تطورات اقليمية

"فضيحة عمرها 24 عامًا"..

النزاهة على المحك.. تحليل قانوني لفضيحة السيرة الذاتية لرئيس وزراء السودان المؤقت

كامل الطيب إدريس عُين في مايو 2025 رئيساً للوزراء في حكومة السودان المؤقتة ببورتسودان

المقدمة 

أصدر مركز رصد الصراعات في الساحل الإفريقي تقريراً تحليلياً يتناول الجدل المتعلق بالدكتور كامل الطيب إدريس، الشخصية السودانية البارزة في مجال القانون الدولي والملكية الفكرية، والذي عُين في مايو 2025 رئيساً للوزراء في حكومة السودان المؤقتة ببورتسودان. يركز التقرير على مسألة سابقة أثارت تساؤلات حول دقة بياناته الشخصية خلال فترة توليه منصب المدير العام للمنظمة العالمية للملكية الفكرية (الويبو) في جنيف بين عامي 1997 و2008.

شغل إدريس، وهو دبلوماسي وأكاديمي سابق، مناصب دولية مرموقة، منها عضوية لجنة القانون الدولي بالأمم المتحدة، حيث مثل الدول النامية في عدة محافل. ومع صدور مرسوم دستوري بتعيينه رئيساً للوزراء في حكومة الجنرال البرهان، عادت إلى الواجهة قضية تتعلق بتاريخ ميلاده المدون في سجلات الويبو. وفقاً لتقرير حصلت عليه المؤسسة، أثيرت شكوك حول تسجيل إدريس لتاريخ ميلاد 1945 بدلاً من 1954 في وثائق رسمية، مما أثار اتهامات بمحاولة تعزيز مساره الوظيفي. استجابت الويبو لهذه الادعاءات بتشكيل لجنة تحقيق داخلية سرية عام 2006 للتحقق من صحة البيانات وتقييم مدى امتثال التصرف للمعايير المهنية.

نظراً لمكانة إدريس في منظمة دولية تعتمد على النزاهة والشفافية، حظيت القضية باهتمام كبير. يستعرض هذا التقرير نتائج التحقيق السري، ويحلل التناقضات في البيانات الشخصية، ويوثق الإجراءات المتخذة داخل الويبو. 

كما يقدم تحليلاً قانونياً وأخلاقياً للوقائع، مع مناقشة الفوائد المحتملة التي قد تكون قد تحققت من هذا التناقض، ويختتم باستنتاجات وتوصيات تهدف إلى تعزيز الحوكمة والمساءلة في المؤسسات الدولية والوطنية.

من هو كامل الطيب إدريس

 يُعد الدكتور كامل الطيب إدريس أحد أبرز الشخصيات السودانية على الساحة الدولية، وهو دبلوماسي وخبير قانوني، عُرف بدوره الريادي في مجال الملكية الفكرية على المستوى العالمي. 

وُلد عام 1954 في السودان، وبرز في مسيرته الأكاديمية بحصوله على درجات علمية رفيعة، من بينها دكتوراه في القانون الدولي من جامعة جنيف، إلى جانب بكالوريوس في القانون من جامعة الخرطوم ودراسات عليا في الاقتصاد والتنمية.

شغل منصب المدير العام للمنظمة العالمية للملكية الفكرية (WIPO) بين عامي 1997 و2008، وكان أول أفريقي يتولى هذا المنصب، حيث قاد جهودًا لإعادة التوازن بين مصالح الدول المتقدمة والدول النامية في سياسات الابتكار والملكية الفكرية. كما برز لاحقًا كأحد الأصوات السياسية الداعية للإصلاح والديمقراطية في السودان.

انتُخب عضواً في لجنة القانون الدولي بالأمم المتحدة وساهم في محافل دولية عديدة ممثلاً للدول النامية. وفي مايو 2025 صدر مرسوم دستوري بتعيينه رئيساً للوزراء بحكومة الجنرال البرهان في مقرها المؤقت بمدينة بورتسودان شرق السودان، مما أعاد تسليط الضوء على قضيته القديمة المتعلقة بمصداقية بياناته الشخصية أثناء فترة عمله بالويبو.

تعود جذور القضية إلى الإجراءات التي اتخذها د. إدريس إبّان عمله مديراً للويبو، حيث ثار جدل واسع حول صحة تاريخ ميلاده المدوّن في وثائقه الوظيفية وسجلات الأمم المتحدة. ظهرت تقارير تفيد بأنه استغل خطأ أو تلاعب في سنة الميلاد لأغراض تتعلق بمساره الوظيفي. وبالتحديد، برزت اتهامات بأنه غيّر سنة ميلاده الرسمية من 1945 إلى 1954، الأمر الذي أثار شبهات حول سلامة سيرته الذاتية ومدى تطابقها مع الواقع. وقد تعاملت منظمة الويبو مع هذه المزاعم من خلال تشكيل لجنة تحقيق داخلية سرية في عام 2006 للتدقيق في صحة تلك المعلومات وتقييم ما إذا كان هذا التصرف يشكّل مخالفة جسيمة للمبادئ والقواعد المهنية.

القضية نالت اهتماماً خاصاً نظراً لمنصب د. إدريس الرفيع في منظمة دولية تعتمد على الثقة والنزاهة. وقد أعدّت اللجنة التحقيقية تقريراً سرياً مفصّلاً كشف عن سلسلة من الوقائع المثيرة للقلق. سنستعرض فيما يلي أبرز ما توصّل إليه ذلك التقرير السري، وما تبيّن من تناقضات بين البيانات الرسمية التي قدمها د. إدريس وسجلاته الحقيقية، وكيف تمت معالجة الأمر ضمن أروقة المنظمة، ثم نقوم بتحليل تلك الوقائع من منظور قانوني ومهني. كما سنبحث في الفوائد المحتملة التي جناها د. إدريس نتيجة هذا التغيير، قبل أن نختم باستنتاجات وتوصيات مستخلصة من مجمل هذه التحريات.

اكتشاف التناقضات

أولاً: اختلاف تاريخ الميلاد في الوثائق الرسمية:

كشفت لجنة التحقيق أن د. كامل إدريس اعتمد طوال جزء كبير من مسيرته المهنية تاريخ ميلاد مخالفاً لتاريخ ميلاده الحقيقي. فمنذ التحاقه بالويبو في أوائل الثمانينات، دوِّن تاريخ ميلاده في الوثائق الرسمية على أنه 26 أغسطس 1945، في حين أن التاريخ الصحيح لميلاده هو 26 أغسطس 1954. هذا الفرق البالغ تسع سنوات لم يكن مجرد خطأ عابر، بل استمر عبر عقود حيث ظهر في العديد من المستندات والبطاقات الوظيفية التي وقعها د. إدريس بنفسه. وتشير النتائج إلى أنه على الأقل اثنتا عشرة وثيقة سفر وهوية وظيفية رسمية للأمم المتحدة صادرة بين عامي 1983 و2006 احتوت على تاريخ الميلاد غير الصحيح (1945)، وكلها موقعة أو معتمدة من قبل د. إدريس.

ثانياً: بداية الخطأ وظروف نشأته:

خلص التقرير السري إلى أن هذا الاختلاف في سنة الميلاد يرجع إلى الفترة التي تقدّم فيها د. إدريس لأول وظيفة له في الويبو عام 1982. في طلب التوظيف الذي قدّمه آنذاك، تم تسجيل تاريخ الميلاد على أنه عام 1945. وبرّر د. إدريس لاحقاً أن ذلك كان نتيجة ما أسماه "خطأ مطبعي" في تدوين السنة (حيث انعكست أرقام السنة 45 بدلاً من 54). لكن التحقيق أشار إلى أن إدخال هذا التاريخ الخاطئ لم يكن بريئاً أو بلا مغزى؛ إذ أتاح له هذا الفارق العمري أن يبدو أكبر سناً وذا خبرة أطول مما هو عليه في الواقع، الأمر الذي ساعده في استيفاء متطلبات الوظيفة. تجدر الإشارة إلى أن المنصب الذي شغله في 1982 كان على درجة P-4 ضمن سلم وظائف الأمم المتحدة، وهي درجة وظيفية تتطلب عادةً خبرة عملية لا تقل عن عشر سنوات. لو اعتُمد تاريخ الميلاد الصحيح (1954)، لكان عمره عند التقديم حوالي 28 عاماً فقط، وبالتالي لما تمكن من تلبية شرط الخبرة لعشر سنوات الذي يفترض أن يبدأ من سن مبكرة جداً. أما مع تاريخ الميلاد المعدّل إلى 1945، أصبح عمره في الأوراق 37 عاماً في سنة 1982، مما جعله يظهر مكافئاً في العمر والخبرة لمنافسيه على الوظيفة آنذاك.

ثالثاً: تضارب السيرة الذاتية (الخبرات العملية):

بيّن التقرير وجود تضارب صارخ في السيرة الذاتية المقدمة من د. إدريس خلال التوظيف، يتعلق بالفترة الزمنية لخبراته العملية المبكرة. فقد ذكر في ملفه الوظيفي أنه شغل مناصب وظيفية (بدوام جزئي وكامل) على المستوى الوطني في السودان خلال المدة من عام 1967 إلى 1970. إذا اعتُمد تاريخ الميلاد الصحيح (1954) فإن عمره خلال تلك الفترة كان يتراوح بين 13 و16 عاماً فقط، ما يجعل الادعاء بشغل وظائف مهنية رفيعة أو اكتساب خبرة عملية معتبرة في تلك السن المبكرة أمراً مستبعداً تماماً. بالمقابل، مع تاريخ الميلاد المسجل (1945)، يكون عمره بين 22 و25 عاماً خلال 1967-1970، وهي سن معقولة لبداية الحياة المهنية بعد إتمام الدراسة الجامعية. هذا التضارب يشير إلى أن تعديل سنة الميلاد كان مقصوداً لجعل مزاعم الخبرة العملية المبكرة تبدو ممكنة ومقبولة منطقياً أمام لجان التوظيف.

رابعاً: نسخ متعددة من تاريخ الميلاد:

لم يقتصر الأمر على وجود تاريخين مختلفين (1945 و1954)، بل تبيّن للجنة وجود تاريخ ميلاد ثالث وارد في أحد السجلات الأكاديمية. فقد اكتشف التحقيق أن جامعة أوهايو الأمريكية، حيث نال د. إدريس درجة الماجستير في أحد التخصصات، تحتفظ في سجلها بتاريخ ميلاد مغاير هو 26 أغسطس 1953. على الرغم من أن هذا الاختلاف طفيف (سنة واحدة عن التاريخ الصحيح)، إلا أنه أثار المزيد من التساؤلات حول دقة وإتساق المعلومات الشخصية لد. إدريس عبر مختلف الجهات والمؤسسات التي تعامل معها. يُحتمل أن يكون هذا التاريخ (1953) ناتجاً عن خطأ إداري آخر أو التباس في الوثائق المقدمة للجامعة، لكنه في المحصلة يزيد من غموض الصورة العامة ويطرح احتمال وجود إهمال أو تعمد في ضبط البيانات الشخصية.

خامساً: تواقيع مختلفة وإشارات مقلقة:

من الدلائل الأخرى التي رصدتها اللجنة أن د. إدريس استخدم توقيعين مختلفين على المستندات الرسمية، ويبدو أن استعمال كل توقيع منهما ارتبط بنوعية الوثائق المتعلقة بتاريخ الميلاد. فقد لاحظ المحققون أن التوقيع الذي كان يستخدمه على الوثائق الحاملة لسنة الميلاد 1945 يختلف عن توقيعه على الوثائق الأخرى التي تحمل سنة الميلاد 1954 (مثل بعض الوثائق الشخصية كرخصة القيادة السويسرية التي أصدرها باسمه الحقيقي). هذا الأمر اعتُبر مؤشراً على إدراكه للفارق بين الهويتين العمريتين ومحاولة منه للفصل بينهما بشكل منهجي، مما يتنافى مع عفوية "الخطأ المطبعي" المزعوم. فعادةً ما يلجأ الأفراد الذين لديهم هويتان مختلفتان إلى اعتماد تواقيع متنوعة للفصل بين الشخصيتين، وهو سلوك يثير الشبهات في سياق موظف دولي يفترض فيه الوضوح والشفافية في أوراقه الثبوتية.

سادساً: تسلسل اكتشاف القضية:

بقي هذا الخلل في تاريخ الميلاد طي الكتمان لسنوات طويلة داخل أروقة الويبو ولم يبرز إلى العلن إلا في منتصف العقد الأول من الألفية الجديدة. تُشير المعلومات إلى أن موضوع عمر د. إدريس الحقيقي بدأ يتسرب ويتداول في أواخر عام 2005 وبداية 2006، سواء عبر تقارير صحفية أو همسات داخلية بين الموظفين. تصاعد الاهتمام بالأمر حين لوحظ قيام الإدارة في الويبو بتغيير بيانات ميلاد المدير العام في قواعد بيانات الموظفين في عام 2006. عندها بادر المفتش العام للأمم المتحدة (الهيئة الرقابية المعروفة باسم وحدة التفتيش المشتركة - JIU) بطلب إجراء تحقيق رسمي في الأمر نظراً لحساسية الاتهامات وخطورتها على سمعة المنظمة. وبناءً على ذلك الطلب، قام قسم الرقابة الداخلية في الويبو (وهو أشبه بلجنة تحقيق داخلية مستقلة) بإعداد تقرير سري مفصّل في أواخر عام 2006، موضحاً نتائج المراجعة والتحقق التي أجرتها اللجنة بشأن التلاعب المزعوم.

إجراءات التصحيح تفادياً لاحراج المنظمة الدولية:

بعد اكتشاف التناقضات سالفة الذكر، اتخذ د. كامل إدريس وإدارة الويبو عدداً من الإجراءات لمعالجة وتصويب الوضع تفادياً لجرح سمة المنظمة الدولية، على الأقل من الناحية الإدارية الشكلية. ويمكن تلخيص أبرز خطوات التصحيح التي جرت آنذاك فيما يلي:

أولاً: مبادرة المدير العام بالتصويب الرسمي (2006):

بعد خروج الفضيحة للعلن، بادر د. إدريس في أبريل 2006، بالتقدم بطلب رسمي إلى إدارة الموارد البشرية في الويبو لتصحيح تاريخ ميلاده في جميع السجلات والملفات الوظيفية من عام 1945 إلى عام 1954. وقد تم تنفيذ هذا التصحيح فعلياً في قواعد بيانات المنظمة وفي ملفه الشخصي لدى الأمم المتحدة. حيث قدم د. إدريس تبريراً لهذا الإجراء مفاده أنه يصحح "خطأً كتابياً قديماً" لضمان اتساق سجلاته مع الحقيقة. وأكد في مراسلاته الداخلية أن الخطوة تهدف إلى الشفافية وضمان عدم حصوله على أية منفعة غير مستحقة بسبب الخطأ المذكور.

ثانياً: إخطار الموظفين والأطراف المعنية:

 إثر قيامه بالتصويب، عمّم مكتب المدير العام في الويبو بريداً إلكترونياً على جميع الموظفين (وقُدمت نسخة منه لوسائل الإعلام المعنية في جنيف آنذاك) يوضح فيه أن تصحيح تاريخ الميلاد لن يعود بأي فائدة على د. إدريس، بل على العكس سيؤدي إلى خفض كبير في مستحقاته التقاعدية عند انتهاء خدمته. جاء في الإخطار الرسمي أن هذا التعديل سيحرم المدير العام من جزء معتبر من معاشه التقاعدي، مما يعني ضمنياً أنه لم يتخذ الخطوة بدافع المنفعة الشخصية بل بدافع تصحيح خطأ إداري. كما أكدت رسالة الويبو أن التصحيح لن يؤثر على مدة ولاية المدير العام الحالية؛ إذ إن منصب المدير العام للأمم المتحدة والوكالات المتخصصة ليس له حد أقصى للسن (على خلاف الوظائف الأممية الأخرى التي قد تحدد سن تقاعد للموظفين). وبالتالي، فلا يمكن أن يُستخدم تغيير العمر لتمديد فترة الخدمة تلقائياً، لأن أي تمديد أو تجديد في ولاية المدير العام هو قرار يرجع للدول الأعضاء وليس للأمانة العامة.

ثالثاً: التعاون مع التحقيق الداخلي:

أشار تقرير لجنة التحقيق إلى أن د. إدريس قد تعاون في حدود معينة مع فريق التحقيق الداخلي. فقد تم إجراء مقابلة رسمية معه، سُئل خلالها عن تفسيراته لاختلاف تاريخ الميلاد وما إذا كان على علم به طوال تلك السنين. في إفادته، ذكر د. إدريس أنه أدرك منذ فترة طويلة وجود هذا الخطأ، وأنه عندما أثار بعض المعنيين الأمر في مطلع الألفينات قيل له من قبل المدير العام السابق للويبو (سلفه في المنصب) أن المسألة ثانوية ولا تستحق الاهتمام، مما دفعه إلى التغاضي عن التصحيح لمدة طويلة حرصاً على "اتساق الأوراق" واستقرارها. وأضاف أنه أخيراً قرر المبادرة بالتصحيح في 2006 من تلقاء نفسه "حفاظاً على الشفافية". كما أعرب عن اعتقاده أن إثارة موضوع عمره جاءت ضمن حملة استهداف شخصي وتشويه لسمعته، مؤكداً أن ما يهم هو إنجازاته في قيادة المنظمة وليس سنّه.

رابعاً: عدم اتخاذ إجراءات تأديبية فورية:

 على الرغم من خطورة ما تكشّف، لم تبادر أجهزة الويبو إلى فرض عقوبة تأديبية مباشرة على د. إدريس خلال عامي 2006-2007. ويُعزى ذلك لعدة أسباب منها: المكانة الرفيعة للمدير العام كمنتخب من الدول الأعضاء، وحساسية المسألة التي باتت تخضع لنقاش سياسي بين الدول في المنظمة، وأيضاً لضبابية القنوات القانونية لمحاسبة رئيس وكالة متخصصة بهذه التهمة غير المسبوقة. بدلاً من ذلك، رُفعت نتائج التحقيق السرّي إلى الدول الأعضاء للنظر فيها خلال اجتماعات الجمعية العامة للويبو عام 2007، ليكون القرار بيد ممثلي الحكومات. وقد ظهر انقسام واضح في مواقف الدول؛ حيث طالبت بعض الدول الغربية باتخاذ موقف حاسم ومحاسبة د. إدريس وربما تنحيته، بينما ارتأت دول أخرى (خصوصاً من مجموعة إفريقيا ومنظمة التعاون الإسلامي) أن يُترك الأمر لآلية قانونية محايدة أو أن يُمنح المدير العام فرصة الدفاع عن نفسه ضمن إجراءات سليمة، مراعيةً مبدأ افتراض البراءة حتى ثبوت الإدانة.

خامساً: المعالجة في إطار الجمعية العامة للويبو:

خلال دورة الجمعية العامة للويبو في أواخر 2007، أثيرت القضية على المستوى الرسمي. أصرت وفود عدد من الدول الكبرى (مثل الولايات المتحدة وسويسرا وبعض دول الاتحاد الأوروبي) على إدراج مسألة سوء الإدارة وانعدام الشفافية ضمن جدول الأعمال، في إشارة واضحة إلى قضية تزوير العمر وغيرها من التجاوزات المحتملة. أدى ذلك إلى أجواء متوترة غير معتادة، حيث تأخر افتتاح الاجتماعات نتيجة الخلافات، ولم تتمكن الجمعية من التوصل لإجماع حول الميزانية المستقبلية للمنظمة بسبب ربط بعض الدول الموافقة على الميزانية بضرورة البت في قضية المدير العام. تفاقمت الأزمة إلى حد تهديد الولايات المتحدة بتجميد مساهمتها المالية وربما الانسحاب من المنظمة إن لم يرَ المجتمع الدولي تحركاً مناسباً. أمام هذه الضغوط، وافق د. إدريس ضمنياً على عدم الترشح لفترة ثالثة بعد انتهاء ولايته الثانية في 2009، وفي مطلع عام 2008 أعلن عن قراره التنحي قبل حلول موعد انتهاء ولايته بمدة وجيزة، مبرراً ذلك برغبته في إتاحة المجال لقيادة جديدة حفاظاً على وحدة المنظمة. وبهذه الخطوة أُغلق الفصل الرسمي للأزمة داخل أروقة الويبو، حيث تم تعيين مدير عام جديد خلفاً له منتصف عام 2008. يمكن اعتبار هذا التطور بمثابة إجراء تصحيحي أخير تمثل في إنهاء حقبة إدريس بطريقة توافقية دون معركة تصويت أو عزل مباشر، مع حفظ ماء الوجه لجميع الأطراف.

مجمل هذه الإجراءات يظهر أن المنظمة سعت لاحتواء الموقف بأقل ضرر ممكن على سمعتها واستقرارها المؤسسي، مع تصحيح السجلات الرسمية وضمان انتقال سلس للقيادة. لكنها أيضاً كشفت عن انقسامات عميقة بين الدول الأعضاء حول كيفية التعامل مع قضايا المساءلة والشفافية عندما تتعلق بأعلى الهرم الإداري.

تحليل قانوني لسلوك د. كامل الطيب إدريس

 إن تقييم السلوك موضوع القضية يستلزم النظر إليه من زاويتين: زاوية القوانين واللوائح ذات الصلة (سواء داخل منظومة الأمم المتحدة أو القوانين الجنائية المحتملة)، وزاوية المبادئ الأخلاقية والمعايير المهنية المتوقعة من مسؤول في ذلك الموقع الرفيع. فيما يلي تحليل معمق لجوانب المخالفة المنسوبة للدكتور كامل إدريس:

أولاً: مدى مخالفة التصرف لقواعد الأمم المتحدة والويبو الداخلية:

يخضع موظفو الأمم المتحدة ووكالاتها المتخصصة لمدونة سلوك مهني صارمة تنظم واجباتهم في ما يتعلق بالأمانة والنزاهة. وتنص اللوائح الوظيفية للأمم المتحدة على واجب الموظف في الإفصاح الكامل والدقيق عن البيانات الشخصية عند التعيين، وضرورة إبلاغ الجهة الإدارية فوراً بأي تغيير أو خطأ يُكتشف في تلك البيانات قد يؤثر على الوضع الوظيفي أو الاستحقاقات. في حالة د. إدريس، نجد أن تسجيل تاريخ ميلاد خاطئ منذ بدء التوظيف عام 1982 يمثل إخلالاً صريحاً بواجب الإفصاح الصحيح. فإذا كان الخطأ متعمّداً من قِبَل الموظف لتلبية شرط الخبرة، فإن ذلك يرتقي إلى غش وتضليل إداري يخرق مبدأ النزاهة. وحتى لو افترضنا جدلاً أن الخطأ كان غير متعمد في البداية، فإن استمرار الصمت عنه لمدة تناهز 24 عاماً دون تصحيحه يُعدّ مخالفة بذاته، لأن القواعد تلزم الموظف بمجرد علمه بأي خطأ جوهري في ملفه أن يبادر إلى تصويبه فوراً. التقرير السري أكد أن د. إدريس كان مدركاً لوجود هذا التناقض منذ سنوات بعيدة ومع ذلك لم يسع لتعديله إلا بعد أن أصبح الأمر مهدداً بالانكشاف. هذا يضعف كثيراً حجة البراءة أو الخطأ غير العمدي، ويشير إلى نية الإبقاء على الوضع الخاطئ لتحقيق منفعة مهنية.

علاوة على ذلك، إن استخدام معلومات غير صحيحة (كتاريخ الميلاد) عند التوظيف يتعارض مع مبدأ تكافؤ الفرص والاستحقاق في الوظيفة الدولية. فلو تبين أن موظفاً قدم بيانات غير صحيحة أو مضللة لحيازة المنصب، فإن لائحة العاملين تمنح المنظمة حق اعتبار التعيين لاغياً أو اتخاذ إجراءات تأديبية، باعتبار أن العقد الوظيفي بُني على بيانات باطلة. وفي حالة المدير العام للويبو، صحيح أنه منتخب من قبل الدول الأعضاء وليس موظفاً معيناً فنياً فحسب، إلا أنه أول ما انضم للمنظمة كان كموظف عادي، وحصل على الترقيات بناءً على سجله. وبالتالي، أي خلل جوهري في ذلك السجل (مثل عدم استيفائه شرط الخبرة عند التعيين الأول) يثير تساؤلات حول شرعية/مشروعية مساره الوظيفي برمته. كما أن لوائح المنظمة العالمية للملكية الفكرية تتماهى مع معايير الأمم المتحدة العامة في التشديد على قيمة الأمانة والمصداقية كقيم أساسية. بناءً على ذلك، يمكن القول إن سلوك د. إدريس ينتهك نصاً وروحاً القواعد الداخلية التي تحكم سلوك الموظفين الدوليين، ويمثل إخلالاً جدياً بواجبات الأمانة والشفافية.

ثانياً: الوصف القانوني للفعل (تزوير أم تضليل إداري؟):

من منظور قانوني بحت، ينطبق على تغيير تاريخ الميلاد في الوثائق الرسمية وصف "تزوير في محرر رسمي" إذا ثبت تعمده بقصد تحقيق مصلحة غير مشروعة. فالقوانين الجنائية في معظم الدول، بما فيها القانون السوداني والقانون السويسري (حيث مقر الويبو)، تُجرّم تزوير الوثائق الرسمية وتقرر له عقوبات صارمة قد تصل إلى الحبس. وفي هذه الحالة، لدينا واقعة تدوين تاريخ ميلاد غير صحيح في مستندات رسمية (جوازات سفر أممية، بطاقات هوية وظيفية، استمارات توظيف) استخدمت لأغراض إدارية وتقديمها لجهات رسمية. إذا كان د. إدريس هو من قام عمداً بإعطاء تاريخ ميلاد غير صحيح وقت التوظيف وباستمراره لاحقاً، فإن أركان جريمة التزوير قد تكتمل: تغيير حقيقة جوهرية في محرر رسمي (سنة الميلاد)، واستعمال ذلك المحرر فيما زوّر من أجله (الحصول على وظيفة ومستحقات). إلا أنه تجدر الإشارة إلى أن المدير العام للويبو خلال فترة ولايته يتمتع بحصانة دبلوماسية مستمدة من اتفاقية امتيازات وحصانات وكالات الأمم المتحدة، مما يعني تعذّر إخضاعه للمساءلة الجنائية الوطنية أثناء توليه المنصب أو بسبب أفعال ارتكبها بصفته الرسمية. لكن هذا لا ينفي كون الفعل في حد ذاته مشوباً بالاحتيال والتزوير في السياق العام.

من الناحية الإدارية الداخلية، يمكن تصنيف الفعل باعتباره سوء سلوك جسيم (Gross Misconduct). فالأمم المتحدة تعرّف "السلوك المشين" بأنه الأفعال أو الامتناعات التي تشكل إخلالاً خطيراً بالالتزامات الوظيفية، ومنها حالات تقديم بيانات كاذبة أو احتيال لنيل منافع وظيفية. ويتيح هذا الوصف للمنظمة – من حيث المبدأ – اتخاذ إجراءات تأديبية قد تصل إلى إنهاء الخدمة أو حتى سحب المزايا التقاعدية، باعتبار أن الموظف خان ثقة المنظمة. في الحالة قيد البحث، وبرغم المكانة العليا للموظف المعني، فإن جوهر الفعل لا يختلف عن حالة موظف عادي زوّر مؤهلاته أو عمره للحصول على عمل، والتي عادة ما تؤدي إلى فصله حال اكتشافها. الفارق هنا أن الاعتبارات السياسية والتنظيمية أعاقت تطبيق هذه النتائج فوراً، لكنها تظل صحيحة من منظور تحليلي قانوني مجرد

ثالثاً: انتهاك مبدأ النزاهة والشفافية المؤسسية:

 يُعتبر مبدأ النزاهة حجر الزاوية في نظام الخدمة المدنية الدولية. وقد أكدت الجمعية العامة للأمم المتحدة ومجلس موظفيها مراراً على أن “الشخصية المعنوية للموظف الدولي يجب أن تكون منزّهة عن الشبهات، وعلى الموظف الدولي التصرف بما يعزز الثقة في نزاهة المنظمة وحيادها”. ما قام به د. إدريس – وفق ما كُشف – يمثل خداعاً مؤسسياً جرح تلك الثقة. فهو بصفته القائد التنفيذي للويبو، كان مُطالباً بأن يكون مثالاً يُحتذى به في الالتزام بالقواعد. لكن بدلاً من ذلك، قام بعمل يتعارض مع مبدأ الشفافية الذي يفترض الإفصاح عن الحقائق الجوهرية دون مواربة. إن تمرير عمر غير حقيقي ضمن السيرة الذاتية واستمرار الاستفادة الضمنية منه لعقود يخرق كذلك مبدأ المساواة؛ إذ حصل بذلك على معاملة أو فرصة ربما ما كانت لتُتاح له على قدم المساواة مع الآخرين لو أنه صرّح بعمره الحقيقي.

إضافةً إلى ما سبق، أظهر التحقيق أن د. إدريس حين واجهته الدول المعترضة رفض مراراً تقديم إيضاحات علنية واعتبر الأمر حملة سياسية ضده. هذا الأسلوب في التعامل مع أزمة تتعلق بالصدق في البيانات يثير بدوره شكوكاً حول مدى تحمّله للمسؤولية Accountability. فمن القواعد غير المكتوبة في الإدارة الرشيدة أن يعترف المسؤول بالخطأ عند ثبوته ويقوم بتصحيحه بشفافية ويعتذر عنه إن لزم. غير أن د. إدريس – وفق الروايات المتداولة – لم يبدِ قدراً كافياً من تحمل المسؤولية الشخصية، وإنما اكتفى بنسبة الأمر لخطأ كتابي ولجهات سابقة، بل وصوّره كمؤامرة، مما يمكن اعتباره محاولة للتهرب من المساءلة. من منظور قانوني داخلي، هذا الموقف السلبي قد يُستخدم كدليل إضافي على سوء النية، لأنه يرسخ الانطباع بأن التصحيح لم يكن بدافع ذاتي خالص قبل افتضاح الأمر، بل كان إجراءً اضطرارياً تحت الضغط.

رابعاً: التداعيات القانونية على حقوقه المكتسبة:

نتج عن تصحيح تاريخ الميلاد في عام 2006 تساؤلات حول ما إذا كان د. إدريس قد استفاد مالياً أو وظيفياً من هذا الخلل وبالتبعية ما إذا كان يجب حرمانه من تلك الاستحقاقات. فعلى سبيل المثال، إذا كانت أقدميته الوظيفية قد بُنيت على أساس عمره المحتسب خطأً، فإن كل الترقيات والعلاوات التي حصل عليها قد يجادل البعض بأنها جاءت نتيجة تضليل. بيد أن الواقع العملي والقانوني أكثر تعقيداً؛ إذ أن د. إدريس خدم فعلياً المدة المقررة لكل ترقية وقام بالمهام الموكلة إليه بغض النظر عن سنّه. لذا، لم تُطرح مسألة إبطال القرارات الوظيفية السابقة بشكل جدي، وإنما انحصر النقاش في نقطتين: المعاش التقاعدي ومدة الخدمة. بشأن المعاش، وكما ذكرت إدارة الويبو، فإن التصحيح أدى إلى خفض معاشه التقاعدي المتوقع، لأن نظام التقاعد الأممي يأخذ بعين الاعتبار العمر وتاريخ بدء وانتهاء الخدمة. فبإعلانه أنه أصغر سناً بتسع سنوات، صار سيُحسب أنه خدم أقل سنوات مما لو بقي على التاريخ الخطأ (إذ كان يُفترض أن يتقاعد على أساس سن أكبر وبالتالي خدمة أطول). هذا الخفض في المعاش هو جانب قانوني تقني لكنه عقوبة مالية ضمنية دفعها نتيجة التصحيح.

أما بالنسبة لمدة خدمته كمدير عام، فلم يكن هناك أثر قانوني مباشر للتصحيح عليها، لأن ولايته محددة سلفاً من قبل الدول الأعضاء (وكانت تنتهي في 2009 قبل أن يختصرها بتقريره عدم الترشح مجدداً). ومع ذلك، كان هناك نقاش قانوني حول مسألة مسوغ استمراره في المنصب بعد اهتزاز الثقة فيه. فعلى الرغم من عدم وجود نص صريح في نظام الويبو للتعامل مع حالة كهذه (حيث المدير العام منتخب من قبل مؤتمر الدول الأعضاء)، فإن الدول الداعية لمحاسبته استندت إلى مبادئ عامة في الحوكمة تقضي بأن فقدان الثقة الناتج عن مخالفة جوهرية قد يُبرر اعتبار المنصب شاغراً أو يستدعي استقالة شرفية. وفي النهاية، حلّت المسألة سياسياً باستقالته الرضائية قبل نهاية المدة، تفادياً لسابقة قانونية قد تكون معقدة. لكن من زاوية التحليل القانوني الأكاديمي، فإن فعله، لو نُظر فيه قضائياً أمام هيئة مثل محكمة المنازعات الإدارية الدولية التابعة للأمم المتحدة، كان يمكن أن يشكل سبباً مشروعاً لإنهاء خدمته للخرق الفادح لواجبات الوظيفة.

خامساً: تأثير الحصانة والمساءلة الدولية:

كما أشرنا، يشغل المدير العام لوكالة متخصصة مكانة أشبه بالدبلوماسي الدولي الرفيع ويتمتع بحصانات تحميه من الملاحقة القضائية الوطنية. لذلك، لم يكن وارداً مثلاً أن يُحاكم د. إدريس جنائياً أمام محكمة سويسرية أو سودانية عن "التزوير" في تلك الفترة. المساءلة الممكنة كانت محصورة في الإطار المؤسسي للأمم المتحدة. وهنا يبرز جانب مهم في التحليل القانوني: فجوة المساءلة في المنظمات الدولية. فقضية د. إدريس دللت على صعوبة محاسبة رئيس منظمة دولية قضائياً أو تأديبياً، حيث لا توجد سلطة أعلى منه إدارياً داخل المنظمة سوى مؤتمر الدول الأعضاء ذاته. هذا يستدعي عادة تشكيل آلية خاصة إذا أريد التحقيق المستقل معه (كما طالبت بعض الدول أن يُنظر بالأمر عبر لجنة قانونية مستقلة أو عبر مكتب خدمات الرقابة الداخلية للأمم المتحدة في نيويورك). لكن عدم وجود سابقة مباشرة جعل الموضوع ضبابياً. بالنهاية، مارس الأعضاء سلطتهم السياسية كوسيلة ضغط للمحاسبة. لذا يمكن القول قانوناً إن هذه الحالة كشفت عن ثغرة في نظام العدالة الداخلي الدولي، حيث تطلب الأمر حلاً تفاوضياً لغياب مسار واضح للمحاكمة التأديبية لرأس المنظمة.

في ضوء ما سبق، يتضح أن السلوك المنسوب لد. كامل إدريس – والمتمثل في تغيير تاريخ ميلاده في السجلات الرسمية وإبقاء ذلك طي الكتمان لفترة طويلة – يشكل مخالفة قانونية وأخلاقية جسيمة. فهو فعل يتصف بالعمد والغرضية (بغية تحقيق مكاسب مهنية)، ويندرج تحت طائلة التوصيف كاحتيال أو تزوير إداري، مما خرَق المبادئ الجوهرية للوظيفة العامة الدولية. ورغم أن الاعتبارات العملية والسياسية حالت دون مساءلة تقليدية فورية، إلا أن التقييم الموضوعي من منظور قواعد النزاهة والشفافية يضع هذا التصرف في خانة السلوك المدان الذي كان يستوجب إجراءات تصحيحية صارمة.

الاستفادة من التزوير للحصول على امتيازات مالية ووظيفية

  أحد الأسئلة الجوهرية التي أثارتها لجنة التحقيق وتم تداولها في أوساط الدول الأعضاء هو: ما الدافع وراء تغيير د. كامل إدريس لتاريخ ميلاده؟ وما الفوائد التي جناها أو كان يأمل في جنيها من وراء ذلك؟ بالإجابة على هذا السؤال، نستطيع تقييم خطورة الفعل من حيث نتائجه، وليس فقط من حيث مجرد مخالفته للنصوص. وفيما يلي أبرز أوجه الاستفادة المحتملة التي رصدها التحليل في قضية د. إدريس:

أولاً: الحصول على الوظيفة والترقيات ابتداءً:

 الفائدة الأكثر وضوحاً هي تمكين د. إدريس من الحصول على أول وظيفة له في الويبو عام 1982 على مستوى رفيع (P-4) رغم أنه لم يكن ليستوفي متطلباتها العمرية والخبراتية بسنه الحقيقي آنذاك. فبفضل الادعاء بأنه من مواليد 1945، ظهر أن لديه عشر سنوات إضافية من العمر والخبرة. لقد ساواه ذلك بمرشحين أكبر منه سناً وأكثر تجربة، مما مكنه من المنافسة على قدم المساواة وربما التفوق عليهم في نظر لجنة التوظيف. ويمكن القول إنه لولا هذا الفرق العمري المصطنع، لما كان من المرجح أن يُختار لشغل ذلك المنصب المتقدم في تلك السن المبكرة. وبالتالي، فإن مجمل مساره المهني اللاحق في المنظمة بُني على تلك الخطوة الأولى التي ربما ما كان لينالها دون التزوير.

ثانياً: بناء سمعة مهنية أقوى وأسرع:

استمرار د. إدريس باستخدام تاريخ الميلاد 1945 طوال الفترة اللاحقة جعله يبدو أمام زملائه ومرؤوسيه أكبر سناً وأكثر خبرة مما هو فعلياً. فعلى سبيل المثال، عندما أصبح مديراً عاماً للويبو في 1997، وُثّق في سجلات المنظمة وعند الدول الأعضاء أنه يبلغ من العمر 52 عاماً تقريباً، بينما في الواقع كان عمره 43 سنة فقط. هذا الفارق مهم على صعيد الانطباع: كان يُنظر إليه كدبلوماسي مخضرم قضى سنين طويلة في الخدمة، وليس كرجل في أوائل الأربعينات (والذي يُعد عمراً صغيراً نسبياً لتولي قيادة منظمة أممية كبرى). ربما أكسبه ذلك مزيداً من الاحترام أو الثقة من بعض الأطراف التي قد تتحرج من تسليم دفة منظمة لشخص يُعد "شاباً" بمقاييس المناصب القيادية الدولية. أي أنه استفاد ضمنياً من "هالة الخبرة" المصطنعة تلك لتعزيز موقعه القيادي وترسيخ استمراره فيه.

ثالثاً: تجنب التساؤلات حول سرعة الترقي الوظيفي:

مرتبط بالنقطة السابقة، لو كان عمر د. إدريس الحقيقي معروفاً دوماً، لكان مساره المتسارع في الترقية موضع تساؤل أكبر. إذ تقلّد مناصب عليا في فترة زمنية قصيرة نسبياً، فترقي من موظف جديد في 1982 إلى مدير عام بحلول 1997 (أي خلال 15 عاماً فقط). لو علم الجميع أنه حقق ذلك وعمره 43، لاعتُبر من بين أصغر من تولى منصب مدير عام لوكالة أممية في التاريخ. وربما كان ذلك سيثير استغراباً أو حتى اعتراضاً ضمنياً من بعض الدول أو القوى المؤسسية التي تفضل القيادات الأكبر سناً ذوي التجربة الطويلة. لكن بانتحال عمر 52 أثناء انتخابه مديراً عاماً، زال هذا العائق النفسي أو السياسي، ما سهّل قبول ترشيحه. وعليه، كان تزوير العمر بمثابة تزيين للسيرة يمنح شعوراً زائفاً بالطمأنينة حيال أهليته واستحقاقه السريع للمناصب.

رابعاً: تمديد الأفق المهني ومخططات البقاء:

إحدى الفرضيات القوية التي تناولها النقاش داخل الويبو هي أن د. إدريس لجأ أخيراً لتصحيح تاريخ ميلاده في 2006 تمهيداً لترتيبات شخصية مستقبلية. فقد قيل إنه أراد أن يبدو أصغر سناً مع اقتراب نهاية ولايته الثانية، ربما ليتيح لنفسه فرصة الترشح لولاية ثالثة أو للبقاء في الساحة الدولية لفترة أطول دون عائق السن. فرغم أن منصب المدير العام ليس له سن تقاعد محدد، إلا أن الأعراف قد تجعل شخصاً من مواليد 1945 (الذي سيبلغ 64 عاماً في 2009) أقرب للتقاعد وعدم التفكير بتمديد خدمته، بخلاف شخص مولود 1954 (الذي سيكون 55 عاماً في 2009، ويبدو لديه مجال للعطاء سنوات أخرى). وبالفعل، ذكر تقرير اللجنة أن تغيير سنة الميلاد كان بغرض تمكينه من الاستمرار لفترة ثالثة على رأس المنظمة. أي أن الدافع المحتمل لم يكن فقط تصحيح خطأ قديم، بل استثمار هذا التصحيح لفتح الباب أمام تمديد فترة قيادته. ولو لم تنكشف الضجة حول الموضوع، لربما استخدم ورقة كونه "ما زال شاباً نسبياً" لإقناع الدول بتمديد ولايته بعد 2009. ومن زاوية أخرى، أشار التقرير أيضاً إلى أن لدى د. إدريس وعائلته مصالح معيشية في سويسرا (حيث حصل أفراد أسرته على الجنسية السويسرية عام 2004)، وأن الحصول على الجنسية السويسرية له شخصياً ربما كان يتطلب توحيد البيانات الرسمية وتنسيقها مع واقع سجلاته الصحيحة، ما شكل حافزاً إضافياً لتصحيح العمر في هذا التوقيت.

خامساً: الاستحقاقات المالية ومكافأة نهاية الخدمة:

على الرغم مما أُعلن رسمياً أن تصحيح السن سيخفض معاشه، فإن التقرير لم يستبعد كلياً احتمال استفادته مالياً في سيناريوهات معينة. فقد أشار إلى أنه إذا تمكن د. إدريس من البقاء في الخدمة الأممية لخمس سنوات إضافية بعد 2009 (سواء بالتجديد في الويبو أو الالتحاق بمنصب آخر في الأمم المتحدة)، فإنه كان سيعوض خسارة المعاش بل وربما يفوقها. كذلك لو أنه غادر المنظمة قبل نهاية ولايته لأسباب طارئة (كأن تقبل استقالته مبكراً في خضم الفضيحة)، كان يحق له نظرياً تعويض نهاية خدمة مُجمّد وربما حزمة مالية مرتبطة بتركه المنصب قبل الأوان. بالفعل، نوقش في أروقة الويبو عام 2006 اقتراح إداري لمنح تعويض خاص للمسؤولين الذين تنتهي خدمتهم قبل بلوغ سن التقاعد لأسباب سياسية (كأن يتركوا المنصب الرفيع بانتهاء ولايتهم دون أن يصلوا لسن المعاش). ورغم أن هذا الاقتراح سُحب لاحقاً ولم يُقرّ، إلا أن مجرد طرحه أثار الظنون بأنه ربما كان مصمماً خصيصاً لحالة د. إدريس ليستفيد منه إن غادر مبكراً. يمكن القول إن الحسابات الدقيقة لتلك المنافع كانت ولا تزال محل جدل، لكن الواضح أن د. إدريس وحلفاءه حاولوا رسم صورة مفادها أن "التصحيح جاء ضد مصلحته المالية"، بينما كشف المدققون أن الصورة أعقد من ذلك وربما تضمنت منافذ تحقيق منافع مؤجلة أو جانبية.

إجمالاً، استفاد د. كامل إدريس من تزوير تاريخ ميلاده بصورة مباشرة في تأسيس وترقية مسيرته المهنية داخل منظمة الويبو، وبصورة غير مباشرة في تعزيز وضعه القيادي وهيبته كمسؤول دولي كبير السن والخبرة. أما محاولة تصحيح البيانات في وقت متأخر، فيُرجّح أنها خطوة تكتيكية جاءت لتحقيق مكاسب مستقبلية (كإطالة عمر دوره القيادي أو تهيئة وضع قانوني أفضل لتقاعده أو وضعه الشخصي). وبالتالي فإن الدافع النفعي في هذه القضية حاضر بقوة، مما يزيد من جسامة الفعل مقارنة بحالة خطأ بريء لا طائل منه.

النتائج والتوصيات

  بعد استعراض كافة جوانب القضية والتحقيق في ملابساتها، توصل هذا التقرير التحليلي إلى جملة من النتائج الواضحة بشأن سلوك د. كامل إدريس، كما يطرح التوصيات المناسبة في ضوء تلك النتائج. يمكن تلخيص ذلك على النحو التالي:

نتائج التحليل:

  1. ثبوت واقعة التلاعب بالبيانات الشخصية:تأكد بصورة لا لبس فيها أن د. كامل إدريس قام بتسجيل تاريخ ميلاد غير صحيح (1945 بدل 1954) في سجلات المنظمة العالمية للملكية الفكرية منذ التحاقه بها. واستمر هذا الخطأ لعقود دون تصحيح، مما يثبت أن الأمر لم يكن مجرد سهو عابر بل نمط مستمر من تضليل الجهات الرسمية بشأن معلومة أساسية تخص الهوية الشخصية. كما تبين وجود تغييرات في سيرته الذاتية (تواريخ الخبرات العملية) تتسق مع هذا التلاعب بهدف إظهار خبرة مبكرة لا تتوافق مع عمره الحقيقي.
  2. انتهاك جسيم لمبادئ النزاهة والمصداقية:يشكل سلوك د. إدريس خرقاً صارخاً لمبدأ النزاهة الوظيفية. فبصفته موظفاً دولياً رفيع المستوى، كان من المفترض أن يتحلى بأعلى درجات الصدق في المعلومات المقدمة للمنظمة. إلا أن تعمده إغفال التصحيح لعقدين من الزمن ينال من مصداقيته الشخصية والمؤسسية. لقد أدى هذا السلوك إلى أزمة ثقة حقيقية داخل الويبو وبين الدول الأعضاء، باعتبار أن رأس المنظمة تورط في ممارسة تتنافى مع معايير الشفافية التي يُفترض أن تلتزم بها المؤسسة الدولية.
  3. وجود قصد ونية تحقيق منفعة غير مشروعة:من سياق الأدلة والوقائع، يظهر أن د. إدريس استفاد بطرق مختلفة من تغيير عمره، سواء بالحصول على الوظيفة أساساً أو بتيسير صعوده السريع وترسيخ صورته كخبير متمرس. كما أن توقيت مبادرته لتصحيح الخطأ عام 2006 يثير الشك بأنه كان خطوة محسوبة لتحقيق مكاسب مستقبلية أو تفادي ضرر أكبر مع انتشار الخبر. وعليه، فإن عنصر القصد الجنائي أو الاحتيالي متوفر في هذه الحالة، ما يعني أننا لسنا أمام خطأ إداري بريء، بل أمام سلوك مخطط له لتحقيق غايات شخصية على حساب قواعد النزاهة.
  4. قصور آليات المحاسبة الداخلية في المنظمات الدولية:أبرزت هذه القضية جانباً مؤسفاً يتمثل في صعوبة محاسبة مسؤول دولي كبير عبر قنوات المساءلة التقليدية. فلم يكن هناك بروتوكول واضح لمعاقبة مدير عام وكالة أممية على فعل كهذا، مما اضطر الدول الأعضاء إلى اللجوء لوسائل ضغط سياسية وتوافقات لحل المسألة. انتهى الأمر فعلياً باستقالة د. إدريس قبل انتهاء ولايته وحرمانه من بعض المنافع المالية (كجزء من معاشه)، وهي نتيجة عملية لكنها جاءت دون إقرار رسمي بخطأه أو عقوبة قانونية صريحة. هذا يسلط الضوء على الحاجة الملحة إلى سد الثغرات في أنظمة الرقابة داخل المنظمات الدولية، لضمان إمكانية محاسبة حتى أعلى المسؤولين عند اقترافهم تجاوزات.
  5. تداعيات خطيرة على سمعة المؤسسة المعنية: تكبدت الويبو أضراراً معنوية وإدارية جراء هذه الفضيحة. فقد انقسمت الدول الأعضاء فيما بينها، وتوقفت بعض البرامج مؤقتاً (مثل عدم اعتماد الميزانية في موعدها المعتاد لعام 2008-2009)، وواجهت المنظمة انتقادات إعلامية ودبلوماسية واسعة النطاق. ومن زاوية الحوكمة، اهتزت صورة الويبو كمؤسسة كانت تفاخر سابقاً بحسن إدارتها وملاءتها المالية. وهكذا يتضح أن التزوير الفردي إذا صدر ممن هو في موقع القيادة يمكن أن يترجم إلى أزمة مؤسسية شاملة، مما يؤكد الترابط بين أخلاقية القيادة وسلامة المنظمة.

توصيات ومقترحات:

أولاً: على مستوى المنظمات الدولية (كالويبو والأمم المتحدة):

 ينبغي استخلاص درس جوهري من هذه القضية لتعزيز إطار الحوكمة والمساءلة. يوصى بتحديث اللوائح الداخلية للمنظمات الدولية لتشمل آليات واضحة للتحقيق والمحاسبة مع المسؤولين التنفيذيين الكبار عند وجود ادعاءات خطيرة تتعلق بالنزاهة. كما يجب فرض إجراءات تدقيق أكثر صرامة عند التوظيف والترقية، تشمل التحقق من صحة الوثائق الشخصية (كشهادات الميلاد والمؤهلات) حتى بالنسبة للمرشحين لمناصب عليا. ربما يكون من المناسب إنشاء هيئة رقابية مستقلة دائمة داخل الوكالات الدولية، تتمتع بصلاحية التحقيق في سلوك أي موظف مهما علت رتبته، وترفع توصيات ملزمة أو شبه ملزمة إلى الهيئات التشريعية (الدول الأعضاء). إن تبني ثقافة الشفافية يتطلب أيضاً توفير قنوات محمية للإبلاغ الداخلي عن أي شبهات فساد أو تزوير (قنوات الإبلاغ الآمن عن المخالفات Whistleblowing) بما يحمي المبلغين ويصحح الأوضاع قبل تفاقمها.

 

ثانياً: على مستوى الدول الأعضاء في المنظمات الدولية:

يتعين على الحكومات الأعضاء الاضطلاع بدورها في المطالبة بالمساءلة دون محاباة. فقضية د. إدريس أظهرت تسييساً في مواقف بعض الكتل (حيث ركزت بعض الدول على الدفاع عنه بدوافع جغرافية أو سياسية بدل النظر إلى جوهر الفعل). التوصية هنا هي ضرورة اعتماد معايير موحدة تُدين السلوك الخاطئ أياً كان مرتكبه وأياً كانت جنسيته، حرصاً على مصداقية المنظمة الدولية ككل. على المدى الطويل، قد تفكر الدول في إبرام اتفاقية متعددة الأطراف حول معايير السلوك والمساءلة لرؤساء المنظمات الدولية، تسد الفراغ القانوني الحالي وتسمح باتخاذ إجراءات قانونية مدروسة عند الحاجة بدل الحلول المرتجلة.

ثالثاً: في السياق الوطني السوداني الحالي:

 أما وقد أصبح د. كامل إدريس جزءاً من المشهد السياسي السوداني كرئيس للوزراء في حكومة بروتسودان المؤقتة، فإن على المؤسسات السودانية والمعنيين بالشأن العام مراعاة هذا السجل السيء عند تقييم أدائه ومصداقيته. لا يعني ذلك بالضرورة إقصاءه الفوري بسبب خطأ الماضي، إذ قد يرى البعض أنه دفع ثمنه بالتنحي آنذاك، لكن وجوب اتخاذ العبرة قائم. فالتوصية للجهات المختصة هي تشديد آليات التحقق من مؤهلات وسير الذاتية لجميع من يتولون مناصب عليا، لضمان أن يكون الاختيار قائماً على الشفافية والاستحقاق. كما يجدر بد. إدريس نفسه أن يتبنى نهجاً شفّافاً في أدائه الحالي، وأن يبدد أي مخاوف حول نزاهته من خلال الالتزام الصارم بالإجراءات والمؤسسية وسيادة القانون، بحيث يبرهن عملياً على تجاوز تلك المرحلة المظلمة من تاريخه المهني. إن حمولة الماضي يمكن التعامل معها عبر إظهار القدوة الحسنة حاضراً.

رابعاً: تعزيز الوعي بأهمية الوثائق الرسمية ودقتها:

توصي هذه اللجنة بأن يُصار إلى حملات توعوية داخل المؤسسات الدولية والوطنية على حد سواء، تؤكد أن تزوير البيانات الرسمية جريمة ومخالفة جسيمة لا ينبغي التساهل معها. إن حالة د. إدريس يجب أن تُدرّس كمثال لتحذير الموظفين من مغبة التفكير في أي تلاعب مماثل، ولتذكير المسؤولين بأن انكشاف الحقيقة ولو بعد عقود قد يطيح بالسمعة والمنصب المسيرة المهنية ويعرّض المؤسسة لأضرار بالغة.

خامساً:  سجلات التحقيقات السرية وأرشفتها:

أخيراً، نوصي بأن تُرفع السرية عن التحقيق السري الداخلي المتعلق بالدكتور/ كامل ادريس لعام 2006م، وأن يُنظر في إمكانية نشر خلاصاتها للعبرة بعد مرورها الفترة الزمنية الكافية.

    فالسرية المفرطة في مثل هذه القضايا ربما تحرم هيئات المجتمع الدولي من فرصة التعلم من الأخطاء. إن النشر المستفاد منه، من شأنه تعزيز الشفافية العامة وردع السلوك غير القويم في المستقبل.

 ختاماً، يشدد هذا التقرير على أن واقعة تغيير تاريخ الميلاد والسيرة الذاتية للدكتور كامل إدريس لم تكن حادثة معزولة أو بسيطة، بل مثّلت إخلالاً خطيراً بواجبات الأمانة الوظيفية على أعلى المستويات. ورغم انتهاء تلك القضية باستقالة المعني وخروجه من المنظمة، إلا أن صداها يظل تحذيراً مهماً في ميدان الإدارة الدولية.

 ففي الوقت الذي يتطلع فيه السودان إلى مرحلة جديدة بقيادة د. إدريس وآخرين، يبقى التأكيد ضرورياً على قيم الصدق والمؤسسية وسيادة القانون كمرتكزات لأي حكم رشيد. إن مكافحة الفساد والتزوير لا تتجزأ؛ وعلى من تصدى لمسؤولية عامة أن يكون ماضيه وحاضره نظيفين أو أن يبذل قصارى جهده لإثبات التزامه بالإصلاح. فقط عبر ذلك يمكن استعادة ثقة الشعب والمؤسسات فيمن يتولون زمام القيادة، سواء على المستوى الوطني أو الدولي.

"كوسباس-سارسات" في الإمارات: تعزيز التعاون الإنساني بتقنيات الأقمار الصناعية


دبلوماسية أم حرب؟ مفاوضات روما تواجه شبح الهجوم الإسرائيلي على إيران


بعد عقود من الفوضى: هل يتمكن لبنان من نزع سلاح المخيمات وحزب الله؟


تقرير: جولة ترامب الخليجية تُعيد رسم خريطة الشرق الأوسط وتهمش إسرائيل