خالد شوبه يكتب لـ(اليوم الثامن):
عدن في العتمة.. أزمة الكهرباء كمرآة لفشل الدولة
تُعد أزمة الكهرباء في عدن عنوانًا مستمرًا للفشل المزمن، وعلامة فارقة على عمق الخلل في بنية الدولة، وعجزها عن أداء أبسط وظائفها في منطقة يُفترض أنها عاصمة مؤقتة، ومركز حيوي في الجنوب اليمني. نحن لا نتحدث هنا عن انقطاع مؤقت في الخدمة، ولا عن خلل فني يمكن تجاوزه بالصيانة، بل عن أزمة متعددة الأوجه، مركبة ومتجذرة، تجمع بين الفساد، والإهمال، والخذلان السياسي، في لوحة قاتمة تعكس ما تعانيه المدينة من انهيارات متتالية.
فصل الصيف بالنسبة لأهل عدن ليس موسمًا اعتياديًا، بل اختبار بقاء. الحرارة المرتفعة التي تلامس أحيانًا حدودًا لا تطاق، تترافق مع انقطاعات طويلة للكهرباء، تطول فيها ساعات الظلام أكثر من ساعات النور. المشهد اليومي بات مألوفًا: أطفال يتصببون عرقًا في غرف بلا تهوية، مرضى لا يستطيعون تشغيل أجهزة تنفس أو تبريد، ومصالح تجارية تُغلق أبوابها في وجه الزبائن بسبب تعطل الثلاجات والمعدات. الكهرباء لم تعد خدمة، بل ضرورة لا يُمكن الاستغناء عنها، ومع غيابها تنحسر مظاهر الحياة الطبيعية.
جذور هذه الأزمة أعمق بكثير من مجرد توقف مولد أو نفاد شحنة وقود. الفساد هو أول وأخطر الأسباب. فالأموال التي يُفترض أن تُوجه لتطوير محطات الكهرباء، تُهدر في صفقات مشبوهة، وعمولات خفية، وتعاقدات مع شركات وهمية أو غير كفؤة. التعاقد على شراء وقود بأسعار خيالية، أو تمرير صفقات صيانة لا تُنفذ أساسًا، ليس مجرد سوء إدارة، بل إفساد منظم ومقصود. ويكفي أن نعرف أن العديد من العقود التي أبرمت في السنوات الماضية، شابتها شبهات فساد علنية، ولم يُحاسب أحد.
ثم تأتي أزمة التمويل، وهي نتيجة طبيعية لتدهور الاقتصاد، لكن الأدهى أن الملف المالي المرتبط بالكهرباء غالبًا ما يُوظف سياسيًا. يتم تقديم دعم مؤقت عند الضغط الشعبي أو الدولي، ثم يُسحب فجأة، وكأن المعاناة تُدار بالريموت كنترول. الوقود الذي تُدار به المحطات يأتي غالبًا عبر دعم خارجي، أو عبر تجار نافذين يفرضون شروطهم وأسعارهم، وهو ما يجعل القطاع رهينة لأجندات خارجية ومحلية، لا تخدم المواطن بأي شكل من الأشكال.
من زاوية سياسية، فإن عدن تبدو وكأنها تُعاقَب. المدينة التي كان يُفترض أن تكون واجهة الدولة ورافعة اقتصادها، تُهمل عمدًا. هناك من يرى أن غياب الخدمات، وعلى رأسها الكهرباء، هو أداة من أدوات "إدارة الفوضى"، أي خلق بيئة خانقة تُفقد المواطن الإحساس بالاستقرار، وتُجهض أي حراك سياسي مستقل. هذه الرؤية، حتى وإن بدت جذرية، إلا أن الوقائع على الأرض تدعمها، خاصة في ظل تكرار نمط التجاهل الرسمي، وغياب أي تدخل حقيقي ومستدام لحل الأزمة.
أما البنية التحتية للكهرباء، فهي تعيش حالة من الانهيار شبه الكامل. المحولات قديمة، الأسلاك مهترئة، وشبكة التوزيع تُسرب أكثر مما تُوصل. كل إصلاح يتم غالبًا بشكل ترقيعي، دون خطة شاملة. بل إن بعض الإصلاحات نفسها تُستغل لكسب عقود جديدة من دون دراسة جدوى أو رقابة.
الطلب على الكهرباء لا يتوقف عن الازدياد، بسبب تزايد عدد السكان، والمشاريع السكنية غير المخططة، والهجرة الداخلية من مناطق النزاع. بينما تبقى القدرة الإنتاجية على حالها، بل تتراجع أحيانًا. النتيجة هي دائرة مفرغة من الانقطاعات، تقود إلى الاعتماد على مولدات خاصة، تستهلك وقودًا باهظ الثمن، وتنتج تلوثًا إضافيًا، وتُعمّق الفجوة بين الطبقات الاجتماعية، إذ لا يملك الجميع رفاهية تشغيل مولد منزلي.
رغم هذا المشهد القاتم، فإن عدن لا تزال تملك فرصة، إذا وُجدت إرادة سياسية حقيقية. لا يكفي إرسال شحنات وقود كلما اشتد الغضب الشعبي. المطلوب خطة استراتيجية تتضمن أولًا إصلاح شامل للبنية التحتية، بتعاون مع شركات متخصصة وموثوقة، وتحت رقابة محايدة. يجب إنشاء لجنة عليا مستقلة لإدارة ملف الكهرباء في عدن، تُمنح صلاحيات واسعة وتُحاسب على الأداء، وتُمنع من التورط في أي صفقات فساد.
الطاقة الشمسية يجب أن تتحول من فكرة طوباوية إلى مشروع واقعي. عدن تملك من الشمس أكثر مما تحتاج، ولا ينقصها سوى التمويل والتقنية والإرادة. مشاريع متوسطة الحجم في الأحياء والمؤسسات الحكومية يمكن أن تُحدث فارقًا كبيرًا في التخفيف من العبء على الشبكة العامة، خاصة إذا اقترنت بتشريعات تُشجع المستثمرين وتحمي المستهلكين.
كما أن القطاع الخاص يجب أن يكون شريكًا في الحل، لا عبئًا إضافيًا. عبر شراكات ذكية مع الدولة، يمكن جذب استثمارات تنعش القطاع، وتخلق فرص عمل، وتُدخل التقنية الحديثة. لكن هذا يتطلب إصلاح البيئة القانونية أولًا، وضمان حماية الأموال من النهب.
وفي انتظار الحلول الاستراتيجية، لا بد من خطوات طارئة تُخفف المعاناة. دعم الأحياء الأكثر تضررًا بمولدات صغيرة مركزية، أو توزيع وقود مدعوم بشفافية، قد لا يكون حلًا نهائيًا، لكنه يُعيد للناس بعض الأمل في الاستجابة. وكذلك، فإن حملات التوعية لترشيد الاستهلاك، واستخدام الأجهزة ذات الكفاءة العالية، يمكن أن تُحدث فرقًا ملموسًا.
في المحصلة، أزمة كهرباء عدن ليست قدرًا محتومًا، ولا مشكلة بلا حل. هي تحدٍ حقيقي لكنه قابل للمعالجة، إذا قررت السلطات – أخيرًا – أن تضع المواطن في قلب القرار، لا في هامشه. هذه المدينة العريقة، التي واجهت الاستعمار والحرب والنكبات، لا يجوز أن تنهزم أمام "العتمة". وإن لم نُطفئ الفساد، فستظل الكهرباء مطفأة.