مقاربة شاملة في الساحل الإفريقي..

لماذا تراهن السعودية على الإدماج الفكري لبناء أمن مستدام في دول الساحل؟

تركز السعودية، عبر التحالف الإسلامي، على تفكيك البنية الفكرية للتطرف، والعمل على إعادة دمج المتأثرين به في مجتمعاتهم، بما يقلل من احتمالات الانتكاس ويحد من قدرة التنظيمات المتطرفة على إعادة إنتاج نفسها

هندسة سعودية لردع التطرف عبر الإدماج وإعادة التأهيل

ميامي

اختتم التحالف الإسلامي العسكري لمحاربة الإرهاب، السبت، في نيامي عاصمة النيجر، أعمال برنامج “تدريب المتخصصين في مراكز الإدماج وإعادة تأهيل المتطرفين”، في خطوة تعكس الدور القيادي للمملكة العربية السعودية في توجيه الجهود الإسلامية المشتركة لمواجهة الإرهاب والتطرف، خصوصًا في البيئات الأكثر هشاشة أمنيًا وفكريًا مثل دول الساحل الإفريقي.

ويأتي هذا البرنامج ضمن مسار متكامل يقوده التحالف، انطلاقًا من رؤية سعودية تعتبر أن المعركة ضد التطرف لا يمكن حسمها بالوسائل العسكرية وحدها، بل تحتاج إلى معالجة فكرية واجتماعية عميقة تستهدف جذور الظاهرة لا مظاهرها فقط.

ومنذ أن بادرت المملكة العربية السعودية بتأسيس التحالف الإسلامي العسكري لمحاربة الإرهاب عام 2015، سعت إلى تقديم نموذج مختلف في مقاربة مكافحة الإرهاب، يقوم على العمل الجماعي بين الدول الإسلامية، ويعتمد على مبدأ المسؤولية المشتركة بدل الارتهان الكامل للمبادرات الدولية أو التدخلات الخارجية.

وقد حرصت الرياض منذ البداية على أن لا يكون التحالف إطارًا عسكريًا تقليديًا فحسب، بل منصة شاملة توظف الأدوات الفكرية والإعلامية والأمنية في آن واحد، بما يعكس فهمًا أكثر تعقيدًا لطبيعة التطرف بوصفه ظاهرة متعددة الأبعاد.

وفي هذا السياق، يكتسب برنامج تدريب المتخصصين في مراكز الإدماج وإعادة تأهيل المتطرفين أهمية خاصة، إذ يجسد التحول العملي في أولويات التحالف، من التركيز على المواجهة الأمنية المباشرة إلى الاستثمار في بناء الإنسان وتحصين المجتمع. فالبرنامج، الذي نُفذ ضمن البرامج الفكرية للتحالف، استهدف تأهيل كوادر وطنية من المختصين العاملين في القطاعات المعنية، وتمكينهم من التعامل مع المتأثرين بالفكر المتطرف وفق مقاربات علمية متكاملة تراعي الجوانب الفكرية والنفسية والاجتماعية.

ويعكس اختيار النيجر، ودول الساحل عمومًا، ساحةً لتنفيذ هذه البرامج إدراكًا سعوديًا لطبيعة التحديات الأمنية في هذه المنطقة، التي باتت واحدة من أخطر بؤر التطرف العنيف في العالم. فالساحل الإفريقي يعاني من هشاشة مؤسسية، وتداخل أزمات اقتصادية واجتماعية، وحدود واسعة يسهل اختراقها، ما يجعل التنظيمات المتطرفة قادرة على التمدد واستقطاب عناصر جديدة.

ومن هنا، تنظر السعودية إلى دعم دول الساحل باعتباره استثمارًا في الأمن الإقليمي والدولي، وليس مجرد تحرك تكتيكي أو ظرفي.

البرنامج الذي اختُتم في نيامي شارك فيه 29 متدربًا من المختصين في القطاعات المعنية، واستمر على مدى خمسة أيام، وتضمن جلسات تدريبية وورش عمل تفاعلية ركزت على منهجيات الإدماج وإعادة التأهيل، وآليات تفكيك الخطاب المتطرف، إضافة إلى تبادل الخبرات المهنية بين المشاركين.

ويعكس هذا الطابع العملي توجهًا سعوديًا واضحًا نحو تجاوز المعالجات النظرية المجردة، والعمل على نقل خبرات حقيقية قابلة للتطبيق داخل السياقات الوطنية المختلفة.

ويؤكد حضور مدير الإدارة الفكرية بالتحالف الإسلامي العسكري لمحاربة الإرهاب، إلى جانب مسؤولين من وزارة الدفاع الوطني في النيجر، أن هذا الجهد لا يُنظر إليه باعتباره نشاطًا فكريًا معزولًا، بل جزءًا من مقاربة شاملة تسعى إلى ربط العمل الفكري بالمؤسسات الأمنية والرسمية، بما يضمن تكامل الأدوار وعدم تعارض السياسات.

ويمثل هذا التكامل أحد أبرز ملامح الرؤية السعودية في مكافحة التطرف، حيث يُنظر إلى الفكر والأمن باعتبارهما مسارين متوازيين لا يمكن فصل أحدهما عن الآخر.

وتبرز أهمية هذا النهج في ضوء تجارب سابقة داخل المنطقة وخارجها، أثبتت أن الاقتصار على المعالجة الأمنية يؤدي في كثير من الأحيان إلى نتائج مؤقتة، ويترك المجال مفتوحًا أمام عودة التطرف بأشكال جديدة.

ومن هنا، تركز السعودية، عبر التحالف الإسلامي، على تفكيك البنية الفكرية للتطرف، والعمل على إعادة دمج المتأثرين به في مجتمعاتهم، بما يقلل من احتمالات الانتكاس ويحد من قدرة التنظيمات المتطرفة على إعادة إنتاج نفسها.

وتعكس إشادات المشاركين بمحتوى البرنامج التدريبي حجم الحاجة داخل دول الساحل إلى هذا النوع من المبادرات، كما تؤكد أن بناء القدرات البشرية يمثل ركيزة أساسية في أي استراتيجية ناجحة لمكافحة الإرهاب.

وفي هذا الإطار، يظهر الدور السعودي بوصفه دورًا تمكينيًا يهدف إلى نقل المعرفة وتوطينها، بدل فرض نماذج جاهزة قد لا تنسجم مع الخصوصيات الثقافية والاجتماعية للمجتمعات المحلية.

ولا ينفصل هذا البرنامج عن مسار أوسع يقوده التحالف الإسلامي، بقيادة سعودية، لتوسيع أدوات مواجهة التطرف. فقد اختتم التحالف مطلع الشهر الجاري في نيامي برنامجًا تدريبيًا في المجال الإعلامي، ركز على توظيف الإعلام بمختلف وسائله في دعم الجهود الوطنية لمواجهة خطاب التطرف والإرهاب.

ويعكس هذا التوجه إدراكًا سعوديًا لأهمية المعركة الإعلامية والسردية، في ظل استخدام الجماعات المتطرفة وسائل الإعلام الحديثة ومنصات التواصل الاجتماعي لنشر أفكارها واستقطاب الأنصار.

ويقوم هذا التكامل بين الإعلام والفكر والأمن على قناعة سعودية بأن التطرف لا يُهزم بالسلاح وحده، بل بتقديم خطاب بديل قادر على إقناع المجتمعات، ولا سيما الشباب، وملء الفراغات الفكرية التي تستغلها التنظيمات المتطرفة.

وقد استفادت المملكة في هذا المجال من تجربتها الداخلية في مواجهة الإرهاب، ومن مراجعات فكرية عميقة أسهمت في تحجيم خطر التطرف داخل أراضيها، وتسعى اليوم إلى نقل هذه الخبرات إلى الدول الأعضاء في التحالف.

وعلى المستوى السياسي، يعزز هذا النشاط موقع السعودية كقائد للعمل الإسلامي المشترك في مجال مكافحة الإرهاب، ويمنح التحالف الإسلامي العسكري مصداقية إضافية بوصفه إطارًا نابعًا من إرادة الدول الإسلامية نفسها، وليس امتدادًا لأجندات خارجية.

وفي ظل تراجع أو تعثر بعض المبادرات الدولية في منطقة الساحل، يبرز التحالف، بقيادة سعودية، كخيار يسعى إلى بناء الشراكات وتعزيز القدرات المحلية بدل فرض الوصاية.

غير أن نجاح هذه الجهود يبقى مرهونًا بعدة عوامل، في مقدمتها الاستمرارية، وتوفير الموارد، وربط برامج الإدماج وإعادة التأهيل بسياسات تنموية أوسع تعالج جذور التهميش والفقر والبطالة، وهي عوامل تشكل أرضية خصبة لانتشار التطرف.

وتدرك السعودية، وفق ما تعكسه برامج التحالف، أن المعركة مع الإرهاب طويلة الأمد، وتتطلب صبرًا واستثمارًا متواصلًا في الإنسان والمؤسسات.

ويمثل اختتام برنامج تدريب المتخصصين في مراكز الإدماج وإعادة تأهيل المتطرفين في نيامي محطة مهمة في مسار التحالف الإسلامي العسكري لمحاربة الإرهاب، ويعكس عمق الدور السعودي في قيادته وتوجيهه نحو مقاربة شاملة تتجاوز الحلول الأمنية التقليدية.

وبينما تبقى التحديات كبيرة في دول الساحل الإفريقي، فإن الرهان السعودي على الفكر، وبناء القدرات المحلية، وتكامل الأدوات، قد يشكل أحد المسارات الأكثر واقعية لبناء أمن مستدام ومواجهة فعالة للتطرف العنيف على المدى الطويل.