"صراع الظل في الجزائر 1962"..

أرشيف سويسري سري: واشنطن سعت لصناعة «قوة ثالثة» في الجزائر قبيل الاستقلال

تكشف وثائق استخباراتية سويسرية سرية، تعود إلى الأسابيع الأخيرة التي سبقت استقلال الجزائر عام 1962، عن تدخل أميركي مباشر لإعادة تشكيل موازين القوى داخل جبهة التحرير الوطني، عبر دعم ما عُرف بـ«القوة الثالثة» الموالية للغرب، في محاولة لاحتواء النفوذ السوفياتي ومنع صعود قيادات ثورية بعينها.

وثائق استخباراتية سويسرية تكشف كواليس التدخل الأميركي في استقلال الجزائر عام 1962

نورالدين خبابه

كشفت وثائق استخباراتية سويسرية سرية، تعود إلى عام 1962، عن دور أميركي مباشر في كواليس المرحلة الأخيرة التي سبقت استقلال الجزائر، تضمن مساعٍ لإعادة هندسة المشهد السياسي ودعم ما عُرف آنذاك بـ«القوة الثالثة» الموالية للغرب، في محاولة لاحتواء النفوذ السوفياتي ومنع صعود تيارات ثورية بعينها داخل جبهة التحرير الوطني.

وتعود الوثائق، الصادرة عن قسم الاستخبارات في الأركان العامة للجيش السويسري والمصنفة «سري جدًا»، إلى الأسابيع الحاسمة التي أعقبت استفتاء تقرير المصير، وقد نُشرت لاحقًا ضمن مؤلفات أكاديمية متخصصة مع الحفاظ على ترقيمها الأصلي، ما يمنحها قيمة توثيقية نادرة، باعتبارها صادرة عن دولة محايدة راقبت تطورات الاستقلال من زاوية استخباراتية بحتة.

وبحسب نشرة المعلومات رقم 14/62 المؤرخة في 2 يوليو/تموز 1962، رأت واشنطن أن استقلال الجزائر شكّل نقطة تحول استراتيجية في شمال إفريقيا، وسط مخاوف متزايدة من تمدد النفوذ السوفياتي في المنطقة. وتشير الوثيقة إلى أن الولايات المتحدة اعتبرت وقف عمليات منظمة الجيش السري الفرنسية OAS شرطًا أساسيًا لتهيئة مناخ يسمح بظهور سلطة جزائرية إما موالية للغرب أو على الأقل محايدة.

وتفيد الوثائق بأن تحييد منظمة الجيش السري لم يتم عبر تدخل عسكري فرنسي مباشر، بل من خلال مفاوضات سرية جرت على مراحل وانتهت بوقف سياسة «الأرض المحروقة» وإجلاء عناصر المنظمة من الجزائر، دون اشتباك مع القوات الفرنسية. وتؤكد النشرة أن هذه العملية تمت بتدخل مباشر من ممثلين أميركيين في الجزائر، بدعم من وكالة الاستخبارات المركزية وتمويل سري، وبتنسيق غير معلن مع دوائر اقتصادية ومالية في باريس.

وتضع الوثيقة هذا التحرك الأميركي في سياق أوسع من القلق المتنامي داخل واشنطن إزاء النشاط السوفياتي المتزايد في إفريقيا، مشيرة إلى شحنات أسلحة وخبراء عسكريين سوفيات في المغرب، وحضور عسكري متصاعد لموسكو في إفريقيا السوداء، إلى جانب تراجع نفوذ حلف شمال الأطلسي في غرب البحر المتوسط.

وفي الداخل الجزائري، ترصد الوثائق تصاعد الانقسام داخل جبهة التحرير الوطني، حيث تميّز بين ثلاثة تيارات رئيسية، أحدها ثوري يقوده أحمد بن بلة وهواري بومدين ويُنظر إليه على أنه أقرب إلى القاهرة وموسكو، وثانٍ إصلاحي تمثله الحكومة المؤقتة، وثالث موالٍ للغرب تشكّل من تحالف بين شخصيات بورجوازية داخل الجبهة، ومعتدلين أوروبيين، ومصالح اقتصادية مرتبطة بالاستثمار في الجزائر.

كما تكشف الوثائق عن عملية إجلاء واسعة لعناصر منظمة الجيش السري من مدينة وهران إلى سبتة ومليلية عبر سفن حربية إسبانية، جرت دون تدخل فرنسي، في خطوة اعتبرها معدّو النشرة مؤشرًا على تفاهمات إقليمية غير معلنة هدفت إلى تجنب انفجار أمني واسع النطاق.

وتخلص الوثائق السويسرية إلى أن الصراع على مستقبل الجزائر عام 1962 لم يكن محليًا فحسب، بل شكّل إحدى ساحات الحرب الباردة، معتبرة أن الجزائر كانت تمثل مركز ثقل استراتيجي في شمال إفريقيا، وأن حسم اتجاهها السياسي كان أولوية قصوى لكل من واشنطن وموسكو.

ورغم أن هذه الوثائق تعكس رؤية جهاز استخباراتي أجنبي وتوظف مصطلحات تنتمي إلى سياقها التاريخي، فإنها تقدم قراءة نادرة لكيفية تداخل الصراع الداخلي الجزائري مع حسابات القوى الكبرى، في لحظة مفصلية رسمت ملامح الدولة الجزائرية بعد الاستقلال.