أمين اليافعي يكتب:

اليمن والحاجة إلى بنية سلطة متماسكة

اليمن بلد مُعقد للغاية، لقد تأسست متونه الاجتماعية على مجموعة واسعة ومختلفة للغاية من الظروف والشروط التاريخية والجغرافية، مثّلت القبيلة ببُناها المتباينة القوة الصلبة في اجتماع القهر المؤسس على الحروب والغزوات، وحواضر متناثرة ساعدها الموقع الجغرافي للبلد بالانفتاح الدائم على العالم الخارجي، والاحتكاك والتفاعل وفق صيغ متعددة بين التجارة والاحتلالات. في سياق هذه الرحلة الشائكة للتاريخ اليمني، تمخضت الخلاصة المكثّفة عن “بلدٍ ذي عُمْرٍ طويلٍ للجغرافيا وقصير للدولة”، وفقا لأحد الباحثين الأجانب، وإن كان يعني بالجغرافيا المجتمعات المحلية، فالجغرافيا عمرها طويل وأزلي في كل مكان.

في الشمال، وصل الإمام الهادي الرسي في القرن الثالث الهجري وأقام نظام الإمامة الديني وفقاً للمذهب الزيدي، وهو مذهبٌ يُصنّف ضمن المذاهب الشيعية، ولكنه يقبع في ذيل قائمتها وفقاً لدرجة التشدد ليتناسب مع بيئة قبلية تتنافر مع المتانة العقائدية. والمذهب في حقيقته عبارة عن كتالوغ سُلطوي ذي متن فقهي خفيف تم توليفه من مذاهب مختلفة، وتكمن قوته في إرسائه للشرط الأساسي الذي ينبغي أن يتوفر في الحاكم (الإمام)؛ أي أن يكون من نسل أحد البطنين (الحسن والحسين). وعلى الرغم من بساطة الشرط، إلا أنه كان حلاً ناجعاً لحسم الصراع التاريخي بين قبيلتي حاشد وبكيل على السلطة. كان الاتفاق الضمني غير المكتوب الذي ساد بين الطرفين: خضوع القبائل لحكم الأئمة، مقابل إطلاق يد القبائل في غزو المناطق الحضرية الزراعية في الوسط والغرب، وعمل المذهب الزيدي على التكفّل بتقديم المبررات الدينية لتشريع هذه الغزوات.

في المناطق الجنوبية، ساد المذهب الشافعي، وتشكّلت خارطته الاجتماعية من قوى متوازنة ظهرت على هيئة إمارات وسلطنات حافظت على علاقات متجاورة خلت في الغالب الأعم من التدخلات البينية والاعتداءات، لكنها سرعان ما كانت تبتكر صيغاً فوريةً لتوحيد صفوفها عند تعرضها لحروب الإمامة الدائمة. ظل المتن الحضري أكبر وأوسع من المتن القبلي/الريفي، وشكّلت المُدن الجنوبية التي تقع جميعها على البحار رئة مهمة لتكثيف وتمتين منسوب التحضر.

دون بناء نموذج قوة مقابل للحوثيين يحظى بالتأييد الشعبي، وينتصر لأهداف الدولة الوطنية، ويراعي تطلعات أبناء المحافظات الجنوبية، فإنهم سيظلون القوة الصلبة في قلب هذا المشروع

في العصر الحديث، وبعد قيام الثورات في كل من الشمال والجنوب، كان من الطبيعي أن تؤدي الشروط التاريخية والظروف الداخلية والخارجية إلى ظهور تجربتين مختلفتين للغاية. في الجنوب، تأسست دولة بسلطة مركزية صارمة ذات نهج اشتراكي، استطاعت أن تفرض مؤسساتها ومنظومتها الإدارية كسلطة شرعيةٍ وحيدةٍ تحتكر إدارة المجال العام وعلى مختلف الصُعد، في المدن والقرى والأرياف، وفي زمن قصير، منهيةً بذلك كل مظاهر وأشكال السلطة التقليدية ومؤسساتها.

على عكس ما حدث في الشمال، حيث أخفقت ثورة سبتمبر 1962 في اقتلاع جذور المشروع الإمامي، وتوصلت معه – بعد حروب دامت لسنوات – إلى اتفاق ضمني قضى بإزاحة الرأس مع الإبقاء على صيغة هجينة هيمنت فيها القوى القبلية التقليدية، وظهرت الجمهورية ومؤسسات الدولة الرسمية كديكور رقيق، وذات تأثير هامشي للغاية. لم يصمد مشروع الوحدة الاندماجية طويلاً نتيجة هذا التناقض الفج بين النموذجين، وسرعان مع انتهت الأمور بحربٍ، غَلَب فيها نموذج الشمال، وتمت بموجبه تصفية مؤسسات الدولة الجنوبية تماماً، وبمباركة أميركية تحت ذريعة تصفية الجيوب الشيوعية في العالم وتحت النشوة التي رافقت أحلام نموذج (نهاية التاريخ)، ودون أن يتم الانتباه إلى خطورة ذلك على مستقبل بلد شديد الهشاشة.

في نهاية 2014 أسقط الحوثيون، وهم في الأصل قبيلة هاشمية، مؤسسات الدولة الشكلية، وأزاحوا رداء جمهوريتها، بلمح البصر. ومع كل ذلك، تبدو الحالة اليمنية حالة غريبة ومفاجئة من وجهة نظر المنظورات المعاصرة، فالنموذج الخلدوني بصورته القارة – الداروينية العصبوية في قيام الدول وانهيارها – قد اختفى تماما، لتُختزل خيارات تغيير السلطة/النظام السياسي في الدول الحديثة في أربع وسائل: الوراثة الملكية، الانتخابات، الانقلاب داخل النظام الحاكم، ثورة شعبية عارمة. والسبب في الحالة اليمنية يعود إلى أن نظام الرئيس الراحل علي عبدالله صالح في سنواته الأخيرة أراد أن يُحجِّم من نفوذ القوى القبلية الموجودة في السلطة لصالح تركيزها في يده. ولصعوبة الأمر، لجأ – كخطوة أولى – إلى فكرة إحداث فجوة بين هذه القوى وقاعدتها القبلية عن طريق السماح لهذه القوى بالإثراء الفاحش، مع بقاء أفراد القبائل في وضعٍ اقتصاديٍّ وتعليميٍّ مزرٍ، لكسر أهم جدار في سياج العصبية القبلية؛ أي المساواة/التكافؤ. استغل الحوثي هذه الثغرة القاتلة، كما استغل محركات التنافس التاريخي بين قبيلتي حاشد وبكيل النافذتين، مع تقديم خطاب تقليدي استطاع من خلاله إعادة تفعيل رهانات الذهنية القبلية وإطلاق مخزون هواجسها وامتعاضاتها المكبوتة تجاه الحياة العامة، في مقابل خطاب متهافت لنخب وأحزاب سياسية فاسدة ومتصارعة. كسب الحوثي معركته في هذا الصدد، فأعاد هندسة المجال القبلي، ليُسقِط الدولة، وليبتلع مؤسساتها، وليُعيد إنتاج نموذج غزوات الإمامة التاريخي.

منذ 2011 وبعد اهتزاز النظام، ألقى المجتمع الدولي، وعلى رأسه الولايات المتحدة، كل بيضه من الرهانات في سلة الأحزاب السياسية من أجل معركة استعادة كيان الدولة من جماعة الحوثي، وكان آخرها إشهار تكتل لمجموعة من الأحزاب في عدن تحت هذا الهدف. والحقيقة أن هذه الرهانات تبدو عبثية للغاية، فهي لا تتناسب مع الواقع اليمني على الإطلاق، فضلا عن أن هذه الأحزاب التي كان لها دور مؤثر في الماضي بسبب وجود شخصيات قبلية نافذة – وليس بكون الحياة المدنية جيدة في اليمن – فقدت خلال السنوات الأخيرة كل تأثيرها بعدما سحب الحوثي بساط النفوذ القبلي من تحت أقدامها. والصيغة التي فرضها الحوثي بعد 2015 تتمثل في أن قوة العنف أو قوة الإكراه هي الوسيلة الوحيدة التي يُعيد بها تشكيل معالم هذا البلد وتضاريسه. وفي ظل الوضع القائم، تبدو من السذاجة، بل من الخطورة، استمرارية الرهان على نخب سياسية فقدت صلاحيتها وجدارتها في قيادة المعركة مع الميليشيات الحوثية، ودون بناء نموذج قوة مقابل للحوثيين يحظى بالتأييد الشعبي، وينتصر لأهداف الدولة الوطنية، ويراعي تطلعات أبناء المحافظات الجنوبية، فإنهم سيظلون القوة الصلبة في قلب هذا المشروع، بناء على معطيات تاريخية ومعاصرة.