أمين اليافعي يكتب:
عملية "البيجر" والتخلف العربي: دروس من الفجوة التكنولوجية
لعبت الاتصالات دورًا مهمًا في تاريخ الصراعات السياسية، وعلى الدوام كانت كفاءة وجودة وسيلة الاتصال لا تقلان أهمية -في الحروب مثلًا- عن جودة السلاح، فالمعلومة الدقيقة التي يتم الحصول عليها في الوقت المناسب قد تُغيّر مسار المعركة كليًا. ونظرًا لهذه الأهمية لعبت مؤسسات الإنتاج العسكري الدور الأهم في ابتكار وتطوير وسائل وتقنيات الاتصالات المختلفة، ولعل أهمها الاتصالات اللاسلكية.
في السنوات الأخيرة تتطور التكنولوجيا بصورةٍ مُخيفة، فالتقنيات التكنولوجية دخلت بقوة على خط تطوير وصناعة التكنولوجيا وإدارتها، كالذكاء الاصطناعي والآلات ذاتية التعلُّم، بما يعني أن الحدود البشرية في ما يتعلق بالدقة والإنتاجية والحصول على مستوى ثابت من الكفاءة يجري تلافيها. كأفراد، نلمس آثار التطور التكنولوجي بشكل يوميّ حتى وكأن حياتنا منذ أول لحظة للاستيقاظ وإلى آخر رمق يومي في العين، بل وربما أثناء النوم، باتت تسبح في أفلاك وكواكب السُحب الرقمية. على مستوى الدول، ظهرت الإمكانيات المهولة للتقنيات التكنولوجية مثلًا من خلال تطبيق الصين لقواعد الحظر وإدارتها أثناء جائحة كوفيد – 19 (كورونا) في بلد يتجاوز عدد سكانه المليار.
بعد “عملية البيجر” التي جرى تنفيذها ضد شبكة واسعة من عناصر حزب الله في وقت واحد، تفاجأ كثيرون بأن الحزب مازال يستخدم مثل هذه الأجهزة القديمة كوسيلة للتواصل بين عناصره وشبكاته، وهي وسيلة لم تَعُد تُستخدم إلا في نطاق محدود كالمستشفيات والمطاعم.
أدرك حزب الله حجم التفوق الإسرائيلي الكبير تكنولوجيًا، والمدعوم بأحدث التقنيات الغربية، وظهرت هذه القدرات من خلال العمليات التي استهدفت إسماعيل هنية ومجموعة من علماء إيران المسؤولين عن تطوير البرنامج النووي. لكن ما لا يُدركه الحزب أن إسرائيل متطورة أيضًا كدولة، ولديها مؤسسات عالية الكفاءة، وعندما تخرج كل يوم للتهديد والوعيد فهي ستقوم فورًا بالتعامل معك على نحوٍ جادٍ وحاسم، ودراستك دراسة فاحصة من جميع الجوانب، وهناك آليات للمحاسبة العسيرة عند الإخفاق. والنتيجة الختامية بعد “عملية البيجر” النوعية وغير المسبوقة تضعنا أمام سيناريوهين: إما أنه قد تم اختراقك على أعلى المستويات أو تم العمل على طريقة عمل الخوارزميات في الفضاء الرقمي التي تقوم بالتنبؤ بكل ما ترغب أو تُفكر فيه، ثم تُقدِّم لك العروض، وفي لمح البصر. لكن إسرائيل تفوقت على الخوارزميات، وقامت بنفسها بتوصيل كل الطلبات، في حال صحَّت المعلومة التي تتحدث عن ضلوع إسرائيل في حشو مادة متفجرة في الأجهزة.
مؤسسات الإنتاج العسكري لعبت الدور الأهم في ابتكار وتطوير وسائل وتقنيات الاتصالات المختلفة، ولعل أهمها الاتصالات اللاسلكية
تُظهر التطورات الميدانية كل يوم حجم الخسائر المهولة على الجانبين الفلسطيني واللبناني، وفي ظل السياق الدولي الحالي يعني أن الاستمرار في هذه العمليات المجنونة يمنح الذريعة الكاملة لاستمرار تطبيق سياسة الدمار الشامل من قِبل المتطرفين اليمينيين. منذ البداية، كانت كل المؤشرات واضحة وشفافة بشأن الاختلال المهول في موازين القوى، كل الرهانات التقليدية والمُستجدة والحسابات التي تم الرهان عليها -كإحداث انقسام داخل النخبة السياسية في إسرائيل والضغط على حكومتها في ملف الأسرى أو موضوع عودة النازحين من المناطق الشمالية، أو الرهانات التقليدية التي تتحدث عن هروب جماعي كبير إلى الخارج عند انطلاق أول مواجهة- أثبتت سذاجة وبلاهة لا محدودتين!
بالنسبة إلى الإسرائيليين عَنَت عملية 7 أكتوبر تهديدا وجوديا مباشرا لكل واحد منهم، بغض النظر عن مواقفه واتجاهاته، فأدى ذلك إلى حشد الرأي العام خلف خيار التصعيد. ومن جانب آخر دفع السياق العالمي المليء بالأزمات والمشاكل المواطنين الإسرائيليين إلى التكيّف مع المخاطر الأمنية العالية. دوليًا، سَهّلت حملات الزعيق والتهديد الجماعية والفارغة إلى تَنَصُّل الكثير من الدول المؤثرة من أي التزامات تتعلق بحماية المدنيين تحت دعوى الدفاع عن النفس. كان رهانك الخاطئ تمامًا على جماعات المجتمع المدني ذات التأثير الهامشي لتغيير قواعد اللعبة في أروقة السياسة الدولية، وبينما كنتَ تنتظر ثورة في أميركا تنطلق من الجامعات، فإذا بك أمام مشهد غير مسبوق في الكونغرس الأميركي -أكبر مؤسسات صناعة القرار- عند استقبال بنيامين نتنياهو وطريقة التفاعل مع كل جملة قالها المطلوب من المحكمة الجنائية الدولية.
إذا كان كل قرار مواجهة يتحدد بالخسائر والمكاسب، فأقل ما يجب فعله الآن في ظل ما وصل إليه الوضع هو وقف فوري لكل هذه المغامرات المجنونة، وحل الميليشيات المسلحة بعدما اتضح بما لا يدع مجالا للشك أنها سلاح دمار شامل ضد مواطني بلدها، وإفساح المجال تمامًا لمؤسسات الدولة الوطنية للتعامل مع الأوضاع ووقف التصعيد وحماية المدنيين. الاستمرار في خطاب الندب والنواح، والرهان على الأوهام في ظل السُنن الثابتة والمستقرة في النظام الدولي، لن يؤديا في نهاية المطاف إلا إلى تبني طريقة تفكير وأسلوب الجماعات الإرهابية من الدرجة الأولى (الانتحار كخيار وحيد!) من جانب، ومن جانب آخر يبدو أنك لستَ معنيّا أو مهتما بأي مواجهة حقيقية مع الأعداء أو الأخطار المُحدقة، وكل جهودك ومساعيك تنحصر فقط في تصدير خطاب شعبوي مسنود بحركات كارتونية كارثية لترويض شعوب المنطقة على تقبل فكرة اختراقكم للدولة، وهيمنة تياراتكم المتخلفة على شعوبها، تحت يافطة القضية!
في الختام، هناك مثالان شديدا الدلالة، ويكشفان ما يحدث في المنطقة منذ عقود: الأول ما يرويه المفكر السوري صادق جلال العظم عند التحاقه بمركز الأبحاث التابع لمنظمة التحرير الفلسطينية في نهاية السبعينات عن صدمته من الافتقار الشديد إلى المعرفة بما يدور في إسرائيل حتى أسماء بعض المؤسسات السياسية البارزة، والكارثة أنه كان أشبه بالتابو. والثاني ما أورده نوبوأكي نوتوهارا في كتابه “العرب… وجهة نظر يابانية”، وهو من أمضى عقودًا في الدول العربية لدراسة آدابها، ردًا على سؤال دائم يُطرح عليه من قبل “النُخب العربية”: لماذا تتعاملون مع أميركا وهي من سوّت مدنكم بالأرض؟ وكان رده: اعترفنا بالهزيمة، وتقبلناها. وكان علينا أن نراجع أخطاءنا، ونُمارس نقدًا ذاتيّا، بكل صدق وشفافية وبلا مجاملة للأوهام والإغواءات الذاتوية، ونعرف دورنا بصورة صحيحة، ونفهم علاقتنا بالعالم. بعدئذ نختار الطريق الذي يُصحح الانحراف، ويمنع تكرار الأخطاء. أما ردّات الفعل المبنية على المشاعر وحدها فهي مسألة محدودة ونزقة، ولا تصنع مستقبلاً.