أمين اليافعي يكتب:

ازدواجية المعايير وسقوط العدالة في لعبة المصالح الدولية

لم يكن مفاجئا أن تُصدر المحكمة الجنائية الدولية مذكرات اعتقال بحق رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، بالإضافة إلى وزير دفاعه السابق يوآف غالانت والقائد العام لكتائب القسام محمد الضيف، فبحكم اختصاصها القضائي تقوم بمهمة “محاكمة الأفراد على الجرائم الدولية المتمثلة في الإبادة الجماعية والجرائم ضد الإنسانية وجرائم الحرب والعدوان.” ما كان مفاجئا، أو لنقل يسترعي التأمل فيه، هو ردود الأفعال شديدة التباين التي صدرت عن دول العالم تجاه هذه المذكرات.

هذه المواقف شديدة التباين تُعيد تذكيرنا بالمواقف المتباينة التي عبّرت عن نفسها مباشرة بعد صدور مذكرات اعتقال/توقيف دولية سابقة بحق رؤساء دول ما زالوا يمارسون مهامهم. المثال البارز والدّال في هذا السياق هو مذكرة التوقيف التي صدرت بحق الرئيس الروسي فلاديمير بوتين عام 2022، تتهمه بالمسؤولية عن ارتكاب جرائم حرب في أوكرانيا. فرد بوتين التهمة باتهام المحكمة “بتحيّزها الشديد ورضوخها لتأثير القوى الغربية المُستهدفة لروسيا.” ومن المفارقات المُثيرة على طريقة التفاعل مع القرارات الدولية التي تكتنفها في العادة الكثير من الحسابات السياسية والانحيازات اللامبررة، هي أن نفس الدول التي أيّدت بقوة قرار المحكمة بحق بوتين، وأبدت استعدادها لتنفيذه، كان لها موقف معارض أو متلكئ/مبهم من القرارات التي صدرت ضد نتنياهو وغالانت، والعكس صحيح تماما. مما حدا بمسؤول العلاقات الخارجية في الاتحاد الأوروبي جوزيب بوريل إلى مطالبة دول الاتحاد التي شهدت مواقفها اضطرابا شديدا بعد صدور مذكرة التوقيف بأن تكون لها مواقف متسقة تجاه قرارات المحكمة الجنائية تكون مبنية على الالتزام بالقانون الدولي.

سبق للمحكمة الدولية إصدار مذكرتي توقيف/اعتقال ضد الرئيس السوداني عمر البشير بتهمة ارتكاب جرائم حرب وجرائم إبادة جماعية في دارفور. في عام 2010، وعند زيارته لدولة تشاد، وهي من بين الدول التي وقّعت على نظام روما الأساسي وبحكم هذه الاتفاقية هي مُلزمة بتنفيذ قرارات المحكمة، تجاهلت دولة تشاد القرار تماما، وأجرت للبشير مراسم استقبال رسمية. فقامت المحكمة بتقديم شكوى إلى مجلس الأمن ضد دولة تشاد، مما دفع بالاتحاد الأفريقي، وكردّة فعل على سلسلة من المواقف والإجراءات المتبادلة بين المحكمة والدول الأفريقية تجاه قضية البشير، إلى الاجتماع وإعلان دعمه لموقف دولة تشاد بـ53 صوتا من أصل 54، واتهامه للمحكمة بأن عملها تحوّل إلى أشبه بـ"مطاردة عنصريّة" ضد القارة السمراء.

على أرض الواقع ما زالت قوانين القوي وحساباته ومصالحه هي وحدها من تجد طريقا سالكا للوصول إلى ما تُريد

ولعل المواقف الأكثر إثارة في ما يتعلق بقرارات المحكمة بحق الرئيس السوداني السابق والقرارات الحالية ضد رئيس الوزراء الإسرائيلي هو موقف دولة جنوب أفريقيا. فجنوب أفريقيا شاطرت دول القارة موقفها شديد المعارضة لقرارات المحكمة ضد عمر البشير، وسمحت للأخير بحضور قمة الاتحاد الأفريقي عام 2015. وعندما تصاعد الجدل داخل جنوب أفريقيا حول هذه الزيارة، وأصدرت محكمة محلية مذكرة باعتقاله، تجاهلت الحكومة هذا القرار أثناء انعقاد القمة، ثم تحايلت بعمل ترتيبات خاصة استطاع البشير من خلالها العودة إلى السودان دون أن يتعرض لأي تبعات قد تنتج عن الإجراءات القضائية. في أحداث غزة، سيكون لدولة جنوب أفريقيا الدور الأبرز في الدفع بالقضية داخل أروقة المحكمة الدولية، ومتابعة مسار الإجراءات القضائية وصولا إلى صدور مذكرات التوقيف. ودولة جنوب أفريقيا هي إحدى أبرز الدول المؤسسة لمنظمة “بريكس”، بجانب روسيا ودول أخرى، المنظمة التي رفعت راية ضرورة إعادة تشكيل النظام الدولي ليصبح “متعدد الأقطاب، أكثر إنصافا، وعدلا وتوازنا”، وكما جاء في “إعلان كازان” الصادر عن القمة السادسة عشرة (الأخيرة) لدول البريكس.

وُلِدت المحكمة الجنائية الدولية من رَحِم نظام روما الأساسي، والهدف الرئيسي من قيامها هو “حفظ السلم والأمن الدوليين من خلال إقرار مبدأ عدم الإفلات من العقاب.” ورآها البعض – وقت تأسيسها – خطوة كبيرة نحو تحقيق العدالة، وابتكارا مهما في منظومة/مصفوفة المؤسسات الساهرة على تطبيق قواعد ومبادئ القانون الدولي وحقوق الإنسان في العالم. وعلى الرغم من الصعوبات والمعوقات الإجرائية العديدة في الإجراءات القضائية، واتخاذ القرارات وتفعيلها/تنفيذها، بحكم القواعد التي تُنظم اختصاصها وطريقة عملها وفق نظام روما، إلا أن الإشكالية الأكبر التي وقفت دوما في طريقها هي عملها في سياق دوليٍّ شديد التباين والتجاذب. تأسست المحكمة ضمن سلسلة متلاحقة من المؤسسات الدولية التي شقت طريقها على سكك نظرية دولية سادت بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية بشَّرت بإمكانية بناء نظام دولي قائم على فكرة الأمن الجماعي المُسوّر بحكم القانون عوضا عن حالة التوازن الخطيرة بين القوى العظمى وذلك لمنع نشوب أي حرب عالمية جديدة.

ظل هذا النظام مجرد فكرة مثالية، تبدو بعيدة المنال، فعلى أرض الواقع ما زالت قوانين القوي وحساباته ومصالحه هي وحدها من تجد طريقا سالكا للوصول إلى ما تُريد. وهذا ما جعل المؤسسات الدولية التي تم تصميمها لتطبيق سياسات قائمة على قوانين دولية عادلة ومنصفة وفعّالة في وضعيّة هشة واعتباطيّة. فالسياق الدولي تحوّل أمام مرأى ومسمع هذه المؤسسات إلى غابة ما زالت تحكمه المقولة/القاعدة الواقعية الشهيرة “إذا احتكمت دولتان صغيرتان إلى هيئة الأمم المتحدة، ضاعت الدولتان الصغيرتان معا. أما إذا احتكمت دولتان كبيرتان إلى هيئة الأمم المتحدة ضاعت الأمم المتحدة نفسها”.