سالم الكتبي يكتب:

رؤية سعودية واضحة في أزمة غزة

في واحدة من أخطر مراحل التوتر التي تمر بها منطقة الشرق الأوسط منذ عقود طويلة مضت، يبرز الموقف السعودي باعتباره عنصرا مفتاحيا في ما يدور بالمنطقة، ونقصد هنا تحديدا مصير قطاع غزة الفلسطيني، حيث يتزايد الجدل حول مرحلة ما بعد توقف الحرب، ولاسيما بعد طرح الرئيس الأميركي دونالد ترامب فكرة تهجير سكان القطاع، حيث يبدو الموقف السعودي في غاية الأهمية ليس فقط لمكانة المملكة العربية السعودية وثقلها الجيوإستراتيجي على الصعيدين العربي والإسلامي، ولكن لأن هناك ترقبا إقليميا ودوليا لموقف الرياض بشأن تطبيع العلاقات مع إسرائيل في ظل التطورات المتسارعة التي تشهدها القضية الفلسطينية.

بلا شك أنه رغم كل التكهنات والتوقعات التي تتداولها وسائل الإعلام الغربية بشأن موقف المملكة العربية السعودية من مسألة التطبيع، خصوصا بعد عودة الرئيس ترامب إلى البيت الأبيض ورهانه الكبير على استئناف مسيرة تطبيع العلاقات بين دولة إسرائيل وجيرانها العرب، إلا أن موقف الرياض لم تطرأ عليه أيّ تغيرات من أيّ نوع، فالدبلوماسية السعودية في هذا الملف واضحة ولا تناور، بل تقوم على ثوابت وأسس واضحة للغاية، ناهيك عن أن الدبلوماسية السعودية تتسم بقدر عال من الهدوء والكياسة، وهذا الأمر يضمن لها قدرا عاليا من الاحترام والتقدير لدى الأوساط الإقليمية والدولية.

السعودية لن تدعم أيّ توجه لتهجير الفلسطينيين ولن تشارك في أيّ طرح من هذا القبيل، وبالتالي فإن انحسار فرص تسوية الصراع الفلسطيني ـ الإسرائيلي سياسيا ينسحب بالضرورة على فرص تطبيع العلاقات بين المملكة وإسرائيل

هناك قناعة أميركية ـ إسرائيلية راسخة بأن انخراط الرياض في مسيرة السلام يمثل تحولا كبيرا في الخارطة الجيوسياسية الشرق أوسطية، وهو كذلك بالفعل، بحكم الثقل النوعي للمملكة العربية السعودية على الصعد الخليجية والعربية والإسلامية، ولكن الرياض تدرس خطواتها في هذا الملف بكل كياسة ودقة، ولا تريد فقدان ما راكمته طيلة السنوات الماضية من مكاسب إستراتيجية نتيجة لسياسات ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، الذي نجح باقتدار في إعادة تموضع المملكة على خارطة العلاقات الدولية في غضون سنوات قلائل، بحيث باتت المملكة العربية السعودية أحد مراكز الجذب التي تستقطب اهتمام العالم، استثماريا واقتصاديا وتجاريا ورياضيا وثقافيا، بكل ما يعنيه ذلك من تغيرات إيجابية جذرية في الصورة الذهنية التي ارتبطت بالسعودية طويلا، وتحولات في السردية التي يمكن أن يحكيها العالم عن المملكة في العديد من المجالات، حيث تتلاشى تدريجيا الأفكار السلبية والصور النمطية المقولبة التي كان يرددها الإعلام الغربي بشكل تقليدي كلما دار الحديث عن المملكة العربية السعودية في أيّ مجال من المجالات.

وإلى جانب كل هذه النجاحات السعودية، فإن نقاشات تطبيع العلاقات بين المملكة العربية السعودية ودولة إسرائيل لم تغب عن أجندة الدبلوماسية السعودية رغم تداعيات حرب غزة، ليس لتمسك سعودي بهذا الملف ولكن لأنه بات بندا مطروحا بشكل دائم ضمن موضوعات الحوار السعودي ـ الأميركي على وجه الخصوص، ولكن الملاحظ أن التوجهات السعودية لم يطرأ عليها أيّ تغير يذكر، فالأمر بالنسبة إلى القيادة السعودية مرهون بحسابات إستراتيجية سعودية خالصة، فالمملكة لها وضعية استثنائية على المستويين الروحي والإستراتيجي، كما أن علاقاتها مع الولايات المتحدة في حاجة إلى تفاهمات وتوافقات جديدة تتناسب مع الواقع الجديد في علاقات الحليفين التاريخيين التقليديين.

السعودية تتغير بشكل جوهري، ومن ضمن ذلك التغيير يأتي ملف تطبيع العلاقات مع دولة إسرائيل وإيران وغيرهما، فالتغيير يستهدف مستقبل الأجيال السعودية المقبلة بالأساس

السعودية تتغير بشكل جوهري، ومن ضمن ذلك التغيير يأتي ملف تطبيع العلاقات مع دولة إسرائيل وإيران وغيرهما، فالتغيير يستهدف مستقبل الأجيال السعودية المقبلة بالأساس، حيث تمضي بقوة عملية بناء سعودية تتماهى مع طموحات شبابها ومواطنيها، ويضعها في المكانة التي تليق بها كقوة إقليمية تتمتع بكل موارد القوة ومظاهرها، الصلبة والناعمة معا، وبما يضمن للمملكة امتلاك أوراق التأثير على الساحة الدولية بالشكل الذي يحقق لها مصالحها ويجعلها بمنأى عن الانخراط في صراعات أو أزمات قد تعرقل مسيرتها التنموية الطموحة للغاية.

ليس سرا أن السعودية تفكر في دولة إسرائيل كـ”حليف محتمل” كما سبق أن قال الأمير محمد بن سلمان، الذي أكد كذلك أن إسرائيل ليست عدوا لبلاده، فالرياض بالنهاية هي صاحبة مبادرة السلام في عام 2002، ما يعني أنه ليست لدى المملكة العربية السعودية إشكالية أو نفور من المبدأ، ولكنها بالمقابل تنطلق من دورها المحوري عربيا وإسلاميا، وتسعى لصيغة تنفيذية تحقق المصالح المشتركة للجميع وتضمن سلاما واستقرارا فعليا، ولكن الفكر السعودي يتطلب بالمقابل جهدا إسرائيليا يوفر البيئة الإستراتيجية الملائمة التي تشجع المملكة العربية السعودية وغيرها على الالتحاق بقطار السلام، وهو ما يدعو الدبلوماسية السعودية إلى التأكيد مرارا على حتمية حل الدولتين وضرورة قيام دولة فلسطينية كمسار حتمي للانخراط في عملية تطبيع العلاقات مع دولة إسرائيل.

السعودية لن تدعم أيّ توجه لتهجير الفلسطينيين ولن تشارك في أيّ طرح من هذا القبيل، وبالتالي فإن انحسار فرص تسوية الصراع الفلسطيني ـ الإسرائيلي سياسيا ينسحب بالضرورة على فرص تطبيع العلاقات بين المملكة وإسرائيل، وكل ما عدا ذلك يبدو نوعا من التخمينات والتوقعات غير المرجحة في ظل الشواهد الراهنة.