الأدب والفن

صراع مذهبي بين السنة والشيعة..

تقرير: كيف افتتح الصراع التركي الإيراني على ملكية العراق؟

«بين العجم والروم بلوى ابتلينا»

كانت جريرة العراق الوحيدة في مطالع العصر الحديث جغرافية، فبوقوعه بين تركيا العثمانية وإيران الصفوية، أصبح مصيره التحول إلى ساحة رئيسية لحرب طويلة بين الدولتين، امتدت لثلاثة قرون متواصلة، وأورثت بلاد الرافدين الأحقاد المذهبية والإحن الطائفية التي لا يزال أهلها يعيشونها حتى اللحظة الحاضرة.

افتتح الصراع التركي الإيراني على ملكية العراق في بواكير فاتحة القرن الـ16 الميلادي، على إثر تأسيس الشاه إسماعيل للسلالة الصفوية في إيران العام 1501، ونشره المذهب الشيعي الاثنى عشري فيها بالقوة، وتطلعه لضم العراق، وشرق الأناضول إلى دولته.

قبل ذلك التاريخ، كان العثمانيون في إسطنبول، ومن خلال الطريقة الصوفية البكتاشية، يتشاركون مع دعاة الحركة الصفوية نفس المعتقد الشيعي القائم على تقديس الثالوث "الله، محمد، علي". ولكن مع تحول الصفويين إلى حركة سياسية ذات غرض توسعي تهدد سيادة السلطنة العثمانية في الأناضول بشكل مباشر، فإن التوافق في المعتقد بين الطرفين لم يعد مانعا لتحولهما إلى الخصومة المميتة.

تحرك السلطان العثماني سليم الأول إلى شرق الأناضول للقضاء على النشاطات الصفوية فيه، فقضى بدموية مطلقة على ثورة القزلباش (ذوو أغطية الرأس الحمراء) من دعاة الشاه إسماعيل، ثم اصطدم بقوات الأخير نفسه وسحقها في معركة جالديران عام 1514.

كان انتصار سليم إيذانًا ببدء عصر عثماني جديد، تحولت فيه العمليات العسكرية التركية إلى الشرق الإسلامي بدلًا من شرق ووسط أوروبا، وتوج سليم تلك الفترة بإسقاط الحكم المملوكي العريق في مصر والشام بين عامي 1516 و 1517.

رغم ذلك، ظل العراق في أيدي الصفويين، وبعيدًا عن السيادة العثمانية. وكان على الأتراك الانتظار حتى العام 1534، الذي أسقط فيه السلطان العثماني سليمان القانوني بغداد، وأدرج بعده العراق ضمن المجال الجغرافي لدولته.

أدخل الغزو العثماني أرض الرافدين في عصر طويل لم ينته إلا مع الحرب العالمية الأولى (1914 - 1918). هذا العصر ستصبح فيه الصراعات العثمانية - الصفوية هي المشكل الرئيس لحياة العراق، ورغم أن العثمانيين ظلوا طوال تلك الفترة التي بلغت الأربعة قرون، على نفس القناعات القديمة بالإيمان في ثالوث شيعي مقدس، فإنهم قلبوا صراعهم مع السلالة الصفوية على حكم العراق الغني بموارده، ومكانته في التجارة الدولية إلى صراع مذهبي بين السنة (العثمانيون)، والشيعة (الصفويون).

يقول عالم الاجتماع علي الوردي في كتابه «لمحات اجتماعية من تاريخ العراق الحديث»: «الدولة الإيرانية اتخذت التشيع شعارا لها، بينما اتخذت الدولة العثمانية شعار التسنن، فأدى ذلك إلى استفحال الصراع الطائفي في العراق إلى درجة لا تطاق».

ويردف: «يجب أن لا ننسى أن الصراع الطائفي كان موجودًا في العراق منذ صدر الإسلام، وطالما شهدت بغداد في العهد العباسي معارك بين المحلات السنية والشيعية يسقط فيها الكثير من القتلى، وتحرق البيوت والأسواق، وتنتهك حرمة الأماكن المقدسة. ولكن هذا الصراع بلغ أوجه عندما حدث التنازع بين الدولتين الإيرانية والعثمانية حيث صار أهل العراق لا يفهمون من شؤون حياتهم العامة سوى أخبار هذه الدولة أو تلك، وكل فريق منهم يدعو الله أن ينصر احداهما ويخذل الأخرى».

وعن المشاعر الطائفية الكاسحة التي سيطرت على عديد العراقيين من السنة والشيعة نتيجة السياسات التركية والإيرانية، يقول الوردي: «لم يكن أهل العراق في ذلك الحين يعرفون شيئًا من المفاهيم السياسية كالوطنية أو القومية أو الاستقلال، بل كان جل ما يشغل بالهم هو الاحساس الديني المتمثل بالتعصب المذهبي. ومعنى هذا أنهم لم يكونوا يعتبرون الإيرانيين أو الأتراك أجانب هدفهم احتلال البلاد والانتفاع بخيراتها، إنما كان كل فريق منهم ينظر إلى الدولة التي تنتمي إلى مذهبه كأنها حامية الدين ومنقذة الرعية».

وقد اكتست هذه المشاعر بمسحة ظاهرة من الإيمان الخرافي. يقول الوردي: «وقد ظلت هذه النظرة سائدة بين العوام حتى عهد قريب، وكان من مظاهرها تقديسهم للمدفع المعروف باسم "طوب أبو خزامة" فهذا المدفع جاء به السلطان مراد الرابع لفتح بغداد ثم تركه فيها، وقد انثال العوام يتبركون به بعدئذ مع العلم أنه لم يكن سوى أداة من أدوات احتلال العراق واستعماره حسب مفاهيم العصر الحديث».


ولكن هل كان كل العراقيين على تلك الحالة من التماهي مع أيا من الطرفين العثماني أو الصفوي؟!.
الإجابة هي لا. فمن أهل العراق من رأى ذلك الصراع التركي الإيراني على بلاده حربا شريرة، لا تعود على وطنه بأي خير، أو تجلب له أي نفع، بل تلحق به الخراب الدائم، وتخلف فيه الدمار المستمر. وقد أرخ هذا الفريق رؤيته في مثل شعبي مشهور في العراق، هو: "بين العجم والروم بلوى ابتلينا". والعجم هم الفرس الإيرانيون، بينما كان اسم الروم يطلق على العثمانيين داخل الأوساط العربية.

وإذا كان ذلك المثل قد فقد جزءا كبيرا من حيويته طوال القرن العشرين، مع توقف الحرب التركية الإيرانية على العراق، على إثر انقضاض بريطانيا على الأخير، ونشوء الدولة القومية في بغداد، فإن الغزو الأمريكي للعراق والذي دمر تلك الدولة في العام 2003 وتركها في حالة واسعة من الفوضى، فرض على العراقيين معاينة أشباح التنافس العثماني الصفوي وهي تعود إلى بلادهم وتعيد إليهم ذكريات الزمن البعيد.
فبعد حادث الغزو، أبدى القادة في تركيا وإيران تحفزا للوثوب على العراق المنهار واقتطاع ما يراه كلا منهما حقا أصيلا له. سواء الشمال العراقي الغني بالنفط بالنسبة للأتراك. أو وسط العراق وجنوبه بالنسبة للإيرانيين، واللذان تنشط عبرهما الجماعات الشيعية العراقية المدعومة من طهران.

ومع تردي الأوضاع الأمنية في العراق أكثر مع ظهور تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش) العام 2014، فإن النزاعات التركية الإيرانية المكتومة على العراق بدت في أوجها، بل وعادت إلى نفس المنطق العثماني والصفوي القديم، الذي يخفي أطماع السياسة أسفل الدعاوى المذهبية. فقد نشطت الآلة الدعائية المؤيدة للوجود التركي في العراق لتصويره على أنه نصرة لأهل السنة والجماعة ضد النشاطات الإيرانية - الشيعية الواسعة البلاد. وردت وسائل الإعلام الإيرانية على ذلك بالقول بأن تركيا تمثل نمطا جديدا من الإسلام أطلقت عليه «الإسلام الأمريكي»، أي الذي تضع اشتراطاته الولايات المتحدة الأمريكية لتحقيق أغراضها في الشرق الأوسط. وبعد فترة من تبادل تلك الدعايات السوداء بين أنقرة وطهران، انتهى الأمر إلى رضى الطرفين بتحقيق لون من التوازن يضمن لكلا منهما تحقيق مكاسبه الخاصة. ففرضت إيران سيطرتها المعلنة أو المستترة على الحكومات العراقية والوضع الأمني في بغداد والجنوب العراقي، بينما وثقت تركيا علاقاتها بحكومة كردستان العراق في إربيل، مانحة نفسها امتيازات عالية مع تلك الأخيرة، حتى أصبحت تستورد منها النفط مباشرة دون العودة إلى قرار الحكومة المركزية في بغداد.

الآن، وبعد كل ما سبق، ألم يعد من الواجب على المواطن العراقي أن يزيح الغبار عن مثله الشعبي القديم: «بين العجم والروم بلوى ابتلينا"، وأن يبعث فيه الروح والحياة فيه من جديد، بعد أن عاد مبتليا بين الأتراك والإيرانيين؟!. ولكن شريطة أن يقحم عليه تعديلا تفرضه مستجدات العصر، يقول على أساسه: "بين العجم والروم والأمريكان بلوى ابتلينا».

---------------------------

المصدر

تقرير: جولة ترامب الخليجية تُعيد رسم خريطة الشرق الأوسط وتهمش إسرائيل


دراسة تحليلية: كيف يُهرَّب السلاح إلى الحوثيين في اليمن؟ الفاعلون والمسارات من 2014 حتى 2025


محادثات روسية أوكرانية مباشرة في إسطنبول: آمال حذرة بغياب بوتين وزيلينسكي


الحوثيون يلتزمون بوقف الهجمات على أمريكا ويستثنون إسرائيل: مستقبل غامض في البحر الأحمر