الأدب والفن
الزعبلاوي نموذجًا
الله والرمز في أدب نجيب محفوظ
تعتبر رواية «أولاد حارتنا» مرحلة أساسية ومركزية في مسيرة «نجيب محفوظ» الأدبية وفي تكامل فكره الروائي، فبعد توقف دام سنوات بعد كتابة «الثلاثية» عاد محفوظ بتجربة فنية مثيرة تحاول قراءة تاريخ الإنسانية في حارة تقع حدودها بين الجبل والوادي ويملأ نطاقها سكان من أصل سلالة واحدة سلبهم فتوات الحارة ونظار الوقف إرثهم، فما زالوا يحلمون بيوم تغفر فيه لعنة قديمة أورثها لهم جدهم الأكبر «الجبلاوي» الذي انزوى منذ سنوات في حجرته في البيت الكبير بعد أن دب في جسده الوهن وشاخ، لتصنع حول حياته الحكايات ويصير لغزًا فلا يعرف إن كان حيًا أو ميتًا. وليس الغرض هنا هو التعرض لما قدمه نجيب محفوظ في تلك الرواية لكن تبقى أولاد حارتنا قادرة على إعطائنا بعض الإشارات ذات الدلالة الواضحة من حيث المحتوى والمضمون لمشكلة الله في الأدب العربي، وعلى فهم واستيعاب تلك الخطوط الأدبية التي تولدت مع نص أولاد حارتنا وامتدت إلى أعمال محفوظ التالية، فأسلوب تلك الرواية وبناؤها الأدبي أكسبها أكثر من مستوى في الفهم والمعنى وبالتالي تعددت التفسيرات وكثرت القراءات، وبعيدًا عن الإشكاليات التي وقع فيها ذلك النص إلا أنه قدم لنا بصورته الخام تلك مجالًا واسعًا لعرض رؤية محفوظ للحقيقة، فالجبلاوي الذي شارك في صنع مأساة تلك الحارة هو ذاته الذي يسعى الجميع للتوصل إليه ومعرفة حقيقة وجوده والهتاف باسمه أحيانًا حتى يخرج عن صمته لنجدتهم، فالدلالة والرمزية الواضحة جعلت الرواية تستقبل بالرفض والاستنكار، وحاولت السلطة آنذاك أن تستغل المعركة بين محفوظ والمؤسسة الدينية الرسمية لتؤكد أنها وإن كانت ضد أيديولوجية دينية ما فهي ليست ضد الدين ذاته، ولا شك أن مأزق أولاد حارتنا وضع محفوظ أمام مفترق طرق في مسيرته الأدبية؛ فتكوين الحارة بكل ما يتضمنه من واقعية وأنماط متعددة للسكان كان قالبًا عظيمًا لصب أفكاره الأدبية ولاستخدام نطاقها المحدود للتعبير عن نظرته السياسية والاجتماعية والدينية، لكن المباشرة في الترميز جاءت صادمة فلم تحمل الدلالات الفنية لكل شخصية قدرًا كافيًا للتشابك بين الأصل والصورة خصوصًا بعدما تقيد محفوظ بالخطوط العريضة للمادة الدينية والتاريخية التي صاغ منها روايته، ليظل الجوهر الفلسفي لرواية أولاد حارتنا هو نقطة المركز في وعي محفوظ يظل العنصر الاجتماعي والميتافيزيقي لها هو غاية مرحلته الفكرية، فكانت ضرورة تطوير لغة الرمز والتورية في كتابته حتمية لا مفر منها حتى وإن اشتدت تلك التورية ليدخل بعضها مرحلة التعقيد، ولتبدأ مرحلة جديدة في أدب محفوظ حصرت أطرافها في الصراع بين العلم والغيبيات أو ربما بين الحقيقة والوهم، فجاء الشكل الروائي لأعماله بدءًا من رواية «اللص والكلاب» عام 1961 حتى رواية «الشحاذ» عام 1965، مصبوغًا بروح الرحلة والبحث الدائم عن يقين حقيقي ومعنى مفقود يساعد في تجاوز حدود الزمان والمكان أو ربما معنى يوطد العلاقة بالأصل، وهو المعنى ذاته الذي حاول إيجاده «جبل» و«رفاعة» و«قاسم» و«عرفة» في أولاد حارتنا، وربما كانت الشحاذ أكمل روايات تلك المرحلة فمساحة السؤال تمددت وهو ما كان قادرًا على توضيح عمق الحركة الرمزية التي أرادها محفوظ بدءًا من أولاد حارتنا، والفجوة التي وُجدت بين عقل وعقيدة عمر الحمزاوي هوت به في بئر فقدان اليقين حتى أدرك حقيقة هذا قائلًا: «نشوة الحب لا تدوم، ونشوة الجنس أقصر من أن يكون لها أثر والعاصفة الهوجاء تجتاحك لتقتلعك، والاستقرار قد مات ولا سبيل إلى بعثه»!
زعبلاوي ومعارج اللقاء
في السنة التي صدرت فيها رواية «السمان والخريف» عام 1962 طبعت لمحفوظ مجموعة قصصية تحت اسم «دنيا الله» جُمعت فيها أربع عشرة قصة قصيرة، يبدو معظمها قد كتب في المرحلة الأولى في حياة محفوظ أي قبل أن ينشر ثلاثيته التاريخية، فالأسلوب الذي استخدمه والذي تلقينا بمقتضاه تلك القصص جاء بسيطًا وهو ما يناقض بالكلية لغة مرحلة روايات الرحلة التي جاءت مبطنة بتكنيك لغوي خاص، وما بين نصوص دنيا الله برزت قصة «زعبلاوي» وهي قصة قصيرة يدور محورها حول رجل مريض يسعى أن يلتقي بولي من الأولياء يدعى الزعبلاوي لمداواته من مرض لا شفاء منه، فتمر رحلة بحثه تلك بمحطات عدة يلتقي فيها بالمحامي، وشيخ الحارة، والخطاط، والموسيقار، وأخيرًا السكير الذي فتحت آفاق الأمل على مائدته حين حضر الزعبلاوي، وأول ما يجذب الانتباه هو ذلك التشابه في الرنين بين الزعبلاوي والجبلاوي، بل إن الصيغة التي رسمت بها شخصية الزعبلاوي تضعه هو الآخر كمحور بحث وكأداة للمعرفة والقدرات الخاصة وهي ذاتها ملامح الجبلاوي في أولاد حارتنا، إلا أن الزعبلاوي شيخ صوفي وولي صادق شيال للهموم، تلك الصفات الخارقة مثلت قناعة ضرورية ليجد بطل القصة الشيخ الزعبلاوي بعدما أصابه «الداء الذي لا دواء له عند أحد» فشقاء أهل الحارة خارج أسوار البيت الكبير تُرجم هنا إلى داء لا شفاء منه كدلالة واضحة على شقاء الإنسان، ولا يربط بين الراوي والزعبلاوي إلا خيوط الذاكرة فهو في بداية القصة يتذكره من خلال أغنية شعبية ترسم لنا حدود التصور الشعبي للزعبلاوي الذي يظهر من خلال سجع الأغنية محورًا للسؤال والمعرفة، فيذكر الرواي الشيخ الولي من ذكرياته مع والده «وذكرت أن أبي قال إنه عرفه في بيت الشيخ قمر في خان جعفر، وهو شيخ من رجال الدين المشتغلين بالمحاماة الشرعية» لكن الشيخ قمر قد هجر المحاماة الشرعية وهجر حي الجمالية ليقيم في جاردن سيتي، فدلالة الانفصال عن الدين وتطليق الحياة الشرعية واضحة خصوصًا إذا قُرأت البدلة والسيجار والسجاد النفيس والسكرتيرة الحسناء على أنها صورة للمدنية الحدثية، حتى فتور ردوده تحاول أن ترسم صورة كاملة لجمود العلم وبرود عاطفته أمام العالم الروحي وهو ما يترسخ لنا من استعمال صيغة الماضي في إجابات الشيخ قمر الذي قال «كان هذا في الزمان الأول وما أذكره اليوم»، وقال حين سأله عن قدرات الزعبلاوي «كنا نراه معجزة»، لكنه يرشده أن يسأل عنه في بربع البرجاوي في الأزهر وهو حي مكتظ بالسكان لكنه تآكل منذ القدم ولم يبقَ منه إلا واجهة أثرية وحوش استعمل كمزبلة، وليس بالضرورة أن تقدم لنا الصورة السابقة للحي دلالة على تآكل الدين وتراجعه لكنها ربما ترسخ انسلاخ المجتمع عن القيم الروحية المتجسدة في الزعبلاوي الذي غادر ذلك الحي بعدما صار غير صالح لسكن أمثاله من الأولياء، وبذلك يتوازى التصور الاجتماعي مع التصور الميتافيزيقي داخل بنية القصة، ويصبح تحسر بائع الكتب الصوفية على الزعبلاوي الذي قابله الراوي على أعتاب ربع البرجاوي مبررًا حين قال له «الزعبلاوي! يا سلام! والله زمان!»، ويستمر البحث فيتواصل الراوي مع شيخ حارة الحي الذي يؤكد أن الزعبلاوي ما زال حيًا وقد ذكر «جورج طرابيشي»[1] في تفسيره لتلك القصة أن «شيخ الحارة لابد أن يعرف، على وجه التحديد لأنه شيخ حارة، ووظيفته أن يعرف والرمز هنا لا يخفي نفسه، فمن كان وظيفته المعرفة، كان العلم اسمه الحقيقي» ولعل طرابيشي يرى في وظيفة شيخ الحارة صورة للعلم ولكن العلم في الحقيقة لا يقدم رؤية صريحة قاطعة بوجود إله أو سلطة روحية عليا وهو ما يطرح السؤال عن ماهية ذلك العلم وحدوده، وعلى كل حال من دكان شيخ الحارة صار وجود الزعبلاوي مؤكدًا، ولأن الفن صورة من صور المعرفة، والنشوة التي يجدها الفنان في الخلق الفني هي النشوة التي ينسب إليها الصوفي، طرق الرواي باب فنانين هما «حسنين الخطاط» في منطقة أم الغلام و«الشيخ جاد» الملحن في شارع التمبكشية لتدخل رحلة السارد هنا إلى منطقة الحدس الفني كإشارة على أن الفنون أقرب الطرق إلى النظرية الروحية، فالرواي يتكشف له بعض من عالم الزعبلاوي عندما يلتقي بالشيخ جاد الملحن، فيظهر التصور الفني للزعبلاوي وما يمثله من سلطة روحية على أنه الإلهام والطرب، وهو ما يكون للفن بعدًا صوفيًّا يقوم على إعدام الحواس والاعتماد على البصيرة، بل إنه يصنفه كمرحلة تسبق التجلي الكامل، وربما أراد محفوظ أن يصور رحلة البحث تلك على أنها أحوال ومقامات تشبه المراقي التي يسلكها الصوفي في رحلة الفناء في الذات الإلهية، والفناء لا يقوم إلا على رياضة النفس وجهادها وهو ما يستنتج من حديث الملحن مع السارد حين قال له «هذا العذاب من ضمن العلاج» وتأتي بعد هذا مرحلة اللقاء بالحاج «ونس الدمنهوري» ليكون هو العتبة النهائية في مدارج الارتقاء إلى حضرة الزعبلاوي، وهي مرحلة الفناء المعبر عنها رمزيًا في القصة بنشوة السكر، فالحاج ونس الدمنهوري رجل سكير له مائدة دائمة في ركن شبه معزول في حانة «النجمة» في شارع «الألفي» ولا يمكن لأحد أن يجالسه دون أن يشرب معه، ودلالة الخمرة في الوعي الصوفي دائمًا ما تعبر عن نشوة الوجد، وأغلب أشعار الصوفية عن السُكر تكون ذات معنى باطني للإشراق الإلهي، ثم تسير القصة في خطها فتبدأ الخمر تسري في عروق الراوي ويدخل في غيبوبة قصيرة يرى فيها حلمًا عجيبًا تظهر فيه ملامح حالة الوجد التي يعيشها المتصوفة عند الاتصال بالمدارك العليا «حلمت حلمًا جميلًا لم أحلم به من قبل. حلمت بأنني في حديقة لا حدود لها. تنتشر في جنباتها الأشجار بوفرة سخية فلا ترى في السماء إلا الكواكب خلل أغصانها المتعانقة يكتنفها جو كالغروب أو كالغيم وكنت مستلقيًا فوق هضبة من الياسمين المتساقط كالرذاذ، ورشاش نافورة صاف ينهل على رأسي وجبيني دون انقطاع. وكنت في غاية الارتياح والطرب والهناء. وجوقة من التغريد والهديل والزقزقة تعزف في أذني. وثمة توافق عجيب بيني وبين نفسي وبيننا وبين الدنيا فكل شيء حيث ينبغي أن يكون بلا تنافر بلا إساءة أو شذوذ. وليس في الدنيا كلها داع واحد للكلام أو الحركة ونشوة طرب يضج بها الكون» وفي الوقت ذاته الذي غاب فيه السارد عن الوعي يحضر الزعبلاوي ويحاول إيقاظ السارد لكن دون جدوى ليتأكد هنا الجوهر الصوفي للتوحد بين المريد والولي، فالسارد يدخل في غيبوبة ليرى ذاته ويجد شفاءه بنفسه ويصبح الموت الكامل لحواسه بوابة لإدراك المعرفة، ورغم أن الرواي لم يرَ الزعبلاوي إلا أنه تأكد من وجوده فكان كلما أخذه اليأس تذكر ما رآه في حضرته ليصبح معاودة البحث عنه حتمية لا مفر منها ولتختم القصة بجملة «نعم، علي أن أجد زعبلاوي»!
ولا شك أن قصة زعبلاوي قدمت في أعماقها صورة لمعارج البحث عن الذات العليا لكنه معراج معكوس الوجهة؛ فطريق السارد بدأ من أعلى درجات العلم والمعرفة حتى انتهى على بوابة التصوف ونشوة الدروشة، وربما كان التماثل الشكلي بين قصة زعبلاوي ورواية أولاد حارتنا طريقًا آخر لإعادة السؤال القديم فيما يخص الدين والعلم، لكن هذا السؤال لا يلغي إمكانية أن يكون نص قصة زعبلاوي حاملًا لدلالات أخرى بعيدة عن مضمون أولاد حارتنا، ولا يمكن القول إن ما قدمناه من تأويل لهذه القصة هو التأويل الوحيد لها، لكنها قراءة قائمة على عناصر نصية تترواح بين الظاهرية والباطنية التي تختلف في تعدد معانيها، فمضمون قصة الزعبلاوي اعتمد على السؤال والبناء النصي لها تشكل على أساس محاولة إيجاد طريق بين الذات والذات الإلهية وهو ما تطور بعد ذلك في أدب محفوظ أكثر ليتجلى في روايتي الطريق والشحاذ!
نقلا عن ساسة بوست