توطيد العلاقات التجارية والأنشطة الاستثمارية..

قراءة تحليلية: ماذا فعل الربيع العربي بتركيا.. وماذا فعلت به؟

شعبية متراجعة

ماجد كيالي

في مقارنة بين مكانتها قبل “الربيع العربي” وبعده يمكن ملاحظة أن تركيا خسرت كثيرا من استثمارها السياسي لدى الحكومات والمجتمعات في العالم العربي، بل إن ذلك أثّر سلبا على وضعها الداخلي.

وكانت تركيا بدت في العقد الأول من الألفية الثالثة بمثابة نموذج ملهم للمجتمعات العربية، بصعودها السياسي والاقتصادي وبقوّتها الناعمة، أي منذ صعود حزب “العدالة والتنمية” إلى الحكم (2002)، كحزب إسلامي في نظام حكم علماني، بانتهاجها سياسة تخفيف التوترات مع محيطها، وعدم التورط في المشكلات الداخلية للبلدان الأخرى، وتوطيد مكانتها لدى جيرانها عبر العلاقات التجارية والأنشطة الاستثمارية، ما عزّز جاذبيتها.

وبديهي أن المكانة التي حازت عليها تركيا لم تكن في مصلحة الدولة الإقليمية الأخرى، أي إيران، التي عرفت بانتهاج سياسة “تصدير الثورة”، وتحريض المجتمعات على الحكومات، والتي عملت على خلق مناطق نفوذ لها في بعض البلدان العربية، وضمن ذلك إقامة جماعات مسلحة موالية لها.

طبعا لا علاقة مباشرة للطابع المذهبي في الانحياز للنموذج التركي، لأن المجتمعات العربية كانت تحمّست للثورة الإيرانية، وناصرت “حزب الله” كحزب مقاومة، منذ عقود، لكن ذلك لم يستمر، مع انكشاف الطرفين المذكورين. ويمكن تفسير ذلك الانحياز، في حينه، بتغيّر السياسة التركية لمصلحة العرب، وبنجاح نموذج حزب “العدالة والتنمية” في الحكم، وبالشبهات التي تحوم حول دور إيران في الغزو الأميركي للعراق (2003)، ناهيك عن هيمنتها عليه، وإثارتها النزعة المذهبية فيه، وفي العالم العربي، وصولا إلى دعمها المحموم لنظام الأسد.

لكن مشكلة تركيا تكمن في أنها لم تحافظ على سياستها تلك، فهي مع ثورات “الربيع العربي” تصرّفت كدولة ذات أجندة حزبية – دينية، مثلها مثل إيران، ما بدّد مكاسبها وزعزع مكانتها. هكذا، مثلا، أخطأت تركيا بتدعيمها لتيار سياسي معيّن، في هذه الثورات، على حساب التيارات الأخرى، وبتمحورها في العلاقات العربية. لكن الخطأ الأكبر يتمثل بتشجيعها تحول الثورة السورية ثورة مسلحة، بطريقة متسرّعة وغير مدروسة، وتسهيلها دخول مقاتلين أجانب إلى سوريا، وتدعيمها للجماعات العسكرية المحسوبة على الإسلام السياسي المتطرف، فهذا كله أضر بثورة السوريين وبمجتمعهم، وأطال عمر النظام، وكاد يزعزع الاستقرار السياسي في تركيا ذاتها.

وكانت تركيا قطعت شوطا طويلا في أخذ الثورة السورية نحو أجندتها، وتوظيفها في ما ترى أنه يخدم حفاظها على أمنها القومي، بخاصة بعد انضوائها في تحالف أستانة مع شريكي النظام، روسيا وإيران (2017)، وبعد كارثة “خفض التصعيد”، التي كانت لصالح استعادة النظام سيطرته على معظم المناطق في الجنوب والوسط والشمال التي كانت خارجة عن تلك السيطرة، إذ تبين، عبر كل تلك المحطات، أن معظم الفصائل العسكرية الموجودة في الشمال السوري تعمل وفقا للأجندة التركية. هذا بدا في عملية درع الفرات (2016)، ثم في عملية عفرين (2018)، وصولا إلى عملية “نبع السلام” (أواخر 2019)، في شمالي شرق سوريا، أكثر بكثير مما عملت لصالح أجندة الشعب السوري، بحيث أن الدفاع عن الأمن القومي لتركيا، ومقاتلة قوات “قسد”، التي يهيمن عليها فكر وقادة حزب البي.كي.كي (حزب العمال)، وتعزيز المكانة الإقليمية لتركيا، من مدخل نفوذها في الصراع السوري، باتت هي وحدها المقصد، لا مساندة الثورة ضد النظام، ولا مقاتلة الجماعات الإرهابية الأخرى.

طبعا يمكن التمييز هنا بين تقاطع المصالح، وبين العلاقة التبعية والوظيفية، إذ أن الفصائل المذكورة ليست لديها الإمكانية ولا القدرة ولا الإرادة لتبادل أو تقاطع مصالح، بمعنى أنها تعمل وفق المنظور التبعي أو الوظيفي.

هكذا أثرت تركيا في “الربيع العربي”، من المدخل السوري، الذي كان بوابتها إلى الساحات الأخرى، لكن هذا التأثير السلبي، في كثير من الوجوه، كانت له انعكاساته السلبية على تركيا ذاتها، سياسيا واقتصاديا وأمنيا، وقد تبدى ذلك، مثلا، في تراجع شعبية حزب العدالة والتنمية، كما في التراجع الاقتصادي لتركيا وانخفاض قيمة الليرة التركية، وفي الإرباك الذي باتت تعيشه في علاقاتها الدولية، بين روسيا والولايات المتحدة، وفي شأن علاقاتها مع العالم العربي، ناهيك عن تشوش صورتها في الرأي العام العربي.