استعراض تأريخ الحروب التي شنت على الجنوب..

دراسة بحثية: التجربة الاشتراكية.. أسباب الإطاحة بسالمين وقحطان

اصطدام النظرية الاشتراكية بالواقع الاجتماعي التقليدي الذي يقوم على أسس المجتمع الزراعي والطبقي

عدن

الحركة الجماهيرية الجنوبية التي دشنت العام 2007 ليست الأولى في تاريخه وربما لن تكون الأخيرة إلا أنها الاكثر تأثيرا وتاثيرها يتمحور حول كونها تشكل حصيلة مهمة ونتاج تاريخي لحراك امتد لعقود طويلة وارتبط بعلاقة طويلة الأمد بين الدولة والمجتمع ذو اصول تاريخية عميقة .

ويمكن تعريف الدولة هنا بأنها :  مجموعة الأجهزة الرسمية التي تدار من خلالها شؤون المجتمع .

بينما سلطة الدولة : هي الهيئة المركزية التي تقبض على أجهزة الدولة وتحكم البلاد .

أما نظام الحكم فهو الطابع السياسي والايدلوجي والاقتصادي الذي تضفيه المجموعة المسيطرة على السلطة والتي قد تكون مجموعة عصبوية أو عرقية أو طبقية تضفي على الحكم طبيعة يمكن أن تكون عسكرية أو مدنية ؛ لاهوتية أو علمانية ؛ استبدادية أو ديمقراطية .

شهد الجنوب طوال تاريخه مجابهة هادئة أو ساخنة بين قطبي الواقع فمن جهة تميل سلطة الدولة سواء كانت شرعية أو سلطة أمر واقع الى الهيمنة والاستئثار ومن جهة أخرى يدفع المجتمع تلك الهيمنة باحثا عن حقوقه ومابين فترة وأخرى تحدث تغييرات في طبيعة النظام أو تغييرات في النسيج الاجتماعي نفسه. لكن مايكسب اي شعب وعي متزايد وقدرة ذهنية أعمق للتعبير عن مصالحه هي عملية التغيير في القمة والقاع.

ارتباط الجنوب بالثقافة الإسلامية منذ القرن السادس ونظام الري ذو الطابع الخاص جعلت الأنظمة السياسية تكتسب شرعية مطلقة تتركز في شخص الحاكم الذي ينبغي طاعته تقربا الى الله والخروج عليه يعتبر اثما عظيما وبهذا اكتسبت الأنظمة اقوى الأسلحة التي تضفي عليها الشرعية القائمة على القمع. وتم استخدام هذه الأفكار للسيطرة على نفوس وضمائر المحكومين.

تعرض الجنوب للعديد من الغزوات الأجنبية ففي العام 1522 وحين وصلت الكشوفات الجغرافية أوج ازدهارها بدأ حلم الشرق يداعب البرتغاليين وكان الهدف السيطرة على ممرات الملاحة الأقدم في العالم لهذا اتجهت أساطيل الغزو البرتغالي الى بحر العرب وكانت الوجهة مدينة الشحر الهامة وكان حاكمها آنذاك بدر بو طويرق وهنا كانت الهبة الشعبية هي اول تعبير عن مدى وعي الشعب من خلال اعلان رفضه للوجود الاستعماري.

كان الأهالي أصحاب السبق في التصدي للغزو وقتل وجرح المئات في سبيل الدفاع عن أرضهم حتى تم دحر العدو مكبدا خسائر كبرى.

في الحقيقة لم يكن رعايا السلطان يمتلكون اي قدرة على تحديد مسارهم في الحياة ولا يمتلكون وعي ذاتي مستقل حيث كان ينتمي كل منهم إلى جماعة عضوية ذات بنية أبوية تقليدية كالقبيلة أو الحرفة أو القرية ولايشعرون بوجودهم أو هويتهم الا من خلال تماثلهم مع هذه البنى من خلال الولاء للشيخ الذي يتحدث باسمها كما يتميز التجار ورجال الدين الذين يعترف الحاكم لهم بدور الوسيط بين القصر والشعب

غير أن هذا الاختبار أبرز صفة متميزة تسكن اعماق هذه الجماهير الباحثة عن وسيلة ما للتعبير عن نفسها.

أحدثت الحملات البرتغالية والإنجليزية لاحقا وغير ذلك من الحملات زلزالا كبيرا ليس في بلادنا فحسب بل وفي بنية المجتمعات العربية ككل حيث اهتزت البنية المتماسكة بعد أن تم كسر التواصل بين حكم الله في السماء الذي تدعيه السلطات الحاكمة وحكم الكفار على الأرض وبذلك فقد النظام شرعيته وفي نفس التوقيت بدأت الجماهير تتخلص من قيود الشرعية المستمدة من السماء وتتمرد على التقاليد السارية فنشأت حركة مقاومة مستميتة كان الأهالي في قلبها والمحرك الرئيس لها

على أن الوجود الانجليزي في مستعمرة عدن أسهم في حدوث تغييرات جوهرية في نسيج المجتمع بعد أن دخلت الحداثة الغربية وفرضت نفسها بشكل كبير حيث أن الحداثة تقوم على ركيزتين:

_ الفصل بين الدنيا والآخرة اي القبول باستقلالية الحياة الزمنية وخضوعها لقوانين موضوعية ثابتة يمكن دراستها دون الرجوع للمحتوى الديني

_ انسلاخ الفرد عن الجماعة التقليدية ومشاركته في الحياة العامة متسلحا بمباديء معرفة علمانية وقادرا أن يتحمل شخصيا مسؤولية افعاله

وهكذا بدأت أجهزة الدولة في استيعاب الموظفين والعمال وإن بقيت الإدارة تخضع لأسلوب استعماري من قبل الإنجليز لكن المؤكد أن السلطات منحت فرص وصول الشرائح التي تلقت تعليما جيدا للعب دورها في السلم الإداري والوظيفي وبالتالي المشاركة في الشأن العام عبر تكوين أطر وكيانات نقابية وحزبية وجمعيات واندية رياضية أثرت الوعي العام بالجديد وكانت سببا في نمو الرفض ضد فكرة استلاب قرار الشعوب والهيمنة على مقدراتها

  أبرز ما يمكن التلميح له حول تطور الوعي السياسي المستقل في الجنوب ما حدث في تجربة دثينة التي تبلورت فيها افكار المدنية والحداثة بشكل متميز وتم سن قوانين وتشريعات تسمح بقدر من الفاعلية والمشاركة الشعبية في أمور الإدارة والحكم

سلسلة المتغيرات الجوهرية التي تراكمت منذ مطلع القرن الفائت يمكن القول إنها كانت مرحلة ولادة حقيقية لمفهوم كرامة الوطن وتعبر عن هذا كتلة اجتماعية وازنة وتمظهر هذا التطور في نضوج وعي الرأي العام وتكريس مفهوم الوطن والوطنية ؛ فالوطن هو الهوية الجديدة التي تمسكت بها الجماهير لحفظ مصالحها واندفعت من أجل النضال في سبيله خاصة بعد فقدان ما يشدهم الى الماضي مثل الرضوخ للحكام باعتبارهم يمثلون إرادة السماء أو هيمنة الاب والشيخ وزعيم القبيلة حيث أن الوطن له أبعاده الزمانية والمكانية التي تميزه وتجعله أعلى من الحدود الضيقة للقبيلة والعشيرة كما أنه يتيح للفرد أن يتحرر من أسر القوى التي تتحكم فيه .

يعتبر الاستعمار البريطاني مرحلة من الحكم بلاشرعية حتى وإن تستر وراء واجهات محلية صغيرة لكن البلاد شهدت آنذاك تزايدا مستمرا في المساحة الاجتماعية والوزن الاقتصادي والنفوذ السياسي للأحزاب وتعاظم دور المثقفين والموظفين والطلبة وخاصة في عدن ولحج

شهدت عدن حراكا مدنيا أفضى إلى زيادة حركة الاحزاب والنقابات وفي 1951 نشأ حزب رابطة الجنوب بقيادة محمد علي الجفري كحزب يدعو إلى هوية عربية إسلامية معتدلة ولازال حزب الرابطة مستمرا الى اليوم يثري الحياة السياسية بالأطروحات التي تؤكد على هوية جنوبية منفصلة عن اليمن

شهدت الخمسينات والستينات تصاعد المد القومي التحرري وكان جمال عبدالناصر في مصر هو أيقونة الموجة الجديدة والقائد الفعلي لهذه الحركة التي أثرت كثيرا على المنطقة العربية. كانت سياسات ناصر تنزع الى دعم الحركات التحررية وطرد الاستعمار وتصفية اثاره وتبني فكرة الوحدة والاشتراكية تمخض عن هذا صعود نجم حركة القوميون العرب وقدمت مصر دعما وفيرا للثورة في اليمن شمالا وجنوبا وكانت الأيدلوجية القومية تتغلغل في أوساط الطلبة والمثقفين وقادة الرأي العام مما مهد لظهور الجبهة القومية كقائد لحركة التحرر من الاستعمار الى جوار جبهة تحرير الجنوب وأدى الصدام لاحقا إلى إزاحة جبهة التحرير وانفراد الجبهة القومية بالمشهد كليا.

حمل الفكر القومي العربي خطابا جديدا وشابا وترافق مع ذيوع صيت الاشتراكية كغريم لأنظمة الهيمنة التي استعبدت الشعوب ووجد هذا الخطاب حاضنة كبيرة وأثر بشكل كبير على الفكر السياسي الجنوبي لفترة زمنية طويلة وكانت الدعوة إلى توحيد اليمن هي محور نضال الحركة الوطنية آنذاك وعلى هذا تم تكريس فكرة الوحدة اليمنية في كافة أدبيات الدولة لاحقا بمافيها التعليم والثقافة وجعلت وسائل الدعاية الوحدة حلما شعبيا ونخبويا

ازداد غضب الشعب في الجنوب من ممارسات الاحتلال الإنجليزي وظهرت الأصوات التي تدعو للثورة عليه وكان مايحدث في الدول العربية المجاورة يلهم عموم المواطنين مزيد من الحماس والرغبة في الاستقلال في العام 1950 انتفض أبناء المكلا ضد الاستعمار وأعربوا عن رفضهم الهيمنة الاستعمارية على حضرموت، وفي يناير 1954 بدأت السلطات الانجليزية بوضع مداميك اتحاد فيدرالي يضم المحميات الشرقية والغربية لمستعمرة عدن وآنذاك انطلق التمرد القبلي ضد التواجد البريطاني في إمارة الضالع حيث لقي مستر موندي وهو مسؤول رفيع في عدن وكان في زيارة الضالع مصرعه إثر هجوم مسلح أودى بحياته وفي هذه الأجواء تصاعد الحراك المدني والنقابي حيث تم تأسيس المؤتمر العمالي وهو اتحاد ضم 26 نقابة عمالية ومهنية وقد تولى قيادة الحركة العمالية، دخلت المواجهات الميدانية مرحلة متطورة بعد تصاعد العمليات في منطقة الازارق في الضالع وتدخل الطيران لقصف عدد من القرى وارسال قوات إسناد الى هناك، أما في عدن فقد تصاعدت الاحتجاجات السلمية حيث شهدت المدينة في ابريل 1957 إضرابا عاما شمل كافة القطاعات الإنتاجية والخدمية بسبب الغلاء وتدفق الهجرة الأجنبية بتشجيع من السلطات مقابل وضع قيود لدخول أبناء المحميات.

أعلنت بريطانيا في فبراير من عام 1959 تأسيس اتحاد إمارات الجنوب والتي أعقبها انتخاب المجلس التشريعي الذي لم يتجاوز عدد أعضاءه 23 عضو قرابة نصفهم جاءوا بالتعيين  وحاولت السلطات تهدئة الشارع وتغيير توجهاتها وفقا للمستجدات في ظل مناخ الرفض عن طريق الاستمالة إلا أن العداء وصل أوجه مع دخول عقد الستينات فدشنت مظاهرات شعبية عارمة مناهضة للوجود الاستعماري

كان انقسام قوى الثورة عاملا مؤثرا أدى إلى تراجع الأداء وانسداد أفق المشروع الوطني لهذا فقد تم بذل جهود مكثفة من أجل توحيد الرؤى وتنسيق العمل والسير نحو إطار موحد يجمع كل الفصائل التي ناصبت الاستعمار العداء بمؤازرة شعبية ضخمة وكان اندلاع ثورة سبتمبر في شمال اليمن عاملا مساعدا لتمهيد الطريق نحو وحدة القوى الوطنية فقد تم عقد مؤتمر القوى الوطنية اليمنية في صنعاء بحضور أكثر من 1000 شخصية سياسية واجتماعية ومستقلة الى جانب عدد من الضباط الأحرار وقادة من حركة القوميين العرب وقد خرج المؤتمر باتفاق لتوحيد الفصائل في جبهة موحدة وفي مشاورات لاحقة تم دمج سبعة تنظيمات سرية في إطار الجبهة القومية منها منظمة الطلائع الثورية عدن ومنظمة شباب المهرة وجبهة الاصلاح اليافعية ( تشكيل القبائل)

وعلى هذا أصبحت الابواب مشرعة من أجل خوض نضال مسلح ضد الإنجليز وكانت ردفان هي شرارة الثورة الأكبر بقيادة راجح لبوزة الذي استشهد مع مغيب شمس 14 اكتوبر 63 وقد رد الاستعمار بوحشية من خلال استخدام الطيران وقصف القرى والمساكن بشكل مكثف

سعت بريطانيا الى اتفاق يحفظ مصالحها الاستراتيجية في الجنوب من خلال محاولة عقد المؤتمر الدستوري إلا أن الوفد تعرض الى هجوم مسلح قبل مغادرته الى لندن

ومع ازدياد ضغط الثوار وتنوع العمليات الفدائية ضاق الخناق على السلطات الانجليزية وحوصرت قواتها في أكثر من موقع وشعرت أنه لابد أن تخرج من المازق الذي تعيشه في ظل مناخ عدائي يزداد بمرور الوقت ..رضخت بريطانيا لمطالب الاستقلال وبدأت في إجلاء قواتها حتى تم إعلان الاستقلال في نوفمبر 1967 حيث قامت جمهورية اليمن الجنوبية برئاسة قحطان الشعبي

كان التأثير الدولي حاضرا في باكورة الاستقلال ووجد مساحة من النفوذ في بنية الدولة الفتية كما كانت ايدي الثوار على الزناد والتشكيلات الكفاحية المسلحة حاضرة في المشهد بافكارها المتعددة والمتنوعة حول الدولة وكيفية بناءها وادارتها واختلفت وجهات النظر مابين التطرف والاعتدال والحماس والتعقل

الوجود المصري الذي يستلهم التجربة الناصرية كان يجد ميلا واضحا إلا أن موسكو ايضا والنهج الاشتراكي فرض نفسه بالتدريج

أفضى التنازع إلى سلسلة من الأحداث التي طغت عليها الحماسة والتطرف فقد تم إزاحة قحطان الشعبي ورعى الطرف المنتصر اندلاع انتفاضة اجتماعية  أسهمت في تغيير الواقع الاجتماعي وتغيير المعادلة راسا على عقب وصدور قانون الإصلاح الزراعي والتاميم وغيرها من الإجراءات التي أحدثت تغييرات جوهرية وفي نفس الوقت تركت ندوبا في وجه الثورة ومشروعها غير أن أكبر انجاز للدولة الوليدة هو توحيد كامل مساحة البلاد في إطار دولة مركزية واحدة تدار من عدن

كان صراع 68 بين قوى الاعتدال والمتحمسين للنهج الثوري حاسما في تحديد التوجه القادم للدولة فاتخذ النظام في عدن سياسة صدامية تجاه المحيط الخليجي مما دفع بالجيران الى احتضان القوى المهزومة في المعركة.

كان سالم ربيع علي يتمتع بكاريزما قيادية  منحته كثير من التعاطف فقد كان بسيطا وثوريا من الطراز الأول اتسمت مرحلته الأولى في سدة الحكم بتغييرات جوهرية حيث صدر قانون تأميم الشركات ثم قانون الإصلاح الزراعي ووضع خطط تنموية أدت إلى تحسن الوضع المعيشي للمواطن . غير أن الرجل لم يكن متحمسا لفكرة بناء حزب طليعي ربما بسبب تأثره بمرحلة الطفولة التي عاشها في بنية اجتماعية ريفية تقليدية أثرت على شخصيته وايضا بسبب شعوره أن هذا الحزب ذو المنحى الايدلوجي قد يسحب بساط القيادة منه خاصة أنه لم يكن يحب التنظير ولم يحظ بتعليم كاف وهي الورقة التي امتلكها أقرانه . كان الشعب مغيبا تماما وكان سالمين هو المعبر عن الشرعية الوطنية والثورية في آن معا

قدمت الدولة الجنوبية نموذجا مغايرا أحدث تغييرات جذرية فقد أنشأت الدولة المصانع والمزارع وملكت الفلاحين واهتمت بالتعليم الذي كان مجانيا وقدمت خدمة صحية مجانية وساعدت التعاونيات وقطعت المرأة شوطا كبيرا نحو نيل حقوقها وفرضت الدولة هيبتها ونفوذها من أقصى البلاد إلى أقصاها كما ابتعث الطلاب إلى الخارج وخاصة الى دول اوروبا الشرقية ويمكن القول إن البلاد عاشت عصرها الذهبي الذي وصلت فيه إلى أوج ازدهارها وقوتها فقد تم بناء مؤسسة عسكرية وطنية على درجة عالية من الانضباط والتدريب

الا أن أبرز المآخذ على ذلك النظام يمكن اجمالها في التالي :

_ديكتاتورية التنظيم الواحد الذي سيطر على الفضاء العام وازاح اي صوت مغاير

_ اصطدام النظرية الاشتراكية بالواقع الاجتماعي التقليدي الذي يقوم على أسس المجتمع الزراعي والطبقي مما أدى إلى ممارسة أعمال عنيفة ضد القوى الاجتماعية المسيطرة آنذاك

_ دورات الصراع بين قيادات الدولة على السلطة

انبثق عن جمهورية الاستقلال وجدان شعبي مليء بالحماس والتضحية من أجل الشعارات ولازال الحنين الى ذلك العهد مغروسا في عقول قطاعات شعبية واسعة ترى في ذلك النظام صون الكرامة والاكتفاء الاقتصادي والقيم الثورية النقية ولازال كثير من الجنوبيين يتغنون باثار تلك المراحل .

تم إزاحة سالمين في العام 1978 بنفس الطريقة التي أطاحت بالشعبي وهذه المرة عبر انقلاب انتهى بمصرعه وهنا كان الشعب وإرادته وتعاطفه مع الرئيس خارج المشهد وخارج الحسابات وشهد ذلك العام اعلان الحزب الاشتراكي اليمني الذي بقي حاكما حتى جاءت احداث يناير فتصدعت الدولة بأكملها وترافق هذا مع تغييرات دولية أفضت إلى سقوط المعسكر الاشتراكي وانتصار الرأسمالية

الاخماج والميكروبات الجهوية أدت إلى مذبحة مروعة في يناير 1986 حيث قتل الآلاف في عدن وفي ساعات قليلة تم محو كل انواع التعبئة الوطنية والتربية النضالية التي واظبت الدولة على تلقيح المواطن بها .

اهتز الوطن واهتزت المنطقة العربية لتلك المأساة

التي أثرت فيما بعد بشكل عاصف في مفهوم الولاء الوطني وثبات الجبهة الداخلية وأدت إلى ضعف كبير في المؤسسة العسكرية وفي القيم المعنوية الناظمة لفلسفة الدولة واستيقظت القيادة الجنوبية على مشهد مخيف في أعقاب المعركة حيث تحطم كل شيء وهرب الطرف المهزوم الى صنعاء والمؤسف أن أطراف الصراع لازالوا يعبرون بشكل أو بآخر عن مواقفهم السياسية ولهم أنصارهم في الداخل ويسهمون في مجريات الحياة السياسية اعتمادا على إرث مزدحم بالولاء المناطقي وخاصة في مرحلة الحراك الجنوبي

حاول نظام عدن أن يحرك المياه الراكدة فأطلق وثيقة للإصلاح السياسي والاقتصادي مع متغيرات دولية لم تكن في صالح المعسكر الاشتراكي الذي تهاوى . آنذاك  طرحت فكرة الوحدة الفورية مع شمال اليمن مجددا وفعلا جرت الأمور بشكل سريع وكان الموقف و متوائما بشكل عاطفي ومن دون دراسة منطقية وعلمية لهذا القرار المؤثر

مايو 1990 شهد اعلان الوحدة الاندماجية لتذوب الشخصية القانونية للدولة القائمة في الجنوب . وكانت المرحلة الانتقالية هي بداية عملية التصفية لأبرز القيادات والعناصر في صنعاء كما أن أول انتخابات نيابية لم تكن سارة للجنوبيين كما سيطرت النزعة الجهوية على ميول الناخبين فحصل الحزب الاشتراكي على أغلبية المقاعد في المحافظات الست وخسر دوائر الشمال الاكثر عددا.

الشعور العارم لدى الشارع الجنوبي أن قيادته تقفز من مغامرة الى أخرى أدى إلى إحباط كبير اثر على مجريات حرب 94 التي تم عبرها اجتياح الجنوب وكان الطرف المهزوم في يناير على صهوة الدبابة التي اقتحمت عدن ومن هذا نلاحظ :

_ ضعف القدرات الدبلوماسية للجنوبيين في مرحلة الحرب وفشلهم في إيجاد اصطفاف مؤثر لصالحهم

_ اتضح مدى خطورة العامل المناطقي ولعبة تصفية الحسابات بين أطراف الصراع في الجنوب

_ بسالة واقدام المواطنين في الجنوب في صد جحافل العدو رغم ضعف القيادة يؤكد مدى تأثير التحشيد الشعبي من أجل الدفاع عن الوطن، كانت مرحلة ما بعد هزيمة 94 هي الأسوأ حيث تم تسريح الجهاز المدني والعسكري وتم استيراد نمط الحياة والإدارة في الشمال مما أسهم في تراجع خطير على كل الأصعدة حيث تدهور التعليم والصحة والخدمات وسادت البطالة والفقر والثارات القبلية والفساد المالي والإداري وتوغلت الجماعات الدينية المؤدلجة.

 وفقد الجنوب طابعه المدني ذو الفهم المعتدل والوسطي للدين كما تم معاملة الجنوبيين بروح دونية صريحة كمواطنين من الدرجة الثانية بسبب اختلاف نوعية النظام السياسي والاجتماعي والاقتصادي في البلدين واختلاف الثقافة ونمط الإدارة فقد واجهت الوحدة مخاضا عسيرا أدى إلى إجهاض مشروعها  .

ظهر في الجنوب مزاج شعبي رافض للهزيمة التي ألقت باثارها الكارثية فساد الاحباط واليأس والاحساس بالضياع والغربة والشعور بالدونية فانطلقت الأصوات التي تعبر عن خيبة الأمل في مشروع الوحدة وتدعو إلى عدم الرضوخ وإصلاح المسار والتغيير تمثل هذا في أنشطة سرية وعلنية مناهضة للوضع القائم فانشئت حركة موج التي دعت إلى مواصلة النضال من أجل استرداد الجنوب ثم ظهرت حركة مسلحة تحت مسمى حتم في العام 1998

مع ظهور الحراك السلمي الجنوبي كان الغضب الشعبي قد وصل إلى الذروة ورغم القمع من قبل السلطة فقد كانت الفعاليات تشهد حضورا كثيفا لم يسبق له مثيل في تاريخ الجنو

كان الشباب في قلب الاحتجاجات هم التيار الاكثر حماسا وفاعلية وحضورا وتضحية فتم أنشأ اتحاد شباب الجنوب لتاطير نضالات الشباب وتنظيمها ثم حدث انشقاق لاحق فتم تشكيل الحركة الشبابية والطلابية .

يعبر الحراك بشكل كبير عن مصالح الأغلبية الساحقة من أبناء الجنوب من الطبقات الدنيا والوسطى والمثقفين والشباب والنساء وضحايا الصراعات والمسرحين من وظائفهم لكن الخطاب الوردي الذي قام البعض بتسويقه انجلى عن غبار مع بقاء الوضع كما هو عليه رغم التضحيات الباهظة.

كانت الفجوة الواضحة بين الشارع والقيادات الفاعلة سياسيا اهم عوامل التراجع فقد كان الخطاب الشعبي ذو الطابع الثوري البسيط  سابقا على الفعل السياسي المحنك كما لم تحتفظ القيادات بمسافة للتمييز بين طرحها وطرح قادة الاحتجاج في الشارع

كانت المطالب في بداية الحراك تدعو إلى :

_ إعادة المبعدين المدنيين والعسكريين الى أعمالهم ورفع الظلم عنهم

_ استعادة شراكة الجنوب في السلطة والثروة بعد أن أصبح خارج المعادلة وتم الهيمنة عليه

_ وقف عسكرة المدن وإطلاق المعتقلين على ذمة فعاليات الحراك وفي طليعتهم حسن باعوم الذي كان أيقونة الثورة وملهما حقيقيا للغضب الجماهيري خاصة بعد اعتقاله ومحاكمته في صنعاء وعدم اعترافه بشرعية المحكمة

لم يمر وقت طويل حتى أعلن المجلس الوطني وبشكل مفاجئ أن الوضع القائم في الجنوب هو احتلال عسكري وبهذا تغيرت شعارات الحركة الثورية الى شعار التحرير والاستقلال واستعادة دولة الجنوب

كانت المظالم المهولة ضد الجنوبيين محفزا رئيسيا يغذي الحراك ويزيده عنادا وصلابة رغم التعتيم الإعلامي الواسع فقد تم نهب مساحات شاسعة من الأراضي لصالح قيادات شمالية متنفذة وتسريح الجهاز الإداري المدني ومحاصرة المواطن في مصادر رزقه وازداد الوضع المعيشي سوءا واثيرت تساؤلات كثيرة على عمليات فساد كبرى في قطاع النفط في ظل إنكار من قبل نظام صنعاء وتمادي في القمع والقتل وإطلاق الرصاص الحي على المتظاهرين الذي أسفر عن سقوط مئات الشهداء والجرحى.

الحراك الجنوبي بماهو حركة احتجاج عفوي وعاطفي غير مسيس شهد تعبئة خاطئة أثرت على مسيرته حيث تم نشر ثقافة الكراهية للشمال وساد الخطاب التحريضي والشعبوي الذي يتعامل مع قوانين السياسة باستسهال وبساطة ولازالت الشوفينية حتى اللحظة تمارس بمثابرة ضد كل ماهو شمالي بدون تفريق وبسبب عدم وجود قنوات توعية حقيقية وأساليب تواصل مجدية بين النخبة والشعب كان الضغط الشعبي هو الذي يسيطر على إيقاع التحرك السياسي مما أدى إلى تحجيمه وعرقلته في احايين كثيرة ..لكن من أبرز مكاسب الحراك انتقال كتلة جماهيرية لايستهان بها من الأزمة الوجودية الى الرفض الغاضب للواقع والرغبة في التحرك من أجل تغييره حتى وإن كانت معالم التغيير غير واضحة تتكون هذه الكتلة من أشخاص ازدهر لديهم العامل الذاتي فانطلقوا يتحدثون بثقة النفس وشجاعة الرأي وإحساس بالمسؤولية وانتج هذا نشر روح التمرد ضد السلطوية ورفض قاطع لكل الحلول الموروثة والأفكار التقليدية والزعامات وتكونت عبرها طليعة ثورية تمتلك الاصرار للوصول إلى المحطة الأخيرة

احدى تجليات الحراك هو سعي أبناء الجنوب هو سعي أبناء الجنوب إلى المصالحة اولا للتفكير في وضع أسس للمستقبل وفي أجواء صمت تلف المنطقة لم يكن احد يصدق أن شعب ما في الجغرافيا العربية بإمكانه الخروج بشكل سلمي وبهذا الحجم الى الشارع للمطالبة بحقوقه وفعلا انتشر المد الشعبي الجماهيري من عدن الى بقية المحافظات في الجنوب وبمبادرات شعبية في ظل غياب قيادة موحدة ودعا البعض إلى عودة البيض باعتباره آخر رئيس قبيل الغزو ودعا البعض الآخر إلى قيادة جديدة فتم إعلان حركة النضال السلمي نجاح والمجلس الوطني ثم تعددت المسميات وتشعبت وزادت الانقسامات ورغم كثافة الضغط الشعبي والمبادرة الجماهيرية في الفعاليات إلا أن نشاط الحراك تحول إلى فعاليات موسمية وكان أبرز إنجازاته ملتقيات التصالح والتسامح التي دشنت من جمعية ردفان والتعبئة الوطنية التي احرجت المتسلقين لكن الدعم الخارجي بقي غائبا أو مشروطا .

لاشك أن الحراك الجنوبي كحركة جماهيرية عفوية وغير منظمة كانت عرضة لاختراق كبير تسبب في عرقلتها وبقاءها في العتمة وانقسامها سواء بتاثير أجهزة الدولة العميقة في صنعاء أو المشاريع الخارجية المؤثرة

كانت الدعوة إلى مؤتمر جنوبي جامع هي اخر الدعوات لتوحيد الصف إلا أن الرغبة في الاستحواذ والانتقاء أسهمت في واد تلك الفرصة قبل ذلك انقسمت النخب الجنوبية إلى فريقين : فريق يتبنى الاستقلال التام من دون رسم برنامج يوصل إليه معتمدا على سيناريو افتراضي يقتنع فيه العالم بنهاية الوحدة واجبار صنعاء على الرضوخ لمطالب الجنوبيين والفريق الآخر يدعو إلى الفيدرالية التي تستعاد عبرها المؤسسات ثم المطالبة باستفتاء شعبي وكان هذا الفريق فاعلا اكثر في الأروقة الدبلوماسية ونجح في عقد مؤتمر عام في العاصمة المصرية القاهرة ابرز فيها برنامجه وتوجهاته. في العام 2011 أدت احتجاجات الربيع العربي إلى وصول شرارتها الى صنعاء فخرجت الجموع تطالب برحيل الرئيس علي عبدالله صالح واسهم هذا في غربة انصار الاستقلال و توحيد المطالب لأسابيع قليلة قبل أن يتم إبرام صفقة بين الأحزاب والسلطة والتوقيع على المبادرة الخليجية فعادت الجماهير في عدن والجنوب الى مطلبها الرئيس بانفصال الجنوب عن الشمال وانهاء الوحدة اليمنية. تعرضت محافظة أبين الى غزو تنظيم أنصار الشريعة وتم تهجير سكان المدينة وتدميرها بالكامل كما شهدت لودر وعزان الى نفس المصير وهنا كان الحس الشعبي بضرورة المقاومة والدفاع عن النفس ابرز العوامل في التصدي لتلك الهجمة فتم تشكيل لجان شعبية قامت بدحر التنظيم وكانت تلك اللجان هي النواة الأولى لعملية الكفاح المسلح بالإضافة إلى اللجان المشكلة في الضالع والتي قادها عيدروس الزبيدي

ذابت كل الصراعات والانقسامات الجنوبية في محنة غزو الحوثي للمناطق الجنوبية فخرج الناس من تلقاء أنفسهم وبشكل غير منظم للدفاع عن مناطقهم رغم خذلان حكومة الشرعية وانتهج التحالف العربي سياسة دعم المجاميع العشائرية في الريف والجماعات السلفية في المدن تعتبر الطريقة السلفية مدرسة حديثة في الجنوب الذي احتضن الفرق الصوفية لأزمنة طويلة إلا أن ظهور المدارس الدينية التي تقوم بتدريس المنهج السلفي أدى إلى انخراط أعداد كبيرة من الشباب في هذا التوجه الجديد في ظل الصراع المذهبي المحتدم في المنطقة

تقوم اركان المذهب السلفي على العودة لتعاليم الاسلام النقية وتقديس النصوص والزهد والتقشف وعدم معارضة ولي الأمر ورأى كثير من شباب الجنوب أن هذه التعاليم تضخ دماء جديدة في المشهد وتملا الفراغات وتجيب عن الأسئلة التي تدور في أذهانهم باعتبار السلفية منهج سني اصيل ونقي يملأ جوانحهم بالروحانية والصفاء ويعد منهج حياة يخرج المجتمع الجنوبي إلى أفق جديد وحياة جديدة استطاعت المجاميع السلفية تحقيق قفزة هائلة في المشهد بعد أن خاضت معركة ضروس ضد الحوثي بالإضافة إلى المقاومة الجنوبية واسهمت في تحرير عدن وعدد من المناطق الجنوبية وزادت شعبية التيار السلفي مع تأييدهم العلني لقيام دولة سنية في الجنوب تحترم خصوصيات المجتمع الجنوبي. شهدت عدن أصعب مراحلها في أعقاب الحرب الأخيرة فقد تم تدمير المدينة وتهجير أعاد كبيرة من السكان وخلفت الحرب في عدن آلاف الشهداء والجرحى والمخفيين في ظل غياب ابسط مقومات الحياة وانتشرت الجماعات المتطرفة وانتشرت أعمال النهب والاغتيال حتى وصل الأمر إلى اغتيال محافظ عدن اللواء جعفر محمد سعد في وضح النهار.

 

----------------------------------------------------------------------------

ورقة مقدمة من عدد من نشطاء حركة مصير لمناقشتها من قبل القوى السياسية الجنوبية (1_3)

الإهداء: الى روح امين صالح