رحلة المسرح والحرية والأزمة..

هل يعيش المسرح المصري في أزمة؟

محمد صبحي في مسرحيته الجديدة

BBC العربية

"أحب المسرح" فهو منذ الطفولة مساحة لجسدي ومشاعري للحكي والبوح وملاذ للتعبيرعن نفسي كطفلة ثم فتاة في مجتمع مصري عربي تنتظر مستقبلا يمتليء بتحديات عن حريتها.

المسرح والحرية ثنائي إنساني، فيوما ما قال الفيلسوف اليوناني أرسطو: "أراهن على بقاء المسرح للأبد لأنه يرتبط برغبة إنسانية أساسية ألا وهي التعبير عن المشاعر وتشخيصها وهذا ما يفعله المسرح".. إذن .. ما التعبير عن النفس إلا انعكاس للحرية..ألم أقل لك إنهما ثنائي إنساني؟!.

ولذا عندما أصبحت صحفية قررت خوض رحلة أتفهم فيها كيف هو حال المسرح والحرية في مصر محاولة الإجابة عن سؤال طالما تكرر: "هل المسرح المصري في أزمة؟!".

الرحلة

ومن هنا أبدأ رحلة المسرح والحرية والأزمة..

أنا من جيل الثمانينات الذي نشأ في ظل تراث المسرح المصري وعشق الشيخ "سلامة حجازي" مؤسس الأوبريت الغنائي ومن بعده خالد الذكر "سيد درويش" ثم "نجيب الريحاني" و"الكسار" و"يوسف بك وهبي". وفي فترة الستينات أو "العصر الذهبي للمسرح" كنت أتشارك أنا وأبي غناء "رايح أجيب الديب من ديله..بس ع الله يكون له ديل" للكوميدي المسرحي"فؤاد المهندس" في مسرحيته أنا فين وانتي فين!". وفي المراهقة كان مسرح السبعينات والثمانينات رفيقا لفتيات ..أنا منهن.. يقلدن "فوزية رأفت" أو الممثلة "سناء يونس" في سك على بناتك" وهي تقول: "أنا امرأة بلا قيد" وفتيان مهووسين بلياقة "محسن محيي الدين" أو "علي يا ويكا".

كما كان المسرح من بين أولى خطوات جيلي لفهم الواقع السياسي حيث الانفتاح وما بعد حرب "أكتوبر" 1973 فأدخلنا الراحل سعيد صالح" إلى عالمه "كعبلون" بغنوته للفاجومي"أحمد فؤاد نجم": " ممنوع من الاشتياق ممنوع من الاستياء وكل يوم في حبك تزيد الممنوعات..."

وبحلول التسعينات أصبحنا في ريعان الشباب وقدم "سمير خفاجى" المنتج المسرحي الشهير"شريهان" التي عرفنا في خطاها الأشبه بالفراشة كيف أن الرقص والمسرح وجهان لعملة هي "الحرية".

ولكن القدر لم يمهل جيلي وجيل التسعينات أن يكملا مشوار الشباب مع مسرحه المصري و وبدأنا نسمع عبارة: "المسرح المصري في أزمة".

فقد وصف الفنان "محمد صبحي" حال المسرح منذ التسعينات بأنه "في ردة مرعبة"و "أن معالم انهياره تتمثل في هدم 28 دار عرض مسرحي في القاهرة والإسكندرية دون محاولة استعادتها، رغم إلزام القانون المصري بإعادة بناء أي مسرح بعد هدمه".

لكن طريقا مسرحيا ثالثا بدأ يظهر في التسعينات إنه "المسرح المستقل" الذي تصفه الكاتبة رشا عبد المنعم، وهي وإحدى الناشطات المصريات في مناصرة قضايا المسرح المستقل، بأنه كان ملاذا لمسرحيين يرفضون بيروقراطية مسرح الدولة وفروض الرقابة والخضوع للربحية في المسرح الخاص.

ثورة يناير

ببداية الألفينات اتسعت المسافة بين الشباب والمسرح بغياب القطاع الخاص واستمرار مسرح الدولة على استحياء ومحاولات للمستقل.

إلى أن جاءت الثورة المصرية 25 يناير/كانون ثاني 2011 ..

تقول الدكتورة أسماء يحيي الطاهر الأكاديمية في مجال المسرح إنه: "عقب الثورات يحدث ارتباك في أي حركة مسرحية فلدينا الآن تيار يريد الإبقاء على ما قبل الثورة وتيار آخر يعكسه الشباب الذي يبحث له عن مكان بأفكاره الخاصة." وفي نظرها فإن الثماني سنوات التي أعقبت الثورة شهدت محاولات لإحياء المسرح حتى وصلنا إلى 2019 الذي تراه بأنه مميز مسرحيا.

ثلاثة نجوم عادوا هذا العام إلى خشبة مسرح القطاع الخاص .. وهم محمد هنيدي ومحمد صبحي و أشرف عبد الباقي.

ذهبت إلى "هنيدي" الذي له النصيب الأكبر في إيفيهات أجيال الثمانينات والتسعينات والألفينات وذلك رغم غيابه لـ 16 عاما كاملة لكنه يعود بمسرحية "3 أيام في الساحل" ويصف سنوات غيابه بأنها: " لم يكن بيدي أو بيد أي من زملائي أن نصنع مسرحا في ظل ظروف مصر الاجتماعية منذ 2011".

" صناعة مسرحية منتظمة"

ومسرحية "3 أيام في الساحل" من إنتاج شركة جديدة، كايرو شو Cairo Show، ومؤسسها "محمد هاني" يرى أنه لابد من "إيجاد صناعة مسرحية منتظمة" موضحا:"الشباب هم الشريحة الأقدر على استعادة المسرح".

ورغم جملة "المسرح المصري في أزمة" فإن كلا من هنيدي أو عبد الباقي اتفقوا على أنه :"لا أزمة في المسرح المصري" وكما قال عبد الباقي:" من يرى أن هناك أزمة فعليه بحلول عملية" أما "هنيدي" و"هاني" فرؤوا أن أكبر دليل على عدم وجود أزمة هو "استمرار مسرح الدولة في زمن الثورة" لكن "صبحي" أكد مرارا خلال حواري معه أن "المسرح في انهياربكل قطاعاته".

الكتابة للمسرح

أما الكتابة المسرحية منذ التسعينات وحتى الآن فهي جزء مما يسمى بـ "الأزمة" فالفنان محمد صبحي يقول "الكتابة للمسرح تستلزم وجود مفكرين وفلاسفة وهذا غير متوفرالآن".

لكن كلا من الدكتورة أسماء يحيي الطاهر و الفنان أشرف عبد الباقي يتفقان أن "من يستخدم تعبير "أزمة" في الكتابة المسرحية فهو يقارن بين الماضي والحاضر، والزمن تغير وكذلك الجمهور فلا توجد كتابة سيئة أو جيدة ولكن توجد متطلبات لكل عصر".

مسرحيات "النجوم"

وبينما "هنيدي" يعود بمسرحية أبرز ما يميزها كما يقول مخرجها مجدي الهواري "المتعة البصرية" فإن "عبد الباقي" يعود بمسرحية تعتمد على"كوميديا الأخطاء" أو "العبثية".

وعندما التقيت بأشرف عبد الباقي بدا عليه منذ اللحظة الأولى التفاؤل لحال المسرح المصري فمسرحيته الجديدة "جريمة في المعادي" هي بالأساس مسرحية إنجليزية تعرض منذ 7 سنوات في لندن وقد تحمس لها بتمصيرها وعرضها ليس فقط في العاصمة بل ذهب إلى بورسعيد والمنيا وأسيوط.

أما مسرحية "صبحي" التي كتبها منذ 2004 ولم يقدمها سوى هذا العام "خيبتنا" فيقول:" كنت أتنبأ فيها بالجحيم العربي أو ما حدث عقب اندلاع ثورات الربيع العربي" فهو يرى أن جمهور المسرح بات تائها وخصوصا مع فقدان المسرح القومي لهويته .

لا توجد أزمة

ذهبت إلى رئيس البيت الفني للمسرح إسماعيل مختار الذي لا يرى أن المسرح القومي في "أزمة" فمقارنته بالماضي أمر ليس منصفا لأنه في الماضي كان فرقة من بين ثلاث فرق فقط أما الآن وقد تضاعفت عدد الفرق فأصبحت عروضه أقل".

مسرح الدولة التابع لوزارة الثقافة المصرية يحاول هذا العام زيادة عدد مسرحياته بنسبة 10في المئة أي بواقع 60 عرضا مسرحيا جديدا على مستوى المحافظات وهذا ما وصفه إسماعيل مختار بأنه أمر مهم مضيفا أنه يكفي أن مسرح الدولة لم يتعرض لأي انتكاسة.

الأمل

ومن بين ملامح الأمل التي بدت في أفق مسرح الدولة، هكذا وصفها عادل حسان مدير عام المسرح بهيئة قصور الثقافة، مسرحية "قواعد العشق الأربعون" التي حققت خطوات لم تكن معهودة على المسرح الحكومي فهي أولا مكتوبة بأسلوب "ورشة الكتابة الجماعية" حيث كتبها ثلاثة من الشباب.

ووفقا لحسان فإنها عرضت لثلاث سنوات وحققت إيرادات بلغت مليون ونصف مليون جنيه مصري على مدار 146 ليلة عرض حتى هذا العام في حين أن ميزانيتها الأصلية كانت 200 ألف جنيه مصري فقط.

وأمل آخر يكشف عنه عام 2019 فيقول حسان:" إن عدد عروض مسرح الأقاليم زادت من مجرد 90 عرضا سنويا فقط إلى 310."

بيوت الثقافة

من بين بيوت الثقافة الحكومية اخترت بيتا بإحدى قرى شمالي الصعيد وتحديدا الفيوم "قرية طامية"، ففي قلبها بيت ثقافي فيه خشبة مسرح اكتظت بعدد كبير من الشباب والمراهقين المنهمكين في بروفة مسرحية كلاسيكية "البخيل" لموليير فهم قد حاولوا على مدار أشهر إعادة كتابتها لتناسب أهل قرية طامية.

وقد التقيت بثلاثة من أبناء الفيوم أولهم المخرج المسرحي الشاب حسام عبد العظيم الذي يرى أن الناس عطشى لحالة المسرح. أما الشابتان هدير ونهاد فكل منهما تسعى للحرية من خلال عملها المسرحي فـ"هدير" الممثلة العشرينية تقول إنها تنتمي لقرية لا يمكن أن تترك امرأة تعمل في مجال المسرح لأنه "عيب" أما نهاد الشابة البورسعيدية فتأتي إلى طامية لتصميم ديكور المسرحية متحدية قلة موارد الإنتاج بتوفير خشبة مسرح بأقل التكاليف أو كما يسميه المسرحي البولندي جيرزي غروتوفسكي "المسرح الفقير".

"جيزويت القاهرة"

كما ذهبت إلى مؤسسة ثقافية مصرية ذات طابع تنموي فني بأحد أحياء القاهرة القديمة وهي مؤسسة "جيزويت القاهرة" المعنية بفنون المسرح والسينما وغيرها.

وفي مؤسسة "الجيزويت" التقيت بنمطين للفرق المستقلة أولها فرقة "وسط الزحمة" التي عرضت على ما تسميه المؤسسة الثقافية مسرح "ستوديو ناصيبيان" البسيط في إضاءته وديكوره وتفاصيله اللوجيتسية.

وبدأت فرقة "وسط الزحمة" المستقلة منذ فترة قصيرة بإنتاج ذاتي محدود، ويقول مؤسسها مصطفى علي: "إننا مجموعة طلبة نحاول توفير تكاليف مسرحيتنا من مصروفنا الشخصي." وعندما سألته "هل تربحون؟" فقال: "أحيانا نحصل على أرباح تغطي التكاليف وهذا شيء يسعدنا ونكتفي به".

ويدور عرض "وسط الزحمة" في إحدى حافلات النقل العام بساعة ذروة مرورية يتكدس بها شباب المسرحية وكل منهم يعرض أزمته الإنسانية الوجودية أمام الجمهور، فمنهم من تحدثت عن أزمتها كامرأة تتوق إلى الحب، وأخرى تبحث عن استقلالها عن سلطتها الأبوية، ومنهم الشاب الذي يفتقد أمه التي رحلت دون أن يقول لها "أحبك" ولا يجد لها بديلا في كل حبيباته.

وديكور المسرحية عبارة عن قطعة قماش عريضة مرسوم عليها "أتوبيس"، ويقول مخرجها "مصطفى علي" : "التمويل والرقابة هما أزمتهما الحقيقية وأزمة أي فرقة مستقلة".

الرقابة والتمويل

وتتفق كل من الدكتورة أسماء والناشطة رشا في رؤيتهما حول الرقابة والتمويل" حيث أن هناك تشديدا على الثقافة والفنون عموما في السنوات الأخيرة مما أثر بالطبع على حركة المسرح المستقل."

وتوضح الدكتورة أسماء أن "التمويل الذاتي" للفرق المستقلة دون الاعتماد على دولة أو مؤسسات تنموية هو الحل إلى حين. بينما ترى رشا أنه إذا آمنت الحكومة المصرية حاليا بـ "مدنية الدولة" فستسمح بالتالي بسقف مختلف للحريات والتمويل.

"مسرح المقهورين"

في نفس مؤسسة "الجيزويت" ولكن بالطابق الثاني في قاعة سميت "أوجيستو بوال"، مؤسس ما يعرف بـ"مسرح المقهورين" الذي يقدم حلولا اجتماعية في مناطق مزقتها الصراعات، وجدت ياسمين وشيماء وزين وغيرهم من شباب منهمكين في أداء حركي تعبيري إنهم شباب مدرسة "ناس للمسرح الاجتماعي"، التي أسستها "الجيزويت" في 2013 لتعليم مهارات الأداء المسرحي من أجل تقديم عروض مستقلة في الشوارع والميادين.

والقاسم المشترك لعروض شباب "ناس" في القاهرة أو الأقصر أو المنيا هو "الجسد" أو ما سماه المخرج المسرحي الفرنسي جاك لوكوك بمنهج "المسرح الجسدي" وفيه يرتكز العمل المسرحي على جسد الممثل وحسب.

وعلى مدار عامين يتدرب شباب مدرسة "ناس" على الرقص والتأمل وفنون السيرك والارتجال وغيرها من مهارات توفر لجسدهم تلقائية تمكنهم من التواصل بشكل أسهل في الساحات العامة مع شرائح اجتماعية مختلفة وخصوصا المهمشين.

فيقول المنسق الفني لمدرسة ناس مصطفى وافي:" نستهدف مهمشي مصر لأنهم يبلغون 80 في المئة وليس في إمكانهم الذهاب للمسرح فكان علينا أن نذهب إليهم".

وقد عرض خلال العام الجاري شباب "ناس" في إحدى مدن جنوب الصعيد حيث امتزج شباب وشابات في إحدى الشوارع وراحوا يتغنون بأعلى صوت بإحدى الأغاني التراثية المصرية "محسوبكو انداس" لسيد درويش وحولهم التف أطفال وسيدات ورجال من الجنوب المصري يصفقون ويبتسمون وكأنها محاولة لتمكين فن المسرح من كسر حاجز عزلة "الجسد" في مجتمع مثل الصعيد.

وقد تمنى وافي أن تسير الحكومة المصرية على درب بعض الدول الأوروبية التي تدعم المسرحيين المستقلين مثل إسبانيا لأنه ورغم أن مسرح "ناس" قليل التكلفة فإنه سيبقى في احتياج للتمويل والتسهيلات الأمنية للوجود في الساحات العامة.

وفي النهاية يحاول من التقيت بهم من صانعي المسرح سواء الشباب أو الكبار الآن استعادة المسرح المصري وكأنهم يراهنون ليس فقط على البقاء ولكن على دور المسرح في تمكينهم من المشاركة في بناء تراث مصري مسرحي للمستقبل.