خير الله خير الله يكتب:

اردوغان والبوابة الروسيّة... إلى سوريا

أنقرة

ليس لدى تركيا في عهد رجب طيب اردوغان ما تفعله غير السعي إلى تفادي الوضوح السياسي. تتفادى تركيا الوضوح السياسي، بما في ذلك ما يخصّ علاقتها بإسرائيل، في عالم معقّد يحتاج إلى الوضوح. يحتاج هذا العالم إلى الوضوح بدل التذبذب واللعب على الحبال، في كلّ المجالات.

يبدو أنّ اردوغان شعر فجأة بحاجة الرئيس فلاديمير بوتين إليه كي يخرج الأخير من حضن ايران. لبّى بعض المطلوب منه معتقدا أن ذلك يمثّل نوعا من الحذاقة في وقت ليس في وارد أوروبا، كلّ أوروبا، التعاطي مع روسيا ما دام بوتين في موقع الرئيس.

ساهم اردوغان في إخراج الرئيس الروسي من هذا الحضن الإيراني أم لم يساهم، ثمّة ألاعيب سياسيّة تجاوزها الزمن.

لا تليق هذه الألاعيب لا بدولة مثل روسيا ولا بدولة مثل تركيا، علما أنّ لا بدّ من التمييز بين شخصي اردوغان وبوتين. لم يغرق الرئيس التركي كلّيا بأيّ وحول بعد، باستثناء وحول الإخوان المسلمين وفكرهم المتخلّف الذي عشعش في رأسه. لكنّ هناك نصف غرق تركي في الوحول السوريّة. هل يستطيع رجل غارق في الوحول الأوكرانيّة مثل فلاديمير بوتين انتشال الرئيس التركي من الوحول السوريّة أم سيدفعه إلى الغرق فيها اكثر كي يصبح هذا الغرق مكتملا.

في مقابل نصف الغرق التركي في سوريا، ذهب الرئيس الروسي إلى أوكرانيا متسببا بكارثة عالميّة في مجال الطاقة والغذاء. ستترك الكارثة الناجمة عن سعي بوتين إلى تدمير أوكرانيا آثارها على العالم كلّه، خصوصا على العلاقات الروسيّة – الأوروبيّة. نجح بوتين في عزل روسيا عن أوروبا معتقدا أن إحتلال أوكرانيا نزهة. لم يدرك في أي لحظة أخطار المغامرة التي اقدم عليها وما الذي تعنيه في داخل كلّ بلد أوروبي. تذكّر كل مواطن أوروبي فجأة صعود هتلر في ثلاثينات القرن الماضي. تذكّر كلّ أوروبي معنى أي تهاون مع بوتين بعدما أدّى التهاون مع هتلر إلى الحرب العالميّة الثانيّة.

قبل أيّام، إلتقى الرئيس التركي الرئيس الروسي في منتجع سوتشي الروسي بعد ثلاثة أسابيع من القمّة الثلاثيّة التي انعقدت في طهران، وهي قمّة استهدفت الردّ على زيارة الرئيس جو بايدن لإسرائيل ثم للمملكة العربيّة السعوديّة. ليس معروفا، أقلّه إلى الآن، ما الفائدة التركيّة من الذهاب إلى طهران ومشاركة اردوغان في قمّة مع بوتين والرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي الذي يرمز إلى كلّ ما تمثله سياسة "الحرس الثوري" في المنطقة. يختزل هذه السياسة مشروع توسّعي لا افق سياسيا له... باستثناء عقد صفقة مع "الشيطان الأكبر" الأميركي أو "الشيطان الأصغر" الإسرائيلي!

في سوتشي، طلب بوتين من اردوغان فتح خط مباشر مع نظام بشّار الأسد بغية التعاون من اجل القضاء على "قوات سوريا الديموقراطيّة" (قسد) في الشمال السوري. يعرف الرئيس الروسي تماما أنّ الأكراد نقطة ضعف تركيّة وأنّ في استطاعته استغلال هذه النقطة من اجل إيجاد تقارب بين نظام بشّار الأسد وتركيا. إلى أين يمكن أن يؤدي هذا التقارب وما الفائدة منه في نهاية المطاف؟ لا شكّ في أن خطوة الرئيس الروسي خطوة تكتيكيّة ذكيّة. إنّه يضرب غير عصفور بحجر واحد. فهو يعيد، أوّلا، الإعتبار إلى النظام السوري وإلى الدور الروسي في سوريا. تقلّص هذا الدور الروسي إلى حد كبير بعدما انشغلت روسيا بحرب أوكرانيا وباتت ايران اللاعب الأوّل في سوريا. بات على بوتين الإستعانة برجب طيّب اردوغان لتعويم روسيا ودورها في سوريا!

حسنا، يظلّ الأكراد همّا تركيا أساسيا، لكن ما الفائدة من دور تركي في إعادة الإعتبار إلى نظام سوري لا يمكن ان تقوم له قيامة في يوم من الأيّام؟ هذا ما يفترض أن يفكّر فيه الرئيس التركي جدّيا قبل اقدامه على خطوة في اتجاه بشّار الأسد خدمة لفلاديمير بوتين الذي وجد نفسه في الحضن الإيراني.

يصعب استبعاد وقوع الرئيس التركي في الفخّ الروسي الذي ينصبه له بوتين. الرجل مغامر من الطراز الأوّل. يعتقد انّ العالم لا يعرف شيئا عن تركيا ومصاعبها ووضعها الاقتصادي. ما يعرفه العالم أنّ رجب طيّب اردوغان على استعداد دائم للعب كلّ الأوراق المطلوب منه ان يلعبها من اجل البقاء في السلطة. أراد فكّ الحصار عن غزّة في العام 2010. ارسل مواد غذائية على سفينة إلى القطاع. كانت النتيجة اضطراره إلى التراجع ثمّ العمل على إعادة مدّ الجسور مع إسرائيل. ليس ما يدعو إلى إعادة رواية قصة الفشل التركي في التعاطي مع فلسطين والفلسطينيين.

كانت سوريا المكان الوحيد الذي تستطيع فيه تركيا اظهار انّها دولة جدّية، خصوصا في مرحلة ما بعد اندلاع الثورة الشعبيّة على النظام الأقلّوي الذي حوّل السوريين إلى عبيد في آذار – مارس 2011. فوتت تركيا كلّ الفرص التي اتيحت لها لتكون اللاعب الأساسي في سوريا. تراجعت امام ايران التي لم يكن لديها من هم سوى انقاذ النظام وما لبثت ان تراجعت امام روسيا.

بعد سلسلة الأخطاء التي ارتكبها اردوغان في سوريا، بات عليه الآن العودة اليها من البوابة الروسيّة. هذه ليست عودة مشرفة وذلك على الرغم من وجود رغبة حقيقيّة في تصفية الحسابات مع اكراد سوريا ومع الكيان شبه المستقلّ الذي اقامته "قسد" في شمال البلد.

لا بدّ من العودة إلى الوضوح. لا شيء افضل من الوضوح. في سوريا، يدفع رجب طيب اردوغان ثمن غياب الوضوح. الواقع انّه يدفع ثمن الإعتقاد انّ تركيا دولة قادرة على لعب أدوار تفوق حجمها. لا يدري انّ هناك ثمنا لكلّ شيء، بما في ذلك ثمن للتعاون مع ايران وثمن للتعاون مع روسيا في منطقة لا تزال فيها اميركا قادرة، إلى اشعار آخر، على لعب دور في غاية الأهمّية على غير صعيد!