البوصلة العكسية لجماعات الجهاد الدينِي..

تحليل: "التنوير".. مشروعات جماعات الإسلام السياسي الغائبة والملحة

أمراء جماعات التكفير ينقرضون في واقع المشهد المتغير

بليغ حمدي إسماعيل

وأنت تطالع بشغف ثلاثية الأستاذ محمد حسنين هيكل "المفاوضات السرية بين العرب وإسرائيل" ينبغي عليك الوقوف طويلا متأملا العبارة التي افتتح بها ثلاثيته السياسية الأشهر في نهايات القرن العشرين تحديدا في مارس 1996 والتي تقول: الاهتمام بالسياسة فكرا أو عملا يقتضي قراءة التاريخ أولا لأن الذين لا يعرفون ما حدث قبل أن يولدوا، محكوم عليهم أن يظلوا أطفالا طول عمرهم" . ولعل ما سطره الأستاذ الصحافي الكبير محمد حسنين هيكل يعد ضربا من وقائع اليقين المشاهد في عصرنا الراهن لاسيما وسط تزاحم هائل وشطط مستعر من عشرات بل ومئات الفصائل الدينية الإسلامية التي تقر الجهاد مبدأ لها ضد أعداء الدين ـمن وجهة نظرهاـ ووقت المهمة التي تتطلب التدخل الحقيقي لتجسيد هذه العقيدة الجهادية لديها نجدها بغير استثناء فصيل منها أو طائفة دون سواها تفر بعيدا ببوصلتها الأيديولوجية وتظل بمنأى بعيد عن الأحداث التي طالما تغنت بها وبتمجيدها وإعلان الشعارات الحماسية بشأنها تماما كما حدث مؤخرا عقب أحداث حي الشيخ جراح وغزة في فلسطين.

وليست المشكلة في مواقيت الفرار لدى جماعات الجهاد الديني المغرومة ـ حسب التوصيف اللبناني المحلي للافتتان ـ بالسلطة والمال والجنس فحسب، بل هي مشكلة الوعي والدراية بالواقع، وهو الأمر الذي يمكن أن نعنيه بالتنوير، هذه اللفظة التي كانت وستظل دوما محل تربص وشك وغموض وكراهية بالطبع لدى كافة الجماعات الدينية المتطرفة التي تعلن سعيها للخلافة وهي لا تفطن أن خلافة الأرض تتطلب أكبر قدر من الوعي والبصيرة والاستنارة وليس الوصول إلى وكالة الدين باستخدام العنف والقهر والترويع والاغتيال سرا وعلانية بغير رحمة.

وإذا طالعنا مشاهد بدايات التنظيمات الدينية المتطرفة التي خرجت عن منطق التصنيف والتوصيف بحكم انتشارها واتساع مداها وخصوصا في منطقة الشرق الأوسط المحموم بفتنة السلطة والدين والجنس والذهب، لاكتشفنا غياب المشروع النهضوي واضح المعالم والملامح عند التأسيس، وربما يباغتنا الواقف على الشاطئ الآخر بأن هذه الحركات نشأت تدريجيا وفق مراحل تاريخية معينة فهذا يجعلنا نهتم بالرد على غيبياته بأن أولى بديهيات التأسيس المعرفي لأي تنظيم أو حركة أو جماعة وإن كانت متطرفة الفكر والهوية خبيثة القصد والنية هي توافر مشروع نهضوي يحدد مسارات العمل ويستشرف نهايات الرحلة.

غياب المشروع التنويري لدى تلك الطوائف والجماعات هو الدافع الأول لتفسير حدة الهجوم على مشروعي النهضة المصرية على يد كل من محمد علي باشا والخديوي إسماعيل، ويكاد يجزم كثير من المؤرخين لحركة النهضة العربية بأن محمد علي باشا والي مصر المحروسة هو صاحب أول مشروع نهضوي عربي يتسم بملامح تنويرية وإن اختلفت أهداف النهضة لديه عن نهضة المواطنين آنذاك وإن كنت أظن أن التماسه لرفاعة رافع الطهطاوي في مشروعه التنويري هو بمثابة تجديد خفي للخطاب الديني وحركته وسط حالات مستدامة من جمود التجديد قبل ولايته، ففي تدشينه لمشروعه التوسعي بحكم أنه سيحكم مصر إلى نهايات غير محددة زمنيا، استهدف اقتناص فرصة ضعف الخلافة العثمانية التي بدأ المرض السياسي والاجتماعي والتحلل الأخلاقي يدب في أوصالها ومفاصلها وسط حالات من التخبط الفكري بين الجنوح المطلق صوب العلمانية أو استمرارية البقاء تحت مظلة خلافة وهمية واهية في طريق إلى زوال محتم، فكر محمد علي باشا في أن يقيم امبراطورية مصرية مقرها القاهرة ذات نفوذ عسكري وعلمي مستخدماً في ذلك كافة الوسائط الثقافية المتاحة وقتئذ من بعثات وترجمة واستلاب طاقة الأزهر الشريف الإيجابية في تعضيد مشروعه.

وبمنطق الجهل المتعمد لدى قيادات وأمراء وشيوخ جماعات الجهاد المزعوم لم يلتفتوا إلى راهنية هذه الفترة المهمة في تاريخ العرب وليست مصر وحدها، بأنه سرعان ما سقط محمد علي ومشروعه وفقاً للتحالف الأوروبي مع الكيان العثماني الضعيف والذي مارست الدول الأوروبية عليه كل ممارسات السيادة والقمع بحكم أن تركيا آنذاك لم تعد قادرة على الحراك السياسي في البلدان التي تخضع لها اسماً وتشريفاً دونما اتصال أو صلة رحم تاريخية. ورغم التوسع العسكري والحضاري الوئيد مقارنة بالاهتمام بتطوير البنية العسكرية فإن حركة التنوير لم تكن على نفس القدر إلا إذا اعتبرنا أن إنشاء المدارس الحديثة هي طور من تنامي الوعي بالثقافة.

ورغم أن كثيرين أكثر ولعا وهياما بالمشروع التنويري الذي أقامه محمد علي إلا أنه يبدو في تحليل نهاياته أقرب إلى بدايات التأسيس لدى جماعات الجهاد الديني المعاصرة، وهو عدم استشراف المستقبل أو قراءة وقائع التاريخ المنصرم بصورة كافية ووافية، الأمر الذي جعل من مشروع محمد علي النهضوي فقيرا من الناحية التنويرية، ومن مشروع الجماعات الجهادية عدما بغير فائدة جماعية للوطن.

وعودة إلى قضية التنوير التي طالما غابت عن مشروعات النهضة لدى جماعات الإسلام السياسي إن كان لديها بالفعل مشروع قائم، أننا ألفينا بزوغ عهد الخديوي إسماعيل بن إبراهيم بن محمد علي الذي بدأ بتأسيس مشروع نهضوي وإن اختلف كثيرا عن جده محمد علي من كونه ـ المشروع ـ تضمن جوانب ثقافية ودينية وسياسية شتى بخلاف مشروع الجد الذي انصب على تكوين جيش قوي لمواجهة خلافة كانت في طريقها للتهاوي، بدأ عصر جديد وربما أول عهد مصري من التنوير الحقيقي في تاريخ مصر الحديث، وصادف هوى الخديوي إسماعيل بالحضارة الأوروبية وجود عقول مصرية وطنية ساعدت توظيف ميل إسماعيل إلى الأخذ بالحضارة الغربية وبتنوير الشعب المصري وإن كانت مظاهر التنوير مادية نوعية تخص فئات محددة أكثر منها معنوية تهم قطاعات المجتمع ككل.

هذه العقول بالفعل نجحت طواعية بغير إرهاب أو قهر أو تطويع سلطوي في إحداث تجديد ثقافي وديني لازلنا نتلمس نتائجها الإيجابية حتى وقتنا الراهن، وصاحب هذا التجديد الديني والثقافي تجديد سياسي حتى وإن كان في نظر بعض مؤرخي ثورة الضباط الأحرار 1952 تجديدا صوريا بغير جدوى، لكن المشكلة الأزلية لأي مشروع فكري نهضوي هي التوقيت أو بالأحرى مواقيت الاحتفاء بانتهاء المرحلة الأخيرة للمشروع والسعي لتدشين مشروعات أخرى مماثلة.

وحينما نتذكر الواقع المرير للمرأة في فلك جماعات الجهاد الديني، فلزاما علينا استرجاع تجربة مالالا زاي يوسف الباكستانية ومقولتها البارزة والغائرة بصدور جماعات الإرهاب حينما قالت؛ "اللَّهُ بَارَكَنِي بِحَيَاةٍ جَدِيْدَة" وبهذه العبارة افتتحت فتاة باكستان حديثها عقب إفاقتها من الغيبوبة التي دخلت فيها كرها بعد الاعتداء الوحشي على أيدي رجال حركة طالبان الإرهابية، والعبارة جد بليغة لأنها ذكرت أولئك الذين يتشدقون بالدين وهم بعيدون تمام البعد عن إسلامنا الحنيف بالقيم التي ينبغي أن يلتزموا بها. لكن الغريب في المشهد الثقافي أن المفتونين بشبكة التواصل الاجتماعي والجالسين ليلاً ونهارا أمامه بغير اكتراث بشرف المشاركة في الحياة الطبيعية وليست الافتراضية أنهم لا يعرفوا من هي مالالا يوسف زاي، وهو الأمر الذي يزيد من يقيني بفتور الحراك الديني التجديدي في الوطن العربي.

ومالالا زاي يوسف قصة إنسانية ضد خفافيش الظلام والظلامية وأعداء التنوير، فهي فتاة نشأت وترعرعت في ظل ثقافة حركة طالبان التي تدعي أنها حركة دينية أصولية وهي في الأصل لا علاقة لها بالإسلام ولا بأهله مطلقا، وهؤلاء يرفضون حتى لحظة الكتابة تعليم المرأة بوجه عام لاعتبارات ثقافية ترتبط برهاناتهم الفكرية والأيديولوجية وتعليمات أمرائهم وشيوخهم بأن في تعليم المرأة انهياراً للمجتمع الإسلامي. وحكاية مالالا تشبه آلاف الحكايا والقصص التي ترتبط بواقع الفتاة في مجتمعاتنا العربية الذي يصر ألا يرى في الأنثى عقلاً أو رأيا أو ذهنا وربما لا يدرك أنها بحق إنسان في ظل ثقافة ذكورية مريضة، فالقصة الاجتماعية ترى المرأة فتنة وغواية ومصدرا للشرور ذلك لأن تفكير النصف الأسفل من الجسد هو المسيطر على هؤلاء المرضى المتهوكين فكراً وعقلاً.

ولا شك أن مشكلة الثقافة الذكورية التي تسود مجتمعاتنا العربية والإسلامية أن لا تظن أو تتيقن بأن المرأة قادرة على المشاركة بجوار الرجل في النهضة والتنوير، وأن المحك الرئيس في الحكم عليها هو الكفاءة في العمل والإتقان في أداء المهام، لكن في ظل إقصاء المرأة بعيدا عن الحياتين السياسية والاجتماعية وتضييق مشاركاتها وقصرها في قضايا وظواهر اجتماعية محددة كالزواج والإنجاب والطلاق، وباتت اليوم محل اهتمام لدى أمراء وقيادات وشيوخ جبر خواطر النساء حينما أصبحت بغير إرادتها وسيلة من وسائل الجهاد أعني وأقصد جهاد النكاح وجهاد الحب.

وبحق إن قيادات وأمراء الجماعات التكفيرية المعاصرة لم يتعلموا الدرس جيدا ولم يفطنوا لفلسفة التاريخ، وأنهم في واقع المشهد ينقرضون تدريجيا في ظل أفكار بعيدة عن الإسلام وتعاليمه وفي ظل تكريس ثقافة نكاح الجهاد وهم في غيهم وضلالهم بأنهم في جهاد مستمر مع الباطل ولو اكترثوا قليلا وأبصروا بعدسة الداخل التي ترى النفس الداخلية لوجدوا أنفسهم أكثر سوادا وغبنا وحماقة.

لكن من الواضح أن حركة التنوير لم تصل بعد إلى حد شيوع الثقافة السياسية والاجتماعية المستنيرة وبالقطعية بعض رجالات الفكر الديني المعاصر أيضا الذين لا يكترثون إلا بمسائل النكاح والزي الديني وسفور المرأة وحكم تناول الطعام والشراب باليد اليسرى، ولعل أبرز أسباب فشل التنوير في مجتمعاتنا العربية هو فقر التوظيف المعرفي للنظريات النقدية، فلقد شاع في نظر كثيرين ممن لا ينتمي إلى الثقافة الليبرالية والتيارات المدنية أن التنوير ارتبط بنقد الفكر الديني أو بالأحرى نقد النصوص التراثية التي كتبها السلف، ولربما في ظنهم قليل من الصحة أيضاً، لأن كثيرا ممن استبقوا طوابير التنوير والمشروع النهضوي العربي قاموا بتوجيه بعض اللوم على كتابات رجال الدين لاسيما المتفقهين منهم.

ثم أفرد المعاصرون صحائف كثيرة من مصنفاتهم لنقد العقل العربي ونقد هذا العقل في تفكيره وتأويله وتلقيه للنصوص الدينية في عصورها التاريخية المختلفة، حتى وقتنا الراهن يقع كثيرون من المثقفين في شَرَك وفخ اقتناص النص الديني والذي لا يقصد به القرآن الكريم على الإطلاق بل الكتابات الدينية فراحوا يهاجمون ويستلبون ويقيمون محاكم تفتيش للنوايا والأهواء والأغراض المستترة والمسكوت عنها.

ومشكلة هؤلاء أنهم لا يدركون أن نقدهم يتعلق بمقدسات أعني الحديث النبوي الشريف والصحيح، وتبدو المشكلة أكثر وضوحا حينما يستند أولئك على آيات من الذكر الحكيم قد لا تتصل بسياق الاتهام الموجه للكتابات الدينية والفقهية، لذلك فإن اللغة المطلقة التي يستخدمها ناقدو الخطاب الديني القديم تشكل أزمة في التلقي لدى العامة والمثقفين على السواء. وهم في نقدهم يسعون جاهدين إلى تكوين الاتجاهات المضادة والعكسية لا السعي صوب التنوير والاستنارة وهذا هو أبرز أسباب فشل المشروع النهضوي المعاصر.

ولا تزال تجربة التنوير العربية تعاني التخبط والفشل لأنها تركز على المسائل الفقهية الهامشية نادرة الحدوث بل إن من أطرف ما استمعت إليه مجادلة تلفازية لرجل إعلامي لا يمكن توصيفه بالشيخ أو المفكر الديني يسعى إلى تعجيز ضيوف البرنامج بالبحث عن نوع النملة التي تحدثت إلى سليمان وهذا من باب الخطاب الديني المعاصر الذي ينبغي تجديده وتطويره بل ونسفه وخلق خطاب ديني مستنير يستهدف التنمية الدينية والاستنارة العقلية .

وإذا كان المعاصرون لا يزالوا يجترون حكايات بدايات التنوير على أيدي مصطفى عبدالرازق ومحمد عبده وطه حسين ورفاعة الطهطاوي وغيرهم رغم أنهم موقوفون عند حدود العرض السردي لطرح هؤلاء السابقين ومناقشة آرائهم حول بعض القضايا التي انتهت صلاحيتها الزمنية وهو الأمر الذي يعزى إليه فشل خطاب التنوير المعاصر.

بجانب حركة الاجتهاد الفقهي البليدة والتي نصف بها حالة الاجتهاد الراهن من ظهور بعض الوجوه الإعلامية الدينية التي عادت لمناقشة وطرح قضايا فقهية تلقي بالعقل العربي بعيداً عن مشكلاته الراهنة وأزماته اليومية الحقيقية لاسيما التي تتعلق بواقعه الديني. إن مشكلة التنوير حاليا هي التقليد ليس أكثر، وعلى القارئ أن يراجع كل محاولات المدعين بالتجديد أو بالأدق الأكثر إثارة للخلافات الفكرية الدينية ليكتشف أن مسعى المجتهدين الجدد صار قاصرا على إثارة الدهشة فحسب، فأين التنوير وأين تلك النهضة العقلية التي تحث على التفكير وإعمال العقل؟

اعتدنا من جماعات الجهاد التكفيرية أن تحارب أوطانها وتعلن العداوة والبغضاء والكراهية لأهلها المشتركين معها في العرق والدين والتاريخ المشترك

إن أردنا التنوير بحق بغير فشل أو إخفاق فعلينا الرجوع إلى قرآننا الكريم الذي يقول اله تعالى فيه (ما فرطنا في الكتاب من شئ) ( سورة الأنعام ـ آية 38 )، والحديث النبوي الشريف الصحيح والثابت بالقطعية، لكننا مقتصرون على الوقوف عند شواطئ الطروحات الدينية التي تتسم بالمبالغة في إتعاب الفكر وكثرة النظر في الشواهد الظنية. وكل ما أتمناه أن أعيش ألف سنة قادمة ليس طمعاً في حياةٍ أعلمها أنها لهو ولعب وتفاخر وكثير من الغرور والقلق والجهل والسفه، لكن لأقرأ كتاب التاريخ وماذا سيكتب عن هؤلاء المجاهدين في غيهم وغيابهم الوطني تحت زعامات وشعارات وخلافات متعددة واهية وحينما ينتصر التنوير وإعمال العقل على التكفير والمنادين بجاهلية المجتمعات الإسلامية.

إن التنوير المعاصر اليوم هو بحق  بوصلة عكسية تشبه كلمة يمكن اغتصابها كثيرا على شاشات القنوات الفضائية تحت مظلة البرامج الحوارية التي تكرس للجهل أكثر مما تدعم للمعرفة والاستنارة والتفكير الإيجابي. والوجوه المكررة المملة لم تضف شيئاً لملف التنوير الذي فجره الطهطاوي ومحمد عبده وطه حسين والعقاد وتوفيق الحكيم وزكي نجيب محمود ومصطفى محمود ونصر أبو زيد سوى صراخاً وضجيجا وعبثاً وسخافة. وأصبح من المعتاد مشاهدة ومتابعة جدال واسع وكبير بين رجال الفكر الديني والمثقفين العرب حول قضايا دينية وفقهية ومعالجة تأويلية للنصوص الدينية التراثية بصورة لا تدعو فقط للملل بل للعجب والدهشة أيضا، وهذا خير دليل على أن المشهد الثقافي الفكري غير مؤهل تماما للتجديد أو التنوير وينبغي على كل مفكر أن يتحسس مسدسه وهو يخاطب العامة حينما يذكر شيوخ السلف والخلف. 

والذي يزيد من قساوة المشهد الفكري المعاصر أن التعليم الديني في بعض المؤسسات الدينية الرسمية والخاصة وصل إلى مراحل أكثر دهشة وأدعى لليأس وعدم التفاؤل، بل قد يغضب المؤهلون للغضب بالفطرة والتطبع أيضاً حينما نقول بأن مستوى التعليم الديني في الوطن العربي وصل إلى حد السطحية تارة والتطرف تارة أخرى، بدليل جمود الاجتهاد الديني الذي كان سمة مميزة لهذا الوطن العربي الكبير  وأهله وفقهائه، بل يمكن أن نغالي القول بأن أنصار هذا الجمود قد تعاظم دورهم وسط جموح التيارات الجهادية الدينية ذوات البوصلة العكسية. وللحق يمكننا أن نلتمس العذر لهذا الخطاب الديني الذي صار يعاني جموداً عظيماً، نظراً لانشغال كثير من البلدان العربية بالأحداث السياسية المتسارعة والمشكلات الداخلية التي تعتريها، ونجد أيضا هجوما مستمرا من أعضاء وأمراء وقيادات الجماعات الجهادية التكفيرية صوب الأزهر الشريف، وهذا الهجوم المستمر على مؤسسة الأزهر يساعده عزلة الأزهر نفسه عن واقعه السياسي والاجتماعي ودوره التنويري المهم في مثل هذه الفترات.

وخلاصة المشهد أننا اعتدنا من جماعات الجهاد التكفيرية أن تحارب أوطانها وتعلن العداوة والبغضاء والكراهية لأهلها المشتركين معها في العرق والدين والتاريخ المشترك، أما هؤلاء الذين صالوا وجالوا وهتفوا أنهم سيزحفون إلى القدس بالملايين يبدو أنهم أصبحوا أسرى بين ثلاث قوى؛ إما السلطة والنفوذ وآلاف المجاهدين الذي يحرسون ويقيمون الليل لا في الصلاة والتعبد بل لحماية أمراء الفتنة والتكفير، وقوة ثانية وهي إسقاط كافة العقد النفسية وإحداثيات الذاكرة التاريخية لطفولتهم وصباهم على واقع أيامنا بفتوى التكفير والتحليل والتحريم، وقوة ثالثة أخيرة وهي عقدة النساء التي تمثلت في شهوات مستعرة وبِدَعٍ مستحدثة تحت نداءات جهادية، وربك هو العالم.

-----------------------------------

المصدر| MEO