د. قاسم المحبشي يكتب:

تأملات في العلاقة بين العقل والمجتمع

في إطار المشروع الفكري الفلسفي، يأتي اهتمامي بجدلية العلاقة بين الفلسفة والحضارة، المقدم للهيئة الليبية للبحث العلمي بمناسبة اليوم الوطني الليبي للفلسفة.

ربما تكون ليبيا الأطلسية هي الدولة العربية الوحيدة التي كرست يوماً وطنياً للاحتفاء بأمّ العلوم وأميرة المعرفة؛ الفلسفة، وهي بذلك تستحق التقدير والاحترام.

وعلى مدى الأعوام المنصرمة من حياتي وخبرتي المتواضعة في دراسة الفلسفة وتدريسها، تبين لي بما لا يدع مجالاً للشك أنّ الفلسفة هي روح الحضارة، وعلاقتهما أشبه بعلاقة الجسد بالعقل؛ فالعقل السليم بالجسم السليم، والحضارة المتعافية والمستقرة تنتج فلسفة ناضجة وجديرة بالقيمة والأهمية. فعلاقة الحضارة والفلسفة هي علاقة تبادلية التأثير والتأثر، فكما أنّ الفلسفة لا تنبت ولا تزدهر إلّا إذا تهيأت لها شروط حضارية وعوامل محددة، فكذلك هي الحضارة لا يمكن لها أن تنمو وتتطور وتزدهر بدون منظومة فلسفية متكاملة في الوجود والقيم والمعرفة.

وبهذا المعنى شهدت الحضارة اليونانية لحظة ازدهار الفلسفة الباكر، وأثمرت المؤسسات المفاهيم التي ما زالت تعتمدها الحضارة البشرية حتى اليوم ومنها (الديمقراطية والسياسة والمدينة والجمهورية والعدالة والحرية والمنطق والمقولات والفضيلة والحكمة والتاريخ والتحضر... إلخ)، وبالمثل لم تزدهر الفلسفة العربية الإسلامية إلّا في أوج حضارتها العباسية، وذلك ما بين القرن التاسع الميلادي حتى القرن الثالث عشر الميلادي. إذ جاءت تلبية لتحدٍّ حضاري ثقافي عالمي، في خضم الاحتكاك والتمازج بين الثقافات والحضارات المتجاورة (الرومانية والفارسية والهندية والسريانية)، فالفلسفة بوصفها حواراً بين الإنسان والواقع، وبين الشعوب والثقافات والحضارات، كانت، وما زالت، أهم سبل وأدوات التفاعل والتواصل الثقافي الحضاري بين البشر.

وقد شكلت الفلسفة اليونانية محطة تجمع انطلاق الفكر الفلسفي العقلاني منذ القرن السادس قبل الميلاد، بالاستناد إلى الإرهاصات الفكرية الفلسفية التي تضمنها الفكر الشرقي القديم في مصر وبلاد الرافدين، التي أثرت بالفلسفة اليونانية ومدتها بالأفكار الميتافيزيقية، وملاحم أسطورية حافزة للتفكير والتأمل. أمّا الحضارة الحديثة والمعاصرة، فهي بنت الفلسفة من أخمص قدميها حتى رأسها، بمفاهيمها ومؤسساتها، أو كما وصف عالم الاجتماع الألماني ماكس فيبر مشروع النهضة الأوروبية، وغايتها في نزع السحر عن التاريخ، وتأكيد قدرة الإنسان على صناعته بعقله وحواسه ونشاطه.

وربما كانت المرحلة الثالثة هي مرحلة نزع السحر عن الإنسان، وتلك هي الثورة الأخيرة التي جاءت حصيلة تضافر علم الفلك وعلم الأحياء وعلم النفس والفلسفة. إذ أنّ فكرة داروين عن صيرورة الحياة وارتقائها، وصراع الأنواع، قد وجدت هوى في نفس نيتشه، عندما انطلق من اعتبار الكائن الانساني أرقى ما وصلت إليه الحياة في صيرورتها، ومن ثم فالحياة أو الإنسان "هو إرادة اقتدار" في تجاوز اللحظة الراهنة باتجاه الأعلى المستقبل، وهذا الأخير هو "عود أبدي للذات".

لقد أراد نيتشه أن يجيب عن السؤال: ما هو الإنسان؟ ما هي كينونة الكائن؟ وكان جوابه: إنّه "إرادة اقتدار" وعود أبدي لذات النفس"...، وتتعلق فكرة إرادة الاقتدار في قدرة الموجود على تجاوز وجوده، في حين تتعلق فكرة العود الأبدي بالكائن في كلية القبول الأعلى للحياة وللكائن، فالفكرة تلك لا يمكن أن تفكر إلا إذا توصل الإنسان إلى تخطي آخر الرجال، إذا توصل إلى الإنسان الأعلى.

إذا كان ماركس قد سار بفكرة هيجل الجدلية الكلية إلى نهاية الشوط، ملحاً على الإنسان الاجتماعي الكلي ـ الإنسان؛ كمجموع علاقات اجتماعية- وتلك العلاقة والتفاعلات هي التي تصنع التاريخ، فإنّ صرخة نيتشه قد انطلقت ممّا انتهى إليه فيورباخ الذي كان أول من بسط الله كجوهر للإنسان، استخلص هذا الأخير من دراسته الأنثروبولوجية للدين التأكيد على أنّ الله لم يكن في حقيقة الأمر إلّا المضمون الجوهري للذات الإنسانية المستلبة - الله هنا بالمعنى المسيحي طبعاً- ويرى البنيوي ميشيل فوكو أنّ فيورباخ، وليس نيتشه، هو الذي أمات الله في حين لم يكن هذا الأخير ـ نيتشه ـ إلّا نذيراً وناقلاً لهذا النبأ المشؤوم لأهل عصره وزمانه، عندما قال: "لقد تحسست قلبي وقلوب أهل زماني، فوجدت أنّ الله قد مات"، يقصد إله المسيحيين طبعاً.

نزع السحر عن العالم

مع نيتشه غدا الإنسان وحده في هذا العالم، بعد التحرر من الإله ومن المعبودات الأخلاقية. إنّ مسئولية هذا العالم، خيره وشره، تقع الآن على عاتق الإنسان المهجور وحده، دون أيّ بادرة أمل في عون، لا من السماء ولا من الأرض. ويردّ نيتشه عن هذا التساؤل المفزع: ولكن هل يستطيع الإنسان أن يعيش دون أمل؟ دون أن يؤمن بشيء؟ تلك هي المعضلة؛ معضلة نزع السحر عن العالم، وترك الإنسان مغترباً في عالم خالٍ من الأمل والمعنى والعزاء والسلوى. إذ بات الإنسان بعد نزع الغيب يعيش عالماً يفتقد إلى السحر، ويتراجع فيه الشغف، ويكاد يخلو من المعنى بحسب صلاح سالم، في كتاب تأملات في الوضع البشري. إذ أنّ مسيرة التقدم البشري تكاد تتوازى مع صيرورة نزع السحر عن العالم، ونفي العنصر الغيبي في تفسير الطبيعة والمجتمع والتاريخ.

لقد جرى التخلص أوّلاً من سحر الخرافة الذي أفضى إلى أشكال من الوصاية كانت عبئاً على الوضع البشري. لا ريب أنّ التقدم التكنولوجي أفضى إلى زيادة رفاه الإنسان، ولكنّه زاد في تعاسته وضعف شغفه بالحياة ومباهجها. كتب صلاح سالم: "يدّعي علم "البيوتكنولوجي" أنّه يعمل لأجل الإنسان، لإطالة عمره وتحسين صحته أو لزيادة جماله وذكائه، فيما يفضي جوهرياً حال اكتمال الفتوحات والتوجهات التي يجري الحديث عنها الآن، إلى اغتيال جوهره المتفرد، سر نوعه الضعيف بيولوجياً، لكنّ القادر على التسامي روحياً، المدرك لمحدودية عمره وحقيقة موته، ولكنّ المتعايش معهما، حتى إنّه يبدع على حافتهما جلّ فلسفاته، محاولاً تفسير مغزى وجوده ومعنى غيابه.

إنّه السر الذي يمنحه القدرة على أن يفكر ويتألم، يبحث عن إلهه فيؤمن به طلباً لعنايته أو يلحد فيه متحدياً مشيئته. السر الذي يتيح له أن يخطئ ويندم، أن يحلم ويسعى لتحقيق مآربه، أن ينجح ويخفق، ففي تلك النزعات المتفردة للروح يكمن سر تساميه على المخلوقات الأخرى، وفي غيابها يفقد جلّ ملكاته الخلاقة كالعقل الحر والروح المتمردة، وليستحيل صاحب الضمير المتوثب إلى كائن مسطح كالجماد، أو كائن غريزي كالحيوان جسده الظاهر أهم شيء لديه، ولا معنى خلفه، ولا شيء يلبي حاجته إلى مصدر للطاقة النفسية، والشعور بالانتماء المشترك والتضامن الفعال مع المجتمع"، فكيف تكون حياة الإنسان بدون حلم ولا أمل ولا تطلع ولا خيال في عالم الأدواتية والاستهلاك كما وصفه هربرت ماركوزه عالم البعد الواحد؟ وبهذا المعنى يمكن أن نفهم قلق شعوب الحضارة الحديثة والمعاصرة في البحث عن المعنى، قلق المعنى هو شعورٌ وجودي يتولد لدى الإنسان عندما يواجه أسئلةً كبرى حول ماهية وجوده والغرض منه. يظهر هذا القلق بوضوح في المجتمعات التي تتسم بالفردية المفرطة، أو التي تفقد فيها القيم التقليدية مكانتها المركزية، مثل المجتمعات الحديثة التي تشهد تغيرات اجتماعية وثقافية عميقة.

يرتبط هذا القلق، كما أوضح الفيلسوف النمساوي فيكتور فرانكل، بفقدان "الإرادة للمعنى". فعندما لا يجد الإنسان سبباً يقوده لمواصلة حياته أو معنى لما يفعله، يتحول الوجود إلى عبء نفسي كبير.

الفلسفة كوسيلة للعلاج

لطالما كانت الفلسفة مجالاً للتأمل العميق حول القضايا الوجودية الكبرى. ويمكن أن تكون أداة علاجية فعالة لقلق المعنى من خلال ما يلي:

1. البحث عن المعنى الفردي

يرى فيكتور فرانكل، مؤسس العلاج بالمعنى (Logotherapy)، أنّ لكل إنسان معنى خاصاً عليه اكتشافه بنفسه. ويؤكد أنّ المعنى يمكن أن يوجد حتى في أحلك الظروف. بالنسبة إلى فرانكل، فإنّ الإنسان لا يحتاج إلى إجابة كونية مطلقة، بل إلى معنى شخصي يتلاءم مع تجاربه وقيمه.

2. التساؤل الفلسفي بوصفه علاجاً

التساؤل الفلسفي يساعد الفرد على التفكير بعمق حول الحياة والوجود، ممّا يمنحه شعوراً بالسيطرة على أفكاره ومخاوفه. الفلاسفة مثل سقراط ونيتشه دعوا إلى استجواب الذات واختبار القيم والمعتقدات الراسخة، وهي عملية تُعيد للفرد علاقته بالحياة ومعناها.

3. القيم العليا والأخلاق

اقترح الفيلسوف الألماني إيمانويل كانط أنّ معنى الحياة يكمن في تحقيق الواجب الأخلاقي والسعي نحو الخير. ويمكن أن يوفر الالتزام بمبادئ أخلاقية متينة شعوراً بالهدف والانتماء.

4. التأمل في الموت كحافز للمعنى

تناول الفلاسفة مثل هايدغر فكرة الموت كشرط أساسي لفهم الحياة. التفكير في الموت لا يعني الهروب منه، بل استيعابه كحافز للعيش بوعي أكبر وتحقيق الذات.

خطوات فلسفية للتعامل مع قلق المعنى

• التأمل الذاتي: طرح أسئلة جوهرية حول الغايات الشخصية والقيم التي يعتنقها الفرد.

• تقبل الغموض: الاعتراف بأنّ الحياة لا تقدم إجابات جاهزة، وأنّ الغموض جزء من التجربة الإنسانية.

• الارتباط بالمجتمع: إيجاد المعنى من خلال العلاقات الإنسانية والمساهمة في تحسين حياة الآخرين.

• العيش في الحاضر: الفلسفة الرواقية، على سبيل المثال، تدعو إلى التركيز على اللحظة الراهنة بدلاً من القلق بشأن الماضي أو المستقبل.

هل فهمتم الآن قصدي بأنّ الفلسفة ليست مجرد ترف فكري، بل هي وسيلة عملية تساعد الإنسان على مواجهة قلق المعنى عبر توفير أدوات للتأمل، والبحث، والعيش بوعي أكبر؟ ومن خلال الاستفادة من رؤى الفلاسفة الكبار، يمكن لكل فرد أن يسعى لفهم أعمق لوجوده وتحقيق غايته في هذا العالم المضطرب.