انشغال العالم بمكافحة كورونا خلق ثغرات تسلل عبرها التطرف للبيوت..

تحليل: التمدد الفكري.. كيف أصبح اخطر من وجود تنظيم الخلافة؟

داعش يوجه 'جنوده' من الذئاب المنفردة لشن هجمات في أعياد الميلاد

واشنطن

تنشغل الدول منذ نهاية العام الماضي في مواجهة عدو خفي لا يُرى بالعين المجردة ولا يُمكن تطويقه إلا عبر إجراءات الحجر والعزل الصحي في حالة من الاستنزاف المالي والعصبي لشعوب العالم وأنظمته.

وفي الأثناء قد يخلق هذا الانشغال ثغرات أكبر على مستوى مواجهة عدو آخر معلوم بالاسم لكن عناوينه متناثرة وغير معلومة في معظم الأحيان وقليلا ما تصل إليها الأجهزة الأمنية قبل تنفيذ مخططه.

والمقصود في هذا السياق الجماعات الإرهابية التي تستثمر عادة في الفوضى لإعادة التشكل والبناء ولم يعد خافيا أن فيروس كورونا الذي اجتاح العالم أنتج حالة من الإرباك والانشغال، ما أتاح لبعض التنظيمات الجهادية استثمار هذا الوضع لجهة إعادة ترتيب أوراقها والتخطيط للضرب بقوة خاصة في مناسبات مثل أعياد الميلاد.

واللافت أيضا أن تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) مثلا الذي كان يُعتقد أن خطره زال أو تراجع بشكل كبير بعد انهيار ما يسمى بدولة الخلافة، عاد مجددا وبقوة للنشاط على منصات ومنتديات الكترونية موجها رسائل تهدف لتحفيز مناصريه في العالم المعروفين إعلاميا وسياسيا بـ"الذئاب المنفردة" وبث الحماسة في نفوسهم لتنفيذ اعتداءات إرهابية في توقيتات معلومة ومحددة بما يتيح تنفيذها بشكل مباغت على غرار ما جرى في نيس الفرنسية والعاصمة النمساوية فيينا وهي أمثلة يمكن الاستناد إليها في رصد حالة من إعادة التشكل ولو افتراضيا.

والمشهد على ضوء ما سبق يُحيل إلى أن دولة الخلافة التي انهارت عمليا بدأت تستعيد زخمها لكن ليس على أرض الواقع بقدر ما هي مشروع لدولة الخلافة السيبرانية. وهو مفهوم قد يثير الغرابة طالما أنه يتعلق بدولة خلافة افتراضية، لكنه يشكل في الوقت ذاته خطرا أكبر بحيث أن مجالات الاختراق أوسع نطاقا وأيضا يكون انسيابها أسهل وبعيدا إلى حدّ ما عن أنظمة المراقبة.

ولم تغفل التحليلات الصادرة عن مراكز متابعة الجماعات الجهادية حقيقة أن هذه التنظيمات تتمدد فكرا أكثر من تمددها تنظيميا والمثال واضح في هذه السياقات فالهيكلة والبناء تأتي بعد أن تنجح الجماعة المتطرفة في ترسيخ فكرها ونشره على نطاق واسع.

ويقف تنظيم القاعدة أوضح مثال على ذلك، فالقاعدة عمليا انهارت وتفتت وضعفت إلى حدّ كبير لكن تشكلت لها فروع في أكثر من منطقة لعل أبرزها في منطقة الساحل والصحراء وتحولت من تنظيم مركزي إلى أفرع متناثرة مقلقة ومزعجة أينما وجدت.

والحال ذاته ينطبق على تنظيم الدولة الإسلامية الأكثر دموية ووحشية على الإطلاق، فقد انتهى عمليا كتنظيم قوي مركزي وكمشروع دولة خلافة (مزعومة) إلى أفرع متناثرة والأخطر من ذلك أنه أصبح له امتدادات فكرية و"جنود" غير معلومين ومختلفون تماما عن مسلحيه على الأرض، يتنقلون بحرية في دول غربية وعربية وهم الذئاب المنفردة القادرة على التحرك بسلاسة وبلا رقابة ودون توجيه من المركز والقادرة أيضا على تنفيذ اعتداءات إرهابية يصعب في غالب الأحيان إحباطها.

فالذئاب المنفردة المتأثرة بفكر داعش أو القاعدة، كثير منها خارج المراقبة الأمنية والاستخباراتية وكثير منها لا يُعرف لها سجلات لدى أجهزة الأمن ولا يعرف عنها الانتماء لتنظيم أو لفكر متشدد.

والمفارقة أن كثيرا من العناصر الإرهابية التكفيرية التي نفذت اعتداءات في السنوات الأخيرة بطريقة الذئاب المنفردة تشكلت في نسيج مجتمعي متنوع ومنفتح ونهلت من مبادئ الحرية والديمقراطية، لكن واقعيا تأثرت هذه العناصر بفكر داعش الذي نجح في استقطاب الكثيرين عبر الفضاء الالكتروني أو عبر توظيف المنابر الخطابية في دور العبادة.

وعود على بدء قد تكون التدابير التي اتخذتها دول غربية أو عربية لكبح انتشار فيروس كورونا بالتزامن مع أعياد الميلاد، قد قلصت إلى حدّ ما فرضية حدوث هجمات إرهابية، لكن التسليم بذلك لا يبدو واقعيا، فإجراءات الإغلاق والعزل في حدّ ذاتها قد تكون حفزت التطرف.

ونشّطت جماعات جهادية آلتها الدعائية على الانترنت ومحاولات الاستقطاب خلال فترة العزل العام والحجر المنزلي التي فرضها انتشار فيروس كورونا، والتي استدعت بقاء أطول في المنازل، لجهة التمدد في الفضاء الافتراضي ونشر فكرها المتطرف مستهدفة عينات بعينها.

وصحيح أن نفوذ تنظيم داعش على سبيل الذكر، انحسر إلى حد كبير ميدانيا مع خسارته الكثير من مناطق سيطرته ومع مقتل الكثير من قادة الصفّ الأول فيه بمن في ذلك زعيمه وأميره أبوبكر البغدادي، إلا أنه وسع نطاق انتشاره في الفضاء الالكتروني ضمن ما يمكن تسميته بدولة الخلافة الافتراضية بمعنى أنه تمدد فكريا بعيدا عن الهيكلة التنظيمية التقليدية والتراتبية المعروفة لدى التنظيمات المتشددة على أرض الواقع. 

وقبل أيام قليلة صدر تحذير عن مرصد الفتاوى التكفيرية والآراء المتشددة التابع لدار الإفتاء المصرية، ينبه إلى توجيه تنظيم داعش دعوات لذئابه المنفردة في رسالة حملت عنوان "الغلظة على الكفار"، لتنفيذ هجمات في أعياد الميلاد.

وتأتي تهديدات داعش ودعواته التحريضية هذه المرة في ظرف استثنائي، حيث جاءت في أعقاب تعرض فرنسا والنمسا في أكتوبر/تشرين الأول ونوفمبر/تشرين الثاني لهجمات متقاربة في توقيتاتها منفذوها من الذئاب المنفردة وأعلنوا انتمائهم للدولة الإسلامية.

وتشير تلك التطورات إلى أن التنظيم المتطرف بدأ بالفعل يستعيد نشاطه تدريجيا لكن هذه المرة عبر "جنود" مختلفين هم الذئاب المنفردة يصعب رصدهم. وكانت الأجهزة الأمنية الأوروبية ومراكز تتابع أخبار الجماعات الجهادية قد حذّرت مرارا من خطر الذئاب المنفردة.

وأشارت تلك الأجهزة في الأشهر القليلة الماضية إلى أن داعش قادر على تنفيذ اعتداءات إرهابية في أوروبا، في الوقت الذي تتحسب فيه العواصم الغربية لهجمات في احتفالات أعياد الميلاد.

وسبق لداعش أن نفذ هجمات في أعياد الميلاد ففي ديسمبر/كانون الأول 2016 اقتحم متطرف تونسي سوقا لعيد الميلاد في برلين بشاحنة، في عملية دهس أسفرت عن مقتل 12 شخصا وإصابة 50 آخرين.

وفي الفترة ذاتها تقريبا أحبطت الأجهزة الأمنية في فيينا مخططا إرهابيا كان سينفذه ثلاثة متطرفين تأثروا بفكر التنظيم الإرهابي، وكانوا يخططون لاستهداف سوق في العاصمة النمساوية.

وفي نوفمبر/تشرين الثاني الماضي أحبطت السلطات الروسية اعتداء إرهابيا بعد اعتقال عناصر كانت تخطط لتنفيذ عمليات إرهابية في موسكو التي كشفت أن هذه العناصر كانت تقوم بجمع الأموال وتجنيد آخرين.

ويقول مرصد الفتاوى التكفيرية إن "التنظيم (داعش) اعتاد على نشر مثل هذه الدعوات التي تهدف إلى بث الرعب بين المجتمعات الأوروبية في مثل تلك الأوقات، حيث سبق أن دعا عناصره إلى شن هجمات إرهابية في إسبانيا، ووثق ذلك في إصدار له تحدث فيه عناصره باللغة الإسبانية".

وفي العام 2017 أصدر داعش دليلا عرف باسم "دليل الذئاب المنفردة" تحدث فيه عن كيفية شن هجمات مروعة في أوروبا خلال أعياد الميلاد وكيفية صناعة المتفجرات، موجها ذئابه للتركيز على مهاجمة العائلات الآمنة ودور العبادة ووسائل المواصلات والمنشآت الحيوية.

واستثمر التنظيم المتطرف أيضا في الدعاية لبث الرعب وفي محاولة لإظهار مدى قوته، معتمدا على نشريات سمعية بصرية وملصقات حملت عبارات التهديد والوعيد من قبيل "قريبا في أعياد الميلاد" مرفقا بلافتة يظهر فيه رجل ملثم يحمل سلاحا وهو على وشك أن يباغت سانتا كلوز في أحد شوارع العاصمة البريطانية لندن.   

وشكلت الهجمات الأخيرة في كل من فرنسا والنمسا دليلا على نجاح "خلافة داعش السيرانية" في التمدد والتأثير من خلال الفضاء الالكتروني وهي عمليات تحفز ذئاب التنظيم المتطرف على التحرك والمباغتة.

وفي إحاطة افتراضية قدمها لمجلس الأمن بشأن أحدث تقرير عن تأثير داعش على السلام والأمن الدوليين، قال فلاديمير فورونكوف مدير مكتب الأمم المتحدة لمكافحة الإرهاب، إن أزمة فيروس كورونا العالمية أبرزت التحديات التي ينطوي عليها القضاء على الإرهاب، مضيفا "التهديد الرئيسي في أوروبا يأتي من التطرف الإرهابي المحلي الناشئ عن الإنترنت"، رغم الجهود الأمنية والحكومية لمحاصرة الدعاية للتطرف.

وكانت وكالة تطبيق القانون الأوروبية (يوروبول) قد أعلنت أنها عملت مع 9 من أكبر منصات الإنترنت للتصدي لعمليات الدعاية لتنظيم داعش من بينها غوغل وتويتر وإنستغرام وتليغرام.

وتهتم الوكالة بحفظ الأمن عن طريق تقديم الدعم للدول الأعضاء في الاتحاد الأوربي في مجالات مكافحة الجرائم الدولية الكبيرة والإرهاب.

وقالت إنها فحصت "فيديوهات دعائية وإصدارات وحسابات على مواقع التواصل الاجتماعي تدعم الإرهاب والتطرف العنيف"، مضيفة أن "تليغرام كان منصة الخدمة الإلكترونية" المحبذة لدى التنظيم ووجد بها معظم المواد المخالفة للقوانين.