أمين اليافعي يكتب:

إصلاح المجلس الرئاسي: الحل لإنهاء الفوضى والعبث في اليمن

جاء تشكيل مجلس القيادة الرئاسي في اليمن كصيغة بسيطة وساذجة لواقع سياسي، ميداني، اقتصادي، وقانوني هو في منتهى التعقيد. والفكرة التي استدعت أو حفّزت على تشكيل مثل هذا المجلس تمثّلت في محاولة عسيرة لإيجاد إطار جماعي/تشاركي للسلطة الشرعية، والسعي من خلال ذلك إلى تحقيق عدد من الأهداف: حشد جهود القوى السياسية والعسكرية المعادية للحوثي في مجرى مؤسسي جامع، واستعادة روح المسؤولية لدى الجهاز الحكومي وتفعيل دوره، ومعالجة الأوضاع الاقتصادية والمعيشية، واجتراح مسار للقضايا الكبيرة – كالقضية الجنوبية – يضمن الوصول إلى حلٍ عادلٍ وآمنٍ في أي عملية تسوية سياسية مستقبلية.

الهدف الرئيسي الذي دفع بهذا المجلس إلى الوجود (إيجاد قيادة جماعية موحدة) كان وجيهًا وضروريًا في نفس الوقت بعد سلسلة من الإخفاقات الشاملة، والانسداد الكلي، واختطاف القرار الشرعي للسلطة السياسية من قِبل حزب الإصلاح الإخواني. ونظرًا لطبقة متعددة ومتراكبة من التعقيدات في المشهد اليمني، كان يجب التفكير بعناية بالغة في هندسة صيغة مُركبة تستجيب للحساسية العالية التي يُوَلِدها ائتلاف المشاريع شديدة التعارض في سبيل خلق “كيان شرعي” تشاركي لردم الهوة بين الواقع والمؤسسة الشرعية، ولتوحيد آلية صناعة السياسات العامة والمعالجات المختلفة لإدارة مرحلة انتقالية محفوفة بكل أنواع التحديات والتعقيدات، وفي ظل جهاز مؤسسي هش، فضلًا عن تاريخ طويل من عدم الثقة بين الأطراف الرئيسية.

لأجل كل هذه الاعتبارات الواقعية والحساسيات المتجذرة والتشظي السياسي والاجتماعي، وحتى لا يضيع دم مسؤولية الحكومة عن معالجة أوضاع معيشية هي في منتهى التردي بين عدد كبير من القبائل المشاركة والمسؤولين المغتربين، وفي نفس الوقت خلق وعاء مناسب لممارسة السلطة الجماعية ودون حدوث تناقضات معطلة، كان يُفترض تصميم هيكل النظام السياسي من عدّة مستويات، ودعمه بإطار قانوني مُبتكر وعملي يسمح بسلاسة عملية اتخاذ القرارات ومرونتها وتنفيذها، وإجراء الإصلاحات الهيكلية المطلوبة في بنية مؤسسات الدولة، وإنشاء هيئات رقابية فاعلة. والإطار القانوني هو عملية في منتهى التعقيد والحساسية، في ظل واقع بلد تأسست شرعيته السياسية على سلسلة متتابعة من مواءمات وتلفيقات مخرجات ما بعد محطات الحروب والصراعات العاصفة، وقد أريد في كل محطة جَبُّ ما قبلها. وبعد أن تلاشت وامّحت كل الأصول المُؤسِّسة، لم يُجَبَّ – في نهاية المطاف – سوى المضمون الوطني وكيان الدولة الجامع.

استمرار المجلس الرئاسي بشكله الحالي لا يعني سوى استمرار المزيد من العبث والتردي، وعلى كافة المستويات

ومن وجهة نظري، فإن أفضل صيغة واقعية لاجتراح حيز مؤسسي لتجميع أوردة السلطة السياسية وقنواتها، وفي ظل التشظي الحاصل، تكمن في تصميم بناءات مؤسسية تأخذ الشكل الهرمي: في أعلى الهرم يكون هناك مجلس رئاسي مُصغر (رئيس ونائبان شمالي وجنوبي). يحتفظ الرئيس بالصورة الاعتبارية والقانونية للرئاسة، بينما يُوكَل إلى كل نائب إدارة الأمور في المناطق المنوطة بكل نائب، والإشراف على أداء الحكومة والسلطات المحلية بعد منحهما الصلاحيات المطلوبة التي تخولهما تحمّل كامل المسؤولية. ويتم تقسيم الحكومة إلى كتلتين: شمالية وجنوبية وفق صيغة تسمح بانسيابية العمل المؤسسي بصورة متوازية دون أن تكون هنالك تقاطعات أو ازدواجية معطلة في الصلاحيات والقرارات وآليات تنفيذها. يقوم كل نائب بالتواصل مع القوى والنُخب المختلفة في كل نطاق جغرافي وإيجاد صيغة تمثيلية جامعة لاختيار أعضاء الحكومة من الكفاءات المشهود لها بالنزاهة، وترتيب وضع السلطات المحلية، وتحقيق الانسجام والتكامل بين السلطات المحلية والدوائر الحكومية لمعالجة كل أوجه الفساد والاختلالات. ويتم اختيار النائبين بناء على عدّة عناصر: قوة فاعلة على الأرض تعكس الشرعية الواقعية وستُسَهِل بالتأكيد من عملية تنفيذ القرارات، والحاضنة الجماهيرية، والإنجازات التي تحققت في الملفات التي أُوكِلت له حصريًا، وليس في تلك الملفات التي شابتها ازدواجية وتداخلات فجّة. ويكون كل نائب مسؤولًا أمام قاعدته الجماهيرية، ولن يجد مفراً أو ذرائع للتهرب من المسؤولية.

يُشدد المجتمع الدولي في خطاباته على ضرورة وحدة مجلس القيادة الرئاسي، لكن الدول الفاعلة لم تبذل أيّ جهد حقيقي لمتابعة الطريقة التي يُدار بها المجلس وتقييمها والتي أدت إلى تعطيل عمله وإفراغه من مضمونه. فبعد تشكيل المجلس الرئاسي، قام المجلس الانتقالي بإعادة هيكلة لاستيعاب القوى السياسية والاجتماعية والعسكرية في المحافظات الجنوبية في إطار جامع، كما ما زال يجري حوارات وتواصلات مستمرة مع بعض المكونات الأخرى، وهي خطوات تتناغم مع طبيعة دوره الجديد، وتَصُبّ في مضمون الأهداف العليا التي أُنشئ لأجلها المجلس الرئاسي في ظل الظروف والشروط الواقعية. كان يُمكن البناء على هذه الخطوة، لكن ما تم إلى الآن يأتي على العكس تمامًا، فقد تم احتكار قرارات المجلس الرئاسي وصلاحياته بيد رشاد العليمي، والأخير بدوره حوّل المجلس إلى حقيبة متنقلة يستخدمها لتفريخ مكونات لا تحظى بأي شعبية، أي ضرب الهدف الرئيسي للمجلس الرئاسي في الصميم (هنالك من اقترح إصلاح المجلس الرئاسي عن طريق منح السلطات المحلية الحق في انتخاب الأعضاء. من وجهة نظري، هذا المقترح وفي ظل التشظي والانقسام سيُدخِل اليمن في متاهات جديدة، وسيَصُبُّ في صالح حالة التفريخ والتقسيم القائمة على قدمٍ وساق، ويستفيد منها حزب الإصلاح لتمتعه ببنية أيديولوجية متماسكة، ولقدرته الهائلة على التلون والمناورة. وفي النهاية لن يبني أيّ هيكل لسلطة جماعية متماسكة ومُهابة في مواجهة الطبيعة العنيفة والصلفة للحوثي).

استمرار المجلس الرئاسي بشكله الحالي لا يعني سوى استمرار المزيد من العبث والتردي، وعلى كافة المستويات، ولعل الإشارة هنا إلى مثال واحد يدل على سريالية المشهد الكارثي. في شهري أبريل ومايو من العام الحالي، أصدر البنك المركزي في عدن قرارات عقابية تهدف إلى تحجيم القدرات المالية لجماعة الحوثي، والحد من تبعات سياساتها المصرفية الأحادية، والضغط عليها في ملفات أخرى. لم تَمُر سوى فترة قصيرة جدًا حتى اضطر البنك المركزي إلى التراجع عن القرارات بضغط من رئيس المجلس الرئاسي وحده، ودون أن يكون لذلك أيّ مقابل كإعادة تصدير النفط.