تقارير وتحليلات
مراجعة التاريخ وتنقيته من الشوائب قرار سيادي سائد لا بدعة سعودية..
تقرير: إزالة شارع سليمان القانوني من الرياض.. هل ينهي قداسة رموز مزيفة؟
في مراجعة للتاريخ ومحاولة تطهيره من شوائب بإمكانها التأثير في الرأي العام، أقرت قيادة المملكة العربية السعودية إزالة شارع السلطان العثماني سليمان القانوني من العاصمة الرياض. ورغم أن هذا الحدث لا يعد بدعة حيث دأبت دول غربية عدة على انتهاج نفس الطريق عبر إزالة تماثيل شخصيات تعتبر أنها أجرمت في حق شعوبها، فإن النظام التركي وأتباعه من الإخوان يحاولون مجدّدا توظيف قرار سيادي سعودي في معارك سياسية لإدراكهم أن ذلك لا يخدم أجنداتهم ومصالحهم الأيديولوجية.
اهتز نظام أردوغان وحلفائه من الإخوان لقرار سيادي سعودي بإزالة اسم السلطان العثماني سليمان القانوني من أحد شوارع الرياض، محاولين التقليل من هذه الخطوة التي تأتي في إطار إعادة قراءة الماضي وانعكاساتها على الحاضر وتأثيرها في الوعي الجمعي للشعوب وسعي المتشبثين بها لإسقاطها على الواقع بما يخدم مصالحهم ومخططاتهم.
إذا نظرنا إلى ما يدور حولنا في العالم، فإن قرار أمانة الرياض ليس بدعة لأن الشعوب تعيد بين الحين والآخر النظر في تاريخها وتكتشف بقع الظلام فتعمل على إزالتها، لاسيما حين تدرك أنها لم تعد ملائمة لمستجدات واقعها ومن ذلك نزع صفة القداسة على شخصيات جدلية ثبت تورطها في جرائم كانت إلى وقت قريب غير خاضعة للمحاكمة التاريخية الجدية.
خلال الأيام الماضية، شهدت دول غربية عدة في أوروبا والولايات المتحدة حملات للإطاحة بتماثيل شخصيات مرتبطة بالنزعات الاستعمارية والعنصرية والمعادية لحرية الشعوب والمساواة بين الجماعات والأفراد وحذف أسماء بعض تلك الشخصيات من الساحات والشوارع أو المؤسسات التعليمية والثقافية والاجتماعية التي كانت تحملها.
أعباء التاريخ
إن المجتمعات الحرة لم تعد مستعدة لتحمل على كاهلها المزيد من أعباء التاريخ وخاصة في زاويته الممجدة لمن مارسوا القهر والظلم والكراهية والعدوان حتى ولو كان ذلك من منطلقات يضفي عليها البعض صفة الوطنية أو مسايرة ما كان مسموحا به في عصرها.
في هذا السياق، تمت إزالة تمثال تاجر الرقيق الشهير روبرت ميلغان من خارج متحف لندن دوكلاندز بعد أن أعلن عمدة المدينة صادق خان في وقت سابق عن مراجعة لجميع تماثيل لندن وأسماء الشوارع، قائلاً إن “التماثيل التي لها روابط بالرق يجب إزالتها”.
وتزامن ذلك مع إزالة متظاهرين في شارع كولستون، تمثالا من البرونز لتاجر الرقيق إدوارد كولستون يعود إلى عام 1895.
وذكرت صحيفة الإندبندنت البريطانية أن سكان بريستول تقدموا مؤخرا إلى مجلس المدينة بطلب إزالة التمثال المثير للجدل، حيث جمعت الوثيقة أكثر من 10 آلاف توقيع.
وشارك كولستون، الذي عاش في القرن الـ17، في الشركة الأفريقية الملكية لتجارة الرقيق التي نقلت فترة عمل كولستون حوالي 84000 رجل وامرأة وطفل من أفريقيا لبيعهم في الولايات المتحدة، توفي قرابة ربعهم في الطريق.
لكن تاجر الرقيق هذا يعد بطلا في عيون سلطات مدينة بريستول لاعتباره راعيا للثقافة ومتبرعا لأعمال الخير وعضوا في البرلمان، حيث تحمل العديد من المدارس والمباني والمؤسسات الخيرية اسمه.
كما أثير جدل واسع حول تمثال رودس سيسل جون، رئيس وزراء مستعمرة الكاب عام 1890 والذي شهد عصره توسعا ضخما في الإمبراطورية البريطانية، وعرف باسم ملك الماس، حيث أنشأ شركة دي بيرز، أضخم شركة ألماس في العالم والتي تسيطر اليوم على 60 في المئة من ألماس العالم، وكانت في فترة من الفترات تسيطر على 90 في المئة منه.
وطالبت حملة “رودس يجب أن يسقط” بإزالة التمثال في الوقت الذي يرى فيه نشطاء بريطانيون أن جامعة أكسفورد “فشلت في معالجة عنصريتها المؤسسية”، بسبب إصرارها للحفاظ على التمثال.
في الولايات المتحدة، أزال عمال في ديربورن بولاية ميشيغان تمثالا لأطول عمدة بقاء في المنصب بالمدينة، أورفيل هوبارد، الذي كان مؤيدا لسياسات الفصل العنصري وأدلى بتعليقات عنصرية على مدى فترة عمله التي استمرت 35 عامًا والتي انتهت في عام 1977.
وقالت متحدثة باسم المدينة إن التمثال أصبح “رمزًا للانقسام بدلا من أن يكون رمزا للوحدة”، حيث تجددت الدعوات لإزالة التمثال في ضوء الاحتجاجات واسعة النطاق على وفاة جورج فلويد.
وأطيح بتمثال للرئيس الكونفدرالي جيفرسون ديفيس في ريتشموند، فرجينيا، وتم تخريب تماثيل مكتشف أمريكا كريستوفر كولومبوس في بوسطن وميامي وفرجينيا، سواء بقطع الرأس أو التدمير الكامل أو الدفع به إلى البحيرات.
تطهير الذاكرة
تهب الشعوب من حين إلى آخر لتطهير ذاكرتها من رمزية أفراد حققت مجدها الشخصي أو خدمت مشاريع عرقية أو دينية أو فئوية على حساب شعوب أو جماعات أخرى، حيث أسقطت أوكرانيا 1320 تمثالا لزعيم الثورة الشيوعية لينين بعد حملة حكومية لتخليص البلاد من رموز الحقبة السوفيتية، إذ تم تفكيك آثار الزعيم البلشفي في كل بلدة وقرية ومدينة، وجاء ذلك ضمن المبادرة المناهضة للسوفيات، والتي تأمر أيضًا بإعادة تسمية الشوارع والمدن، وأصبحت قانونًا من قبل الرئيس بترو بوروشينكو في مايو 2015.
لكن قرار السعودية بإزالة اسم سليمان القانوني من أحد شوارعها في الرياض تحوّل إلى قضية وطنية بالنسبة للنظام التركي وعقائدية لجماعة الإخوان والسائرين على نهج أردوغان، وحاولت بعض قوى الإسلام السياسي استعمال القرار السعودي كأداة للمزايدات الرخيصة من باب التملق للنظام التركي.
من ذلك سارع عميد بلدية تاجوراء الليبية حسين بن عطية، إلى إطلاق اسم سليمان القانوني على أحد أهم شوارع المنطقة، وذلك “تكريما للدور التركي الداعم والمساند الأول لحكومة الوفاق، لاسيما أن السلطان العثماني سليمان القانوني أرسل القائد مراد آغا، على رأس جيش لمساعدة أهل طرابلس في تحرير مدينتهم عام 1551م، حيث بنى في تاجوراء المسجد المعروف ‘مراد آغا'” بحسب زعمه.
لكن ما خفي عن بن عطية أن الغازي العثماني احتل ليبيا لمدة 450 عاما وكاد يفرغ الأرض من شعبها وأذاق فيها السكان المحليين الويلات ونفذ في حقهم المجازر وجرائم الإبادة الموثقة في كتب التاريخ، وحكم عليهم بالفقر والفاقة والتخلف قبل أن يسلمهم وبلادهم غنيمة للاحتلال الإيطالي في العام 1911.
والسلطان سليمان القانوني، هو عاشر السلاطين العثمانيين، وخليفة المسلمين الـ80، وثاني من حمل لقب “أمير المؤمنين” من آل عثمان، ولد في 6 نوفمبر 1494، بمدينة طرابزون التركية، ورحل في 7 سبتمبر 1566، بمدينة سيكتوار في المجر. ويمثل سليمان القانوني رمزية خاصة لنظام أردوغان خاصة من خلال النزعة التوسعية على حساب الشعوب والقوميات الأخرى وكذلك من خلال القسوة التي اعتمدها في مسيرته في الحكم والتي طالت أقرب المقربين إليه بسبب هوسه بالحكم وميله للاستبداد.
لقد كان من ضحايا سليمان القانوني ابنه من زوجته الأولى “ماه دوران شاه”، مصطفى الذي ولد في عام 1515 وكان ولي عهده الأول، قبل أن يأذن بإعدامه في مدينة قونيا عام 1553 بعد حصوله على فتوى على المقاس من شيخ الإسلام أبوالسعود أفندي، وابنه بايزيد، الثالث من زوجته خرم شاه، والذي ولد عام 1525 في إسطنبول. وقاد جيشه للتمرد على أخيه السلطان سليم الثاني، فحكم عليه بالإعدام مع أبنائه، وأعدم في عام 1561 ودفن مع أبنائه في ضريح “مليك عاجم” في مدينة سيواس.
وشهد تاريخ العثمانيين إعدام 60 أميرا أشهرهم الأمير مصطفى ولي عهد السلطان سليمان القانوني، وكان الإعدام يتم بخيوط الحرير لا بالسيف. وفي طقوس اختص بها العثمانيون دون غيرهم، ومن ذلك كأس الموت، حيث يجلب المتهم إلى ساحة الإعدام ويقدم له كأس إذا كان لونه أبيض فقد حظي بالعفو وإذا كان لونه أحمر فقد تقرر قتله، وبإمكان الشخص المهيّأ للإعدام أن يفلت من مصيره إلى النفي إذا استطاع الفوز في سباق للعدو مع شخص يسمى بستاني باشا ووظيفته إلى جانب الإعدام رعاية الأشجار والأزهار والعصافير في حدائق السلطان.
وكان من بين ضحايا سليمان القانوني كذلك، إبراهيم باشا الفرنجي أول صدر أعظم (وزير أول) عينه بعد ارتقائه عرش الدولة العثمانية. وصاحب الدور الكبير في تحقيق الأطماع التوسعية للسلطان ومن ذلك فتح بغداد. لكن بعد عودة الجيوش العثمانية إلى القسطنطينية قادمة من مواجهتها الأولى مع الدولة الصفوية، أمر السلطان سليمان بإعدام رجله الأول إبراهيم باشا، الذي عثر عليه ليلة 22 رمضان سنة 942 هجرية، 5 مارس أو 14-15 مارس عام 1536، مخنوقاً في غرفة نومه بقصر الباب العالي، بعد 13 عاماً من تعيينه صدراً عثمانياً أعظم.
مجازر القانوني
يذكر المؤرخون أن إبراهيم باشا، قبل إعدامه بسنوات، توسل إلى السلطان أن يتمهل في ترقيته بغية عدم إثارة حسد وزراء ومسؤولي الحكومة الكبار، الأمر الذي قابله السلطان بأن أقسم على ألا يسمح للوشاية أن تأخذ طريقاً بينهما، وبعدم تعريض صديقه للموت.
إلا أن السلطان العثماني حصل على فتوى تجيز له الحنث بقسمه لقاء بناء مسجد في القسطنطينية، وواصل لسبعة ليال تناول طعام السحور مع إبراهيم باشا وحدهما، مانحاً إياه فرصة الهرب أو حتى أن يقتل السلطان بنفسه.
وكشفت رسائل إبراهيم باشا التي كتبها قبل أيام من إعدامه، علمه بنية سيده، وقراره رغم ذلك البقاء وفياً للسلطان.
وكان تورط السلطان سليمان في مقتل ابنيه ووزيره الأول وليد دسائس القصر وصراع الحرملك والحرب على الخلافة والعجز عن إدارة شؤون البيت الداخلي، في حين كانت كل جهوده موجهة للغزوات وتحقيق أطماعه التوسعية على حساب الشعوب الأخرى بكثير من الصلف والعنجهية.
وعلى سبيل المثال أورد المؤرخ أحمد بن محمد بن عمر الأنصاري المعروف بـ”ابن الحمصي” في كتابه “حوادث الزمان” أن “دمشق عندما دخلها سليمان القانوني ارتجت رجة عظيمة أعظم من يوم دخلها المغول”. مشيرا إلى “أن الجنود الأتراك أخذوا النساء الدمشقيات وسرقوا الأولاد والعبيد ونهبوا ممتلكات الناس من الماشية والخيول”.
ويقول المؤرخ “دخل عساكر العثمانية ونهبوا المال وحوائج الناس وأقمشتهم، فلم يتركوا لأحد شيئًا في دكانه، ونهبوا البيوت والضياع، ولم يسلم منهم أحد.. وارتجت دمشق رجّة عظيمة، أبشع من تلك اللي ارتجتها يوم غزاها المغولي تيمورلنك. وأخذوا حريما كثيرا، واختطفوا الأولاد والصبيان من أمهاتهم كعبيد، ولم يتركوا لأحد فيها لا فرسا ولا بغلا”.
وأبرز ابن كنان في كتابه “حدائق الياسمين” وهو معاصر لدخول السلطان سليمان لدمشق أن جنود سليمان القانوني خطفوا نساء دمشق وعروهن من ملابسهن ثم فعلوا ذلك برجال دمشق أيضًا.
وروى أن “نساء دمشقيات هربن من الأتراك واختبأن في جامع الحنابلة فهجم عليهن الجنود الأتراك وعروهن من ملابسهن وفعلوا ذلك بالغلمان والفتيات والصبيان”.
وأورد شمس الدين محمد بن علي بن أحمد بن طولون، في كتابه “مفاكهة الخلان في حوادث الزمان” أن “عساكر آل عثمان هجموا على ضواحي دمشق، فأخرجوا الناس من بيوتهم ليسكنوها، فأخرجت أناس كثيرة وألقي بهم في الطرقات، واعتدوا على نساء حبالى، فطرحن ما في بطونهن من الأجنة، وحصل لأهل دمشق شدة لم يقع لها مثيل من قبل.. وكانت العساكر العثمانية لا توقر كبيرًا ولا شيخًا ولا إمامًا من أهل القرآن، ثم هجم العساكر العثمانيون على الصالحية وحارات دمشق البرانية.. فنهبوا معاشهم وبضائعهم وسبلهم ولم يسلم منهم أحد إلا من أعماهم الله عنه في ذلك اليوم.. بلية عظيمة لم يقع نظيرها ولا في فتنة تيمورلنك”.
إن هذه الملامح من التاريخ كافية لتعطي صورة ولو موجزة عن السلطان العثماني الذي اهتز نظام أردوغان وأتباعه من الإخوان لإزالة اسمه من شارع في الرياض، وأكثر ما ساءهم من ذلك نزع القداسة الوهمية على شخصية لها ما لها في بلاد الترك وعليها ما عليها في بقية الأوطان التي تعرض لها بالغزو والاحتلال والنهب والسلب والتقتيل والتنكيل.
النظام التركي وحلفاؤه يدعون إلى مراجعة ماضي الدول والأنظمة ويهتكون عرض التاريخ، ويشوهون صورة الآخر المختلف ولكنهم بالمقابل يعملون على إضفاء هالة من التقديس على رموز الخلافة العثمانية من باب الترويج لها كنموذج يسعون إلى إعادة تكريسه وخاصة على حساب الدول العربية.
في الغرب حاول الكثير من المسيحيين الإبقاء على تقديس المستعمرين وناهبي ثروات الشعوب تحت غطاء ديني، لكن الغضب الشعبي أزاح تماثيلهم وداس على صفحات التاريخ المزور التي كانت تضعهم في مصاف بناة الحضارة، وهو ما لا يريد مروجو النصاعة المزيفة للخلافة العثمانية إدراكه، معتمدين على الاندفاع الأيديولوجي في القفز على حقائق التاريخ بما يرضي المشروع الإخواني المرتهن للماضي بسلبيات يحاول أن يحوّلها إلى إيجابيات حتى وإن كانت الوقائع تشير إلى غير ذلك.