سعيد عبدالله بكران يكتب لـ(اليوم الثامن):
تحوّل الزيدية من الإمام إلى المرشد.. قراءة في التحوّلات العقائدية للسلطة الدينية في شمال اليمن
عرف المذهب الزيدي في شمال اليمن، عبر تاريخه الطويل، تفاعلاً معقدًا بين الفكر الديني والسياسة، إذ نشأ في سياق الصراع على الشرعية والسلطة، متخذاً من نظرية «الإمامة» أساسًا لبناء الدولة والمجتمع. وقد تميز هذا المذهب، مقارنة بغيره من المذاهب الشيعية، بمرونة فكرية تسمح بتعدد الأئمة، وإمكانية الخروج على الحاكم الجائر، مما جعله أقرب إلى المدرسة السياسية في الإسلام منه إلى المذهب الكلامي المغلق. غير أن التحولات التي شهدتها العقود الأخيرة أدت إلى تبدل عميق في بنية التفكير الزيدي، فتحول من مذهب يحتكم إلى فكرة «الإمام المجتهد» إلى نموذج سلطوي يقترب من صيغة «المرشد الثوري» الذي لا يُسأل عما يفعل، ولا تجوز الثورة عليه.
إن هذا التحول الفكري يمثل نقلة نوعية في العلاقة بين الدين والسياسة داخل المجال الزيدي، إذ لم يعد الإمام يُنظر إليه بوصفه «حاكماً بشرياً» تجري عليه شروط العدالة والعلم والنسب فحسب، بل أصبح يُقدَّم باعتباره «قائد الثورة» و«صاحب الحق المطلق في التوجيه». وهذا التحول لم يأت من فراغ، بل كان نتاج تفاعل طويل بين الفكر الزيدي المحلي، وأفكار الإسلام السياسي الوافدة من المشرقين السني والشيعي، التي أسست جميعها لفكرة «الحاكم المقدّس» المتعالي على المحاسبة.
لقد قامت الزيدية، في صورتها الكلاسيكية، على مبدأ الاجتهاد، وفتحت باب الثورة على الإمام الجائر، معتبرة أن العدالة شرط من شروط صحة الإمامة. وقد كانت هذه الفكرة أحد أهم دوافع التجديد والتداول داخل المذهب. غير أن النسخة الجديدة من الفكر الزيدي المنبعثة في العقود الأخيرة عمدت إلى تعطيل هذا المبدأ، وتحويل الإمام من رمز للسلطة السياسية القابلة للنقد إلى مرجعية روحية لا تقبل الاعتراض. وبهذا، تم استبدال مفهوم «الإمامة السياسية» بمفهوم «القيادة الثورية»، الذي يضع الحاكم في موقع «الوسيط بين السماء والأرض»، تمامًا كما فعلت نظرية ولاية الفقيه في التجربة الشيعية الإيرانية الحديثة.
يُلاحظ أن هذا التحول لم يقتصر على البنية الدينية، بل امتد إلى البنية الاجتماعية والثقافية، إذ تم نقل القداسة من الفكرة إلى الشخص، ومن النص إلى الرمز. فالزعامة الجديدة لم تعد تستمد شرعيتها من النصوص الزيدية الكلاسيكية، بل من «الخطاب الثوري» الذي يربط بين الهوية الدينية والمقاومة السياسية. وبهذا المعنى، جرى إدماج مفاهيم وافدة مثل «الثورة الدائمة» و«الجهاد المستمر» و«الولاية المطلقة» في البنية الزيدية، ما أنتج نموذجاً هجينيًا بين الزيدية اليمنية التاريخية والفكر الثوري الإيراني الحديث.
إن المذهب الزيدي، في صورته التقليدية، كان ينتمي إلى المجال العربي الإسلامي، يتفاعل مع القبيلة والمجتمع المحلي، ويعترف بحدود السلطة الزمنية للحاكم. لكنه اليوم يشهد عملية «علمنة عكسية» تجعل من المرجعية الدينية سلطة سياسية مطلقة، وتضع رجل الدين في مقام الزعيم الأعلى للدولة والمجتمع. وفي هذا السياق، تم تحييد فكرة «الشورى» التي كانت جوهر التجربة الزيدية في بداياتها، واستبدالها بفكرة «البيعة الثورية» القائمة على الولاء للقيادة لا على المشاركة في القرار.
هذا التحول لا يمكن فهمه إلا من خلال دراسة التأثير العميق لتيارات الإسلام السياسي في اليمن والمنطقة. فالحركات الإسلامية، بمختلف توجهاتها، قدّمت نموذجًا جديدًا للسلطة الدينية الحديثة، التي تستند إلى الخطاب العقائدي لا إلى الكفاءة أو الرضا الشعبي. وقد تأثر هذا النموذج بالمفاهيم الحركية والتنظيمية التي طورتها جماعة الإخوان المسلمين في منتصف القرن العشرين، ثم أعادت الحركة الخمينية إنتاجها في سياقها الشيعي مع فارق المرجعية. كلا التيارين انطلق من فرضية واحدة: أن الإسلام ليس مجرد دين، بل هو نظام شامل للحكم والدولة والمجتمع، وأن رجال الدين هم الأوصياء على هذا النظام.
في السياق اليمني، تسربت هذه الأفكار تدريجيًا إلى الفكر الزيدي، فأعادت تشكيل وعي جيل كامل من النشطاء والمثقفين الدينيين، الذين تبنوا فكرة «المشروع الإسلامي الشامل» بديلاً عن فكرة «الدولة الوطنية». ومع مرور الزمن، بدأت تظهر داخل البيئة الزيدية نزعة لإعادة تعريف الإمامة على أساس «القيادة الثورية» لا على أساس الاجتهاد العلمي أو العدالة السياسية، فتم نزع الطابع الفقهي عن الإمامة وتحويلها إلى وظيفة تنظيمية – أيديولوجية.
لقد كان المذهب الزيدي يسمح بتعدد الأئمة في مناطق مختلفة، ويرى أن السلطة ليست وراثية بل مشروطة بالكفاءة والقدرة على القيام بالعدل. أما النموذج الجديد، فقد أغلق باب التعدد، وجعل الإمامة «وظيفة أبدية» لزعيم واحد يمثل «الثورة» لا الدولة. وبذلك أُلغيت فكرة التداول، وتم ترسيخ نموذج هرمي مغلق يضع «القيادة الثورية» فوق المؤسسات المدنية والسياسية، ويجعل كل أشكال السلطة الأخرى مجرّد أدوات تنفيذية في يدها.
ومن أخطر نتائج هذا التحول أنه أدى إلى تآكل الفاصل بين الدين والسياسة، وتحويل المؤسسات الدينية والتعليمية والإعلامية إلى أدوات تعبئة أيديولوجية. فالمناهج الدينية الجديدة لم تعد تدرّس الفقه الزيدي بمعناه العلمي، بل تركز على سرديات الصراع والاصطفاء، وتربط الإيمان بالولاء، والعقيدة بالطاعة. كما جرى تفكيك مفهوم «الأمة» بالمعنى الإسلامي الواسع، واستبداله بمفهوم «الهوية الثورية» التي تميز بين «أنصار الثورة» و«خصومها».
ومن الزاوية الفكرية، يمكن القول إن التحول من الإمام إلى المرشد مثّل انتقالاً من «الفقه» إلى «الأيديولوجيا». فالمرشد في هذا التصور ليس فقيهاً يحتكم إلى نصوص الشريعة، بل قائداً يحتكم إلى «الرؤية الثورية» التي يُعتقد أنها تمثل الإرادة الإلهية. وهذا التغيير أعاد صياغة العلاقة بين العالم والجاهل، والعالم والحاكم، بحيث لم تعد المعرفة الشرعية أو الكفاءة العلمية شرطاً للقيادة، بل الولاء للخط الثوري.
من ناحية أخرى، يعكس هذا التحول أزمة عميقة في الفكر الإسلامي السياسي عموماً، الذي لم ينجح في التوفيق بين فكرة «الحكم الإلهي» وفكرة «السلطة الشعبية». فالجمع بين «الجمهورية» و«الإسلامية» في تسمية الدولة الحديثة يعكس تناقضاً بنيوياً بين حكم الشعب وحكم الوصاية الدينية. فحين تُضاف صفة «الإسلامية» إلى «الجمهورية»، تُفرّغ الثانية من معناها، لأن الحاكم هنا لا يستمد سلطته من الشعب، بل من التفويض الإلهي كما يفسّره رجال الدين.
وفي الحالة اليمنية، يتخذ هذا التناقض شكلاً أكثر تعقيداً بسبب البنية القبلية والطائفية المتداخلة. فالمجتمع الزيدي تاريخياً عرف تنوعاً واسعاً في المذاهب والانتماءات، وكان التعايش بين الزيدي والشافعي نموذجاً للتوازن الاجتماعي. غير أن صعود الفكر الثوري الديني أعاد رسم الحدود بين الطوائف والمناطق على أساس الولاء العقائدي، مما أدى إلى تمزيق النسيج الاجتماعي.
أما من حيث التأثير السياسي، فإن النظام القائم على مفهوم «القيادة الثورية» يُنتج بالضرورة حالة من الجمود، لأن شرعيته لا تقوم على الإنجاز بل على الخطاب المقدس. وبهذا يصبح النقد خيانة، والاعتراض خروجاً على الدين، ما يؤدي إلى خنق الحياة السياسية والفكرية. كما أن هذا النموذج يمنع ظهور قيادات جديدة داخل الجماعة نفسها، لأنه يُحوّل الولاء إلى عبادة، والطاعة إلى فريضة.
لقد ساهمت هذه التحولات في تعميق الأزمة اليمنية الراهنة، إذ تم استبدال الصراع السياسي الطبيعي بين القوى الوطنية بصراع هوياتي عقائدي، لم يعد قابلاً للحل بالمفاوضات أو الشراكة. فحين يتحول الخصم إلى «عدو لله»، تتعطل لغة السياسة ويبدأ منطق الحرب المفتوحة. وهذه إحدى أخطر نتائج تديين الصراع السياسي، الذي يجعل التسوية مستحيلة إلا عبر تغيير العقيدة ذاتها.
على المدى البعيد، قد تواجه هذه المنظومة الفكرية مأزقاً داخلياً، لأن المجتمع اليمني، رغم تدينه، يحمل في جوهره نزعة استقلالية قوية ورفضاً للحكم الثيوقراطي. فالزيدية التاريخية كانت أقرب إلى الفكر الاعتزالي العقلاني منها إلى الفكر الكهنوتي، وقد قدّمت عبر قرون نموذجاً للتوازن بين الدين والسياسة. غير أن النسخة الجديدة تحاول إلغاء هذا التراث، وفرض رؤية أحادية لا تحتمل المعارضة أو الاجتهاد.
ومع ذلك، فإن المجتمع الزيدي لا يبدو مهيأً للقبول بنظام مغلق على المدى الطويل. فالتقاليد الاجتماعية والسياسية اليمنية تميل إلى المساواة والمشورة، لا إلى الهرمية والوصاية. وهذا ما يفسر بوادر التململ داخل البيئات الزيدية نفسها، التي بدأت تستشعر خطر التحول من مذهب اجتماعي منفتح إلى حركة ثورية مغلقة.
إن فهم هذا التحول لا يقتصر على تتبع التطورات داخل المذهب الزيدي وحده، بل يتطلب قراءة شاملة للحركات الإسلامية التي ساهمت في إنتاج هذا النموذج عبر المنطقة كلها. فالإسلام السياسي، سنياً كان أم شيعياً، يقوم على فكرة مركزية واحدة هي «احتكار الحقيقة»، ويحوّل الدين إلى أداة شرعية للسلطة. وحين تمتزج العقيدة بالسياسة، يصبح الدين وسيلة للهيمنة لا وسيلة للهداية.
لهذا فإن مواجهة هذا التحول لا تكون بالخصومة الدينية، بل بإعادة الاعتبار للفكر النقدي والعقلانية السياسية التي ميّزت الزيدية في مراحلها الأولى، وإحياء روح الاجتهاد التي جعلت منها مذهباً يمنياً أصيلاً متسامحاً ومتعدد الآراء. فالتجديد الحقيقي لا يأتي من «المرشد»، بل من المجتمع نفسه حين يستعيد وعيه النقدي ويطالب بسلطة مسؤولة تخضع للمساءلة لا للتقديس.
إن التحول من الإمام إلى المرشد ليس مجرد تبدل في المصطلحات، بل هو انقلاب في فلسفة الحكم ذاتها. إنه انتقال من فكرة الحاكم الذي يُراقَب ويُحاسَب، إلى فكرة الزعيم الذي يُطاع دون نقاش. وهذه النقلة، إذا ما ترسخت، ستقود إلى نهاية المذهب الزيدي بوصفه مدرسة فكرية، وبداية مرحلة جديدة من «الثيوقراطية الثورية» التي تبتلع الدين والوطن معاً.
وفي هذا المفترق التاريخي، تبدو مسؤولية النخب اليمنية جسيمة، فإما أن تترك المجال لهذا الانحراف كي يكتمل، أو أن تستعيد الدور النقدي الذي غاب طويلاً، فتدافع عن العقل والحرية وحق المجتمع في أن يختار حكامه دون وصاية دينية. فالتاريخ يعلمنا أن الدين، حين يُختزل في سلطة، يفقد روحه، وأن الزعامة التي لا تُسائل نفسها، لا بد أن تسقط ولو بعد حين.
ــ سعيد عبدالله بكران
باحث في الإسلام السياسي لدى مؤسسة اليوم الثامن للإعلام والدراسات


