تشريح الأزمة السياسية من منطلقات آيديولوجية أو عقائدية..
قراءة تحليلية: كيف يهدد نظام تميم و تنظيم "الإخوان" توازن القوى
منذ المقاطعة الخليجية لقطر التي استهلت بواكيرها في 2017. والكثير من التحليلات المرئية والمقروءة المتأثرة بالبروباغندا القطرية تتناول تشريح الأزمة السياسية من منطلقات آيديولوجية أو عقائدية.
ومن المفارقات المثيرة للسخرية أنَّ هذا الشكل من نمط التحليل غالباً ما يُظهر الحكومة القطرية، كما تدعي بأنها «كعبة المضيوم»، أو «حائط مبكى» لكل أشكال المعارضة الإسلامية المضطهدة حول العالم، أو «مهبط وحي ديمقراطي» للباحثين عن النظم السياسية التمثيلية الحرة، أو «دوحة سلام» للمتطلعين للحقوق والحريات العامة والخاصة.
والهدف الحقيقي من هذه الكوميديا السوداء هو تنميط الصراع السياسي بين قطر والسعودية في صيغة صراع عقائدي وحقوقي بين البلدين، بحيث تقدم نفسها في صيغة مزدوجة لهويتها السياسية: فتارة تظهر بصيغة الدولة العقائدية التي تحرس العقيدة وتحمل لواء الدفاع عن عقائد المسلمين ونصرة قضاياهم، وتارة أخرى تبدو في صورة الدولة الراعية لحقوق وحريات الإنسان المدنية والعلمانية، وبالمقابل تبرز الدولة السعودية على النقيض كلياً من تلك النماذج والصور المثالية المزيفة.
وعند إنتاج وتكرار هذه الصورة الذهنية المزيفة في مختلف القنوات المرئية والصحف المقروءة، وشبكات العالم الافتراضي المدعومة قطرياً يبدو للمراقب البسيط بأنَّ الصراع يدور حقاً حول الدين وليس حول السياسة، وبأنَّ السياسة القطرية مسخّرة لخدمة الدين بدلاً من خدمة الدين للسياسة. بيد أنَّه في حال باشر الباحث المختص في العلوم السياسية توظيف بعض من النظريات المعتبرة في تراثه العلمي من أجل تحليل الأزمة بين البلدين سيدرك بأنَّ جوهر المشكلة وقاعدة الأزمة الحقيقية هي سياسية بامتياز، وترتبط ارتباطاً وثيقاً بنظرية توازن القوى من دون أنْ تمتَّ بأي صلة ممكنة للتعاليم الإسلامية أو النسق الآيديولوجي للصراع، والذي توظفه قطر كقميص عثمان في جهازها الدعائي أو كأداة من أدوات السياسة الخارجية ضد دول المقاطعة بشكل عام، وضد السعودية بشكل خاص. ولن يغالي هذا الباحث في حال افتراضه بأنَّ دعم قطر لـ«الإخوان المسلمين» واستضافتها لقادتها ورموزها الكبار بالدوحة، فضلاً عن صياغة شبكة واسعة من التحالفات الدولية تصبُّ بمجملها في صالح الإطار النظري العام لمقاربة توازن القوى في نظريات الفكر السياسي والعلاقات الدولية.
وممَّا يؤسف له في هذا السياق، أنَّ حالات تشوه هياكل التحليل النظري عند التعامل مع هذه الأزمة السياسية وأزمات دولية أخرى، تعود في جزء كبير منها إلى تغييب دور المختص السياسي الذي يمتلك أدوات التحليل المعرفية الكافية، والقدرة على سبر الظواهر السياسية من منطلقات ومعايير علمية بعيداً عن الغوغائية الخطابية أو الديماغوجية الفكرية.
وهذا الحال من تفاقم الانفلات من دوائر التخصص العلمي هو للأسف ما يتصدر المشهد الثقافي، والمنصات الإعلامية، والدوائر السياسية في بعض دول المقاطعة، حيث أُقحِم غير المتخصصين في مجالات العلوم السياسية في مختلف مؤسسات تحليل الظواهر السياسية وتشكيل الوعي السياسي الجمعي.
ومما لا شك فيه أنَّ هذا الخلل الوظيفي في تشكيل قاعدة معرفية صلبة للظواهر السياسية في هذه الدول أنتج خطاباً تأويلياً يشطح بالاستنتاجات إلى قوالب اختزالية، فاختزلت السياسة بالدين، والمصلحة بالآيديولوجيا، وتعقيدات النظام الإقليمي والدولي بنظريات المؤامرة أو الماسونية العالمية.
وللخروج من عشوائية التحليل السياسي غير المنضبط بالمعايير العلمية والمقاربات النظرية، فإنَّه يتوجب على من يباشر تحليل الظواهر السياسية الاستعانة بأهل الخبرة والدراية في هذا التخصص الدقيق، أو على أقل تقدير الإلمام بحدود الكفاية العلمية من مقاربات التخصص النظرية، وذلك عبر النظر إلى قواعد اللعبة السياسية التي تُنظم سلوك الدول أو اللاعبين السياسيين حول موارد القوة والذي يتمحور في كثير من أشكاله حول بنية النظام الإقليمي أو الدولي وتوازنات القوى، وكيفية تعظيم المكاسب الممكنة وتقليل الخسائر المحتملة، من خلال استغلال هوامش الفرص المتاحة والمنبثقة من قواعد تلك اللعبة السياسية لتكديس أكبر كم ممكن من عناصر القوة المنشودة.
ومن هذا المنطلق وعند قراءة الأزمة الخليجية من هذه المقاربة النظرية، يبدو جلياً أنَّ حركة «الإخوان المسلمين» هي مجرد حركة وظيفية براغماتية تقدم خدمات ومنافع سياسية ذات طبيعة استراتيجية لصالح كفلائها من الفاعلين السياسيين، الذين يستغلّون في الغالب مقدرات هذه الحركة من أجل تعظيم مكاسبهم، وتنويع مصادر القوة لديهم، وتغيير قواعد اللعبة السياسية أو الحفاظ عليها داخل بنية النظام الإقليمي بما يخدم مصالحهم.
وبالتالي ووفق هذا المنطق الاستغلالي، من الممكن فهم العلاقة القطرية بحركة «الإخوان» في ضوء نظرة الأولى للأخيرة بأنَّها مجرد ورقة ضغط تكتيكية قابلة للتوظيف والاستغلال بما يعود بتحقيق المصلحة الوطنية، وإضفاء شكل من أشكال الشرعية الدينية لقادتها السياسيين. وبموجب هذه الصفقة السياسية الانتهازية أو التواطؤ الضمني بين الطرفين، فإنَّه يمكن النظر إلى جماعة «الإخوان»، كأي جماعة ضغط أخرى، بوصفها منظومة زبائنية تقدم خدماتها ومواردها الحركية والشرعية للحكومة القطرية، شريطة حماية نظام الدوحة لمصالح الجماعة ومنافعها.
وكأي حركة زبائنية أو براغماتية تحفزها مصالحها وبرامجها النفعية، فإنَّ حركة «الإخوان المسلمين» أثبتت تاريخياً بما لا يدع مجالاً للشك أنَّ المصلحة المتغيرة هي محفز سلوكها السياسي الوحيد والحصري على حساب القيم والمبادئ العقائدية، بدلالة فض شبكات تحالفاتها النفعية منذ أواسط الخمسينات في القرن المنصرم بدءاً من الرئيس عبد الناصر، والسادات، وحسني مبارك، مروراً بالرياض، إلى أن انتهى بها المطاف حالياً إلى نقل كل مواردها وخدماتها المتاحة إلى أنقرة والدوحة.
وتبدو الروح الانتهازية في سياق كل تفاعلات حركة «الإخوان» مع كفلائها المذكورين، حينما خلع قيادات الجماعة وأعضاؤها على كل تلك الدول طابع الشرعية الدينية وتعزيز مصادر قوتها الحركية في موازين القوى عندما تقاطعت مصالح تلك الدول مع أنشطة وبرامج الحركة، وتمكينها من مختلف مصادر القوة المتاحة.
وبالمقابل، عندما تناقضت مصالح الحركة مع تلك الدول، فسرعان ما انتزعت عنها الشرعية الدينية وأعلنت تمردها وانشقاقها عنها وسعت لضعضعة مكانتها في بنية المنظومة الإقليمية، والإخلال بتوازن القوى الذي يحكم تفاعلاتها السياسية.
وهذا الشكل المتغير في تنوع شبكات المصالح الاستراتيجية للحركة يؤكد بشكل قطعي، أنَّ الصراع الحالي هو بطبيعته صراع سياسي يدور حول المصلحة، وآليات إنتاج ومراكمة القوة، وتوازنات القوى وفق تصورات نظريات العلوم السياسية، وليس حول الدين أو العقيدة أو التاريخ وفق اعتقادات بعض الهواة غير المتخصصين.
وللحديث بقية.
----------------------------
المصدر| الشرق الأوسط