وصفه على تعبير عيسى “عن نسبة كبيرة من مثقفي الأيديولوجيات العربيّة القوميّة واليساريّة في القرن العشرين، ممَّن تدثَّروا كذباً وبُهتاناً برداء الحداثة والعروبة والاشتراكية والتقدمية، وهم لم يخرجوا من عباءات انتماءاتهم الطائفية الضيقة،.." بأن مظفر النواب لم يستطع التخلص من طائفيته.
بيد أن مواقف النواب التي تتجسد في قصائده لا تثبت طائفيته وإن ساق السردية الشيعية الكلاسيكية في وصف واقع (الأمة العربية) وقضية فلسطين. فهو وفي مكان اخر وفي قصيدته بعنوان (جهيمان) ليسجل موقفه من حادثة الحرم المكي الشهيرة عام ١٩٧٩، فبعد أن احتل جهيمان العتيبي ومئتان من أتباعه الحرم المكي وقاتل القوات السعودية لمدة ١٥ يوم صور النواب جهيمان بالبطل (يا جهيمان حدّق، فما يملكون فرائضهم. نفذت.. زرعتهم قرحاً.. ونفذت بعيداً فأصلابهم عاقمة.. فإذا طوّفوا كان وجهك.. أو سجدوا فالدماء التي غسلوها..تسدّ خياشيمهم ومناخيرهم..وقلوبهم الآثمة). وقد وصف اليسار بالغبي حسب وصف عيسى لأنه لم يناصر حركة جهيمان ( لم يناصر هذا اليسار الغبي). وأضاف اي النواب (أيها الناس: اعلن أن الحجيج سلاحا بمكة في السنة القادمة..كافر من يحج بدون سلاح). وقد نصب العتيبي صهره عبد الله القحطاني الذي كان يرافقه في العملية بالمهدي المنتظر. والأخير كان من أتباع وتلامذة مفتي السعودية بن الباز، أي كان من الوهابيين. فإذا كان النواب طائفيا لما أيد بحمية وحماسة ما قام به العتيبي. وهذا يعني كان النواب متمردا ضد الانظمة العربية التي يصفها بالخونة والمتخندقين مع امريكا ( يزعم أن شيوخ ابي ظبي والبحرين ورأس الخيمة…يخفون ذيولا ارفع من ذيل الفأر..وحين يخرون سجودا للشاه..تبين قليلا من تحت عبائتهم..ويبشرنا بالخازوق). اي ان النواب ليس طائفيا بل متمردا شعبويا ويستخدم المقولات الشعبوية في كل قصائده مثل الأغنياء والفقراء والجياع.. ويوظف المفردات الدينية والشخصيات الدينية التاريخية لوصف الاوضاع السياسية في تلك المرحلة، يعبر عن نفسه بانتمائه القومي والتشدد عليه وعلى ثورته ضد القوميات الاخرى الفرس والروم والترك مثل بقية الشعبويين مع فارق واحد بوصف نفسه بالخانة اليسارية. وفي الحقيقة إذا ما تمعنا حتى في مفرداته عن المرأة في قصائده وخاصة في قصيدته المشهورة (القدس عروس عروبتكم) فهي تتطابق مع النزعة الذكورية والرجولة القومية والتي تصب في عمق الخطاب الشعبوي لتحريك المشاعر وتهيج الأحاسيس المتخلفة كما اشرنا.
واخيراً برحيل مظفر النواب تطوى صفحة ما تبقى من جيل تحطمت آماله وأحلامه القومية (انا ابكي بالقلب لأن الثورة يزنى فيها…والقلب تموت أمانيه) ويقول ( ماذا يدعي سمة العصر وتعريص الطرق السلمية..ماذا يدعى استمناء الوضع العربي امام مشاريع السلم) وايضا (واحدى صحف الإمبريالية..قد نشرت عرض سفير عربي..يتصرف كالمومس في أحضان الجنرالات)، جيل مثل جناح مقاتل ومقاوم وثوري لواحد من أكثر التيارات السياسية في الحركة القومية العربية، صارع الإمبريالية ودولة اسرائيل الفاشية، وأراد بناء دولة تمتلك مساحة بقدر طموحها وتطلعاتها في التقسيم العالمي للنفوذ السياسي والهيمنة الاقتصادية. جيل انهزم أمام الجناح المنافس له في الحركة القومية العربية التي قبلت بحصتها والمكانة التي منحت لها وتحاول تحسينها عبر التحالفات السياسية والعسكرية والاقتصادية، الجناح الذي عقد الاتفاقات الابراهيمية، وكان يصارعه النواب وجيل بكامله الذي وصل الى السلطة عبر الانقلابات العسكرية التي اشرنا اليه بشراسة وتضحيات جسام.