دروس من الماضيين البعيد والقريب..

قراءة تحليلية: هل "الغرب" مسؤولون عن النكبات العربية؟

إنّ الانتصار الصعب للمقاومات، المكلف في بيئتها وأوطانها،  لن يكون  إلا بإنهاء الاحتلال

ملحم سلمان

في الاختراق الفكري، وهو الأخطر، اقنع الفكر العنصري الغربي عدداً هاماً من أهم مفكري عصور النهضة العرب، بأن مسار الحداثة الوحيد، هو المسار الغربي الراسمالي، غافلين ان هذا المسار "انتعش" نتيجة قرون من احتلالات ومن نهب موارد  العالم الثالث.

 ان الضياع بين الصيغة الغربية لقومية عربية قبلية عنصرية، و"للأسلاميات الغربية " التي اخفت البعد الحضاري للعروبة وللقيم الأسلامية  وبأن الدين هدفه سعادة الانسان، وانه اعطى الاولوية للعدل (العدل اساس الملك)، كما أكد اهمية التعددية وضرورة الوسطية وواجب الشورى ومسؤولية الحاكم نحوى المجتمع، اخيراً وليس اخرا، فرض ضرورة التحرر على المؤمنين والمؤمنات. هكذا انحرفت بوصلة العرب في اتجاهات مضلله ودفعنا اثمان عواقبها من تسلط وانقلابات احادية الغت الرأي الآخر، وعمالة وفساد دفعت الامة اثمانها غاليا ولم تزل!.

 بعد عقود من التضليل الفكري، والديني، والقومي الذي قاده الاستعمار الغربي والذي افقدنا قدرة توجيه البوصلة نحوى تحرير الإنسان، تحرير العقل، تحرير الارض بمواردها الطبيعية، آن لنا ان نقوم ضياع المسار الذي تملك اغلب الناس.

خلال فترة  سقوط فلسطين، بدعم من الغرب والدعم المباشر من الاستعمار البريطاني، الذي أوجد مؤسسات إقليمية كجامعة الدول العربية لتضليلنا ومنحنا الشعور بالقوة غير الموجودة من أجل استعادة فلسطين...  وحيث بعد عقود، تبين لذوي الالباب العرب انها مؤسسات ساهمت في خداعنا بمعاهدات بقيت حبر على ورق، وبمؤتمرات قمة فارغة استعراضية، واعطت إسرائيل كل الوقت والامان لتعزيز احتلالها وتوسيع مستوطناتها والاستمرار في محاولات سحق الهوية الفلسطينية.

لقد ساهم الغرب في تحويل مؤسسات نضالية كمنظمة للتحرير الفلسطينية، إلى اداة لقمع مقاومة الاحتلال، في ظاهرة نادرة من تاريخ الإنسانية، ولتعزيز الانشقاقات ضمن كافة الفصائل، وقبل ذلك كان الاستعمار نفسه قد مهد الطريق ونجح في تسويق قومية عربية قبلية مذهبية، اول قراراتها كان الاعتراف للصهاينة في وطن قومي في فلسطين (الشريف حسين) وتقسيم فلسطين (امارة شرق الاردن). كما نجح في طرح مفهوم مضلل للعالم الاسلامي،  مفهوم باطنه ومقصده عنصري. فلقد وضعوا  كل من ليس من العالم الغربي في سلة  واحدة (الذين ليسو منا). ومرة اخرى وقعنا في الفخ، فتمّ انشاء منظمات ومؤسسات ومصارف "اسلامية" اغلبها، كي لا اقول كلها، هي اليوم تخدم السياسات الغربية وظاهرة الانبطاح التطبيعي.

لقد اكدت الايام أنّ لا مؤسساتنا "الوطنية" ولا مؤسساتنا الإقليميه قادرة او راغبة في اقامة المجتمع العادل ضمن اطار مشاركة تحترم الاختلاف في الرأي وتسعى نحو حداثة و نحو استقلال سياسي واقتصادي ضمن اطار مجتمع تعددي حر.

اكدت التطورات السياسية والاقتصادية في محيطنا العربي، بعيدا عن تورط الانظمة، ان العكس هو الحاصل، أصبحنا اسرى احاديات تعسفية قمعية همّها ارضاءالمستعمر ليحميها، وليقينها انها لا تملك اي شرعية لحكمها.

قام المستعمر، امعاناً في تفتيت مجتمعاتنا، بإيجاد مجموعات تكفيرية، موّلها وسلّحها، فأدخلت عنفاً ودموية لم تعهدها مجتمعاتنا من قبل. فغياب وسائل التغيير السلمي او اجهاضها ان وجدت في نصوص دستورية معلنة انما غير مطبقة، ابقى الوسيلة الوحيدة لمحاربة كل هذه المآسي هي "مقاومات وطنية" محترفة للحفاظ على الهوية الوطنية ولحماية النسيج الوطني الجامع. وبالفعل، افرزت مجتمعاتنا حركات مقاومة ضد الاحتلال وضد الاحادية والاستبداد وضد الفساد السياسي والمالي الذي اذلّنا وافقرنا رغم ثرواتنا الطبيعية الهائلة.

لكنّ شراسة وعمق هذا المخطط الاستعماري المتعدد الابعاد في فلسطين والعراق سوريا واليمن ولبنان، حتّمت  التعاون والتنسيق بين قوى التحرير والتغيير في  مجتمعاتنا. فالمستعمر الشرس مستمر باذلالنا ونهب ثرواتنا وبث بذور التفرقة بيننا بمعظم البلاد العربية. العدو نفسه للهدف نفسه ألا وهو نهبنا وتفتيتنا لافراغ الساحة امام ربيبتهم الصهيونية للسيطرة على العرب وفرض التطبيع عليهم.

يحاول الغرب المستعمر الآن خلق عدو وهمي هو إيران لأنها ملئت الفراغ الناتج عن تخلي الانظمة والمؤسسات العربية الرسمية عن دورها في التصدي للهيمنة الامريكية، لا بل ان  اغلبها اصبح متعاون مع هذا الغرب، هذا " الغرب" الذي ساهم وما زال يساهم في دعم الارهاب التكفيري في العراق وفي سوريا، ويريد ان يعاقب ايران لفرضها توازن رعب مع العدو الصهيوني لأول  مرة في تاريخه الاستيطاني التوسعي.

في وضع كهذا، لا يمكن التعامل مع التحديات التي تتعرض لها حركات المقاومة في العراق وسوريا واليمن ولبنان بشكل منفصل، وان كان لكل منها خصوصيته، فهذه المقاومات تتصدى للعدو نفسه، الذي ورّط  "الحلفاء" من الإقليميين في الغزوات والاحتلال وتسليح المتطرفين الأصوليين.

  ان المقاومات المختلفة كلها هي استمرار لسبل التحرر الوحيدة من أولئك الذين اغتصبوا ثرواتنا الوطنية ودعموا الأنظمة الاستبدادية  والفاسدة  التي تواصل اذلال ونهب شعبنا، ونهب موارده، مرة باسم إسلام مشوه، ومرة ​​أخرى من خلال قومية عربية عنصرية مشوهة التي لا علاقة له بالعروبة التحررية التقدمية التي أشعلها الرئيس جمال عبد الناصر. وعلاوة على ذلك، وكما تؤكد الحقائق والتصريحات الأخيرة للسيدة هيلاري كلينتون، فإن هذه القوى الاستعمارية نفسها هي التي شجعت وموّلت ودرّبت الأصوليين الدينيين لكبح امكانية مساهمة التركيبة الوطنية "الهشة"، ولزيادة إضعاف شعبنا.

هنا لا بد من سرد حقائق مرة عن دور انظمة عربية لبست قناع عروبة مزيف وساهمت في تحويل الأولويات العربية لتحرير الانسان العربي وتحرير الارض المغتصبه إلى مغامرات حرب وغزو اعادتنا عقوداً إلى الوراء
 
كغزو الكويت غير المبرر وكالحرب المدمرة التي استمرت عقدًا من الزمان على إيران بكلفتها الباهظة بشرياً ومالياً، والتي اضافت بعدًا إضافيًا ساعد في محاولة نسف الروابط  التاريخية والاقتصادية والدينية بين شعوب المنطقة، كما إنها وفّرت لإسرائيل "الشرعية" التي هي بأشد الحاجة إليها: "انها ليست الوحيدة التي تحتل وتعتدي "!.

لقد ساعدت هذه الانحرافات التاريخية الخطيرة من قبل طغاة عرب (محافظين وثوريين)،  إسرائيل على تعزيز الظلم والانتهاكات، كما ساهمت في الانحراف العربي عن القضية المركزية الممثلة في حق الفلسطينيين في  استرجاع أرضهم وتقرير مصيرهم.

 لقد استخدمت الولايات المتحدة وحلفاؤها الاوروبيين والإقليميين المعلومات المشوهة وتصنيف كل من يقاوم بأنّه " ارهابي" وتعميم الرشاوى وتأجيج التمرد الداخلي لإشعال المواجهات  الطائفية والعرقية حتى تستمر  في اذلالنا وفي  سرقة مواردنا الطبيعية. ولا بدّ من التذكير بأن من خلقوهم واسموهم "جهاديين عرب وأفغان" هم من ادخل الارهاب الى مجتمعاتنا، وسيبقون  معنا وحولنا إلى ان  تجعلهم المقاومة يدفعون الثمن الذي لا يتحملونه.

إنّ الانتصار الصعب للمقاومات، المكلف في بيئتها وأوطانها،  لن يكون  إلا بإنهاء الاحتلال،  وبداية مرحلة أكثر صعوبة في حياة الأوطان، وهي إعادة بناء الحياة الاجتماعية والاقتصادية، وإعادة هيكلة الحياة السياسية، والتغلب على الفقر والعمل لتحسين وضع المرأة وحقوق المواطنة  في إطار نظام قائم على العدالة والمشاركة.. وهذه مهمة صعبة للغاية طبعاً. ففي الوقت الحاضر، يمكننا بسهولة أن نشهد صعوبات إعادة الإعمار وإعادة بناء كيان سياسي مستدام في كل من اليمن والعراق وسوريا ولبنان.

لقد علمتنا دروس التاريخ أنه كلما كان الكيان أصغر، كان تعامله أضعف مع الصعوبات الخاصة به، وبالتالي الحاجة الأساسية للترابط الإقليمي القوي. ليس العرق أو الدين هو الذي يبرره، بل هو صراع البقاء والمنطق الاقتصادي السليم. أوروبا، وبعد حربين عالميتين وملايين الضحايا، توحدت تدريجياً في إطار اتحاد ديمقراطي تعددي.

لا أفهم لماذا يفرض علينا الأمر مختلفًا في منطقتنا ؟ فقد خاضت أوروبا والعالم حربًا عالمية لتخليص المانيا من فكرها العنصري النازي، وللتحرك نحو التعددية الديمقراطية وتقليل الظلم الاجتماعي في ظل حكم القانون.

لدينا تحديات بالغة الصعوبة في منطقتنا، نحن بحاجة إلى تحرير شعبنا من الاحتلال، ومن الطغاة الفاسدين، ومن العنصرية الجاهلة، ومن الظلم الاقتصادي والاجتماعي، ومن الأصولية الدينية العنفية، التي شوهت القيم الروحية الإسلامية المتمثلة في العدالة والتعددية والمساءلة والمشاركة ضمن حكم وسطي متناوب. مفهوم الدولة في الإسلام يؤكد الحاجة إلى تغييرات في الحكم مستمرة داخل المجتمع كما يعكسه مفهوم الدولة (التداول والدولاب)، ومفهوم الأمة ليس تفردًا للمسلمين، بل هو أخوة بين جميع الجماعات الدينية والعرقية داخل الأمة الواحدة.

نحتاج  إلى الاستفادة من إخفاقات الغرب والرأسمالية رغم استنزافها للعالم الثالث خلال قرون، من موارده البشرية والطبيعية، ورغم تراكم ثروات "مسروقة" لا يمكن تصورها حجمها للسماح له بتأسيس مجتمع "عادل" لمواطني الغرب فقط!.

ان اضمحلال موارد الدول الغربية فضح الفجور والعنصرية وازدواجية المعايير في التعامل مع الشؤون العالمية، ولم تتغير قسوة هذه الدول وغريزة بعضها للعدوان مع مر السنين.

في رأيي، السبب هو أنّ كلاً من الرأسمالية والشيوعية جردوا أنفسهم من القيم الروحية التي تساعد في تهذيب السلوك البشري.

آمل أن تستخدم مجتمعاتنا في رحلتها الصعبة لبناء كيان سياسي مستدام متسلحا بالقيم الروحية الاسلامية و المسيحية، كبوصلة للعدالة والمساواة والتناغم الاجتماعي.

هذا التوجه الصائب لا يتطلب أي قانون ديني، ويمكن أن يتم من خلال قانون مدني  يعزز المساواة القانونية في الحقوق والواجبات بين المواطنين بغض النظر عن دينهم و اعراقهم، كما يعزز المساواة القانونية بين الرجال والنساء.

نداءٍ إلى المقاومة التي حررت بدماء الشهداء لبنان من الاحتلال الصهيوني ومن المتورطين معه. فالحصار المفروض على كل من سوريا ولبنان وتداعياته الداخلية من فقر وبطالة وانهيارات اقتصادية واجتماعية، قد اكّد تحالفا وثيقا بين اهل النظام المذهبي الفاسد المفسد، وبين المصارف وبين المحتكرين. كما اثبت ان عقوداً من الفساد قد نخرت في عظم النسيج الاجتماعي واعادتنا قبائل وملل تتناحر في غياب توافق على هوية تجمعنا.

إنّ تمكن المقاومة من كسر الحصار الامريكي/ الاوروبي/ الإسرائيلي، يعزز الثقة فيها ويُشجّع على تغيير النظام الذي ذلّ اللبنانيين وارهقهم. انه نظام يلوّث كل المتواجدين ضمنه، هو نظام افسد حتى ضحاياه بتخليه الكامل عنهم في زمن الحصارات.

 آن الاوان للمقاومة الشريفة ان تقود جبهة وطنية تعددية لتغيير النظام الفاسد.

كل مكونات ومتطلبات التغيير الحتمي متواجدة ضمن مبادئ الدين الحنيف وقد مارسها الصحابي سلمان الفارسي في تطبيقه ضمن العراق في اول عقد اجتماعي مدني جامع، لكافة فعاليات المجتمع على اختلاف مللها، حيث ضمن العقد الحقوق والواجبات ونظّم اصول المشاركة والمحاسبة وعزّز نظام القضاء المستقل. ومن سخرية القدر أنّ الغرب، وبعد مئات السنين، تبنى مبدأ العقد الإجتماعي بعد ان طرحه جان جاك روسو بدون ذكر المصدر كعادات الغرب المتكررة. آن لنا ان نستفيد من تراثنا!.