قصة قصيرة..

عندما يبكي الرجال (2)

حياته مليئة بالجراح والألم - أرشيف

د. علوي عمر بن فريد
كاتب وباحث تاريخي جنوبي يكتب لدى صحيفة اليوم الثامن

كانت حياته مليئة بالجراح و الألم , نشأ "راكان " يتيماً حرم من أبيه في سن مبكرة من حياته عندما كان في الرابعة من عمره ..
يتذكر طيف أبيه .. يمر أمامه كشريط سينمائي باهت باللونين الأبيض و الأسود تماماً مثل طفولته أغلب أيامها كانت باللون الأسود ..يكسوها الحزن و الألم عاش في كنف أمه وحيداً.. حيث كانت تمثل كل دنياه و عشه الهادئ والحضن الدافئ الذي يأوي إليه ..
عندما يضربه بعض الأولاد الأشقياء الأكبر سناً منه .. كان القهر يتقمصه بعد أن يتسخ من التراب حينها تتقطع أطرافه عندما يقفز مع زملائه من فوق الأشجار و يتسلقون الصخور .
عاش "راكان" في بيئة جبلية مرتفعة عن سطح البحر ..وفي قرية من قرى عسير تناطح قممها السحاب ..و يمر الضباب تحت نوافذها .. والطقس البارد شتاءً و المنعش صيفاً , أحب " راكان" بيئته الجميلة عندما كان يتنقل مع رفاق الصبا بين الغدران و الشلالات أو اللعب تحت المطر ..و يتسابق معهم في جمع حبات البرد أيام الصيف ..
أو يحاول مع رفاقه عبور السيل في بعض الشعاب الصغيرة .. ليستعرضوا أمام فتيات القرية براعتهم وقوتهم .. عندها يشبكون أيديهم معاً و ينزلون إلى الماء وعينه ترقبها وحدها وهي تراه الأكثر جرأة في مجموعة الشباب بعد أن شب عن الطوق و أصبح يافعاً يخطو إلى الشباب و القوة ..
كانت "فاطمة " ابنة جيرانه معجبة به خاصة عندما أصبح وسيماً و شعره كثيفاً وهو الرشيق الذي أخذت معالم الرجولة و الشباب تتشكل في جسمه وملامحه.
كان خال "راكان" الحاج " منصور " هو الذي كفله بعد موت أبيه وحاول أن يعوضه عن فقد أبيه ولكن هيهات فالأب كما قال منصور لا يحل مكانه أحد ..
كان خاله منصور يعول أسرة كبيرة من النساء و الأطفال ..أمه و زوجته و أخواته و أولاده الذين يزيد عددهم عن عشرة مع ضيق ذات اليد ولكنه لم يبخل يوماً على ابن أخته راكان وأمه بما يقدر ..
ولعل من أهم الأشياء التي كان منصور يحضرها لراكان و أمه في رمضان والعيد من غذاء و كساء وقد ارتبط شهر رمضان وارتسم في ذاكرة راكان حتى أصبح من أحب شهور السنة عنده .. ففيه فرحة الإفطار كل ليلة وليالي السحر الجميلة التي يقضيها مع رفاقه وهم يطلقون الألعاب النارية الملونة ويتجهون إلى مسجد القرية لأداء صلوات المغرب و العشاء و التراويح ..
وكان مع غيره من الصبية يقفون في الصفوف الخلفية عند الصلاة ..عندما يقوم " عبدالله" أكبرهم سناً و أشقاهم .. وهو الابن المدلل الوحيد لأحد التجار ويعبث بالصفوف التي يتراصون فيها ..ويضغط عليهم بجسمه الثقيل يميناً ويساراً حتى يتساقطون أحياناً .. في حين يتسلل "أبو ناصر" وهو رجل كبير السن من خلف الصفوف ويقوم بردع أولئك الصبية ويضربهم بعصا صغيرة من الخيزران ناهراً إياهم متوعداً أن لا يعبثوا ولا يلعبوا أثناء الصلاة ..وكان الصبية يخشونه ويخافون من لسعات عصاه على ظهورهم .. عندما يسمعون فرقعة عصاه على جلود بعضهم سرعان ما ينتظموا ويتجمدوا يتظاهرون بالخشوع ..
ذكريات كثيرة تتزاحم في رأس "راكان" ..كبر راكان وشق طريقه في الدراسة بنجاح وكذلك "فاطمة" حيث يدرسان في المرحلة الإعدادية وكانا يلتقيان في حديقة الورد تحت سفح أحد الجبال في أطراف المدينة خلسة بعيداً عن أعين الرقباء ..
"فاطمة "شابة رشيقة القوام , بيضاء البشرة , شعرها الأسود الطويل ينسدل حتى يصل إلى خصرها .. وجهها يشع نوراً و جمالاً .. تعلقا في بعضهما و أحبا بصدق وإخلاص .. وكانا يتناغيان كعصفورين صغيرين .. يحلمان ببناء عش جميل يجمعهما ذات يوم .
وفي العشرين من رمضان ودع راكان فاطمة حيث توجه مع خاله و أمه وعائلة خاله إلى مكة لأداء العمرة .. وكان وداعهما حاراً و مؤثراً ..ووقال لها أنهم لن يرجعوا إلى قريتهم إلا بعد العيد الصغير حيث سيقضوا تلك الأيام بين مكة و المدينة وجدة في ضيافة بعض الأقارب ..وعند عودته
فوجئ راكان بأن فاطمة و أسرتها انتقلوا جميعاً إلى الرياض إثر خلافات عائلية كبرى مما اضطرت الأسرة كاملة إلى الرحيل عن المنطقة وعندما سأل عنهم لم يستدل على عنوانهم أو مكان إقامتهم في الرياض ..
سكنت "فاطمة" ذاكرة راكان و استوطنتها .. وظل خيالها يعيش معه و يلازمه ليلاً ونهاراً .. وقد انكسر قلبه لفراقها و عانى معاناة شديدة خاصة أنه لم يستطع أن يراها أو يودعها ..
ولكن كما يقول المثل العربي " رب ضارة نافعة " لقد ختم راكان قلبه بالشمع الأحمر و أغلقه على طيف و ذكريات فاطمة فهي الوحيدة التي عزفت على شرايين قلبه و أوتاره فعاهد نفسه على أمرين , الأول: أن ينجح في دراسته حتى يحصل على أعلى الشهادات , و الأمر الثاني : أن يبحث عن فاطمة حتى يلقاها ..
ولكن جهوده باءت بالفشل فكانت كإبرة سقطت في كومة كبيرة من القش..
أنهى راكان دراسته الثانوية و الجامعية و تخصص في الطب " قسم الجراحة "
ثم حصل على بعثة دراسية إلى أمريكا .. وبعد مشوار و معاناة حصل على أعلى الشهادات و تم تعيينه كبير الجراحين في أكبر مستشفى بالرياض و قد حاول خاله و أمه أن يقنعاه بالزواج ولكنه رفض .. وحاولا معرفة السبب ولكن دون جدوى ..
وذات ليلة من ليالي رمضان الجميلة التي لها ذكريات اليمة مع راكان وبعد منتصف الليل جاءته مكالمة عاجلة من المستشفى للتوجه فوراً للضرورة ..
ارتدى ملابسه و قاد سيارته بسرعة وعند وصوله مدخل المستشفى كان الباب مزدحم بسيارات الإسعاف و الأضواء الحمراء و الصراخ و الفوضى يعمان المكان ..
و عربات الطوارئ تنقل العديد من المصابين الذين يضرج الدم ملابسهم و أجسادهم .. وتوجه فوراً إلى غرفة العمليات ولم يكن وحده بل كان معه جراحين آخرين وقد وصلته حالتان الأولى لرجل مسن والأخرى لامرأة وكانت حالة الرجل أكثر خطورة فأحالها إلى أحد زملائه, و قام بمعاينة المرأة التي كان الدم يغطي وجهها حتى لم تعد ملامحها تظهر من نزيف الدم وتحت الأضواء تفرس في وجهها ..
وكانت لحظة عصيبة في حياته تذكرها إنها هي فاطمة وكانت تنظر إليه وعرفته وشدت على يده , و امتلأت عيناها بالدموع .. بل أخذت تبكي .. وهو يبكي بينما طبيب التخدير حضر على عجل ثم حقنها وبدأ راكان بإجراء عملية طويلة ومعقدة استمرت أربع ساعات كاملة من جراء إصابتها هي و أسرتها في حادث سير وهم متوجهون إلى مكة من الرياض ..
كانت الأسرة بكاملها قد تعددت إصاباتهم من كسور و خدوش و تهتكات بين المتوسطة والخفيفة .. أما فاطمة هي الوحيدة التي كانت إصابتها في الرأس
أصيبت بنزيف داخلي في الدماغ .. اختلطت دموع راكان مع العرق الذي يتفصد من وجهه .. كان يقود فريقاً كاملاً من الجراحين و الممرضات لإنقاذها ..
وبعد أن أنهى العملية نقلت "فاطمة" إلى غرفة العناية المركزة و ذهب معها وحاول التحامل بجسده المتعب أن يظل بجوارها على الكرسي ليتابع حالتها .. ظلت فاطمة في غيبوبة و أخذ يكلم نفسه ستشفى بإذن الله و سأعرف عنوانها ولن أتركها هذه المرة أبداً ..
هذه هي "فاطمة" فتاة أحلامي وحبي الذي يسري في جسدي , استقرت حالة فاطمة و أخذ ينظر إلى الأجهزة المشبوكة في جسدها و الإضاءات الخضراء و الحمراء التي تومض من تلك الأجهزة , ويدعو ربه أن ينقذها ..
ومع أذان الفجر ذهب ليصلي و يدعو ربه بشفائها .. ومن أن عاد إلى العناية المركزة حتى وجد المكان قد ازدحم بالممرضات و الأطباء و أخترق الزحام وشاهد الإشارات الضوئية كلها قد أطفئت , ووجه فاطمة يشع نوراً وقد انتقلت إلى رحاب الله .. وعندها أطلق صرخة مدوية وسقط مغشياً عليه ..